معركة قضائية جديدة ضد رشيدة داتي

عقد تعاون مع كارلوس غصن يهدد مسارها السياسي

هل الأمر مجرد محاولة لتلطيخ صورتها في أفق مشروع ترشحها للانتخابات الرئاسية الفرنسية القادمة؟

 

 

نشرت يومية «لوموند» الفرنسية، ضمن عددها ليوم الجمعة 11 شتنبر 2020، صفحتين كاملتين (ضمن باب «آفاق»)، لما يمكن تصنيفه ضمن خانة «المتابعة الصحفية لجنس التحقيق»، مخصص لوزيرة العدل الفرنسية الأسبق، المحامية حاليا، السيدة رشيدة داتي (المغربية الأصل)، بعد فتح تحقيق قضائي ضدها يشمل تعاونها مع الشركة الدولية لصناعة السيارات «رونو – نيسان» حين كان يديرها السيد كارلوس غصن، الهارب من متابعة قضائية كبيرة ضده بالعاصمة اليابانية طوكيو (وهو الهروب الهوليودي الذي أسال مدادا كثيرا منذ شهور).
الحقيقة، إن قراءة متأنية لذلك التحقيق الصحفي بيومية «لوموند» (الذي أنجزه كل من جيرارد دافي و فابريس لوم)، يقدم صورة فيها الكثير من علامات الدس ومنطق التشويش، باستعمال للقضاء، من أجل لربما فرملة الصعود السياسي للسيدة رشيدة داتي، التي تمة تقارير عدة تذهب في اتجاه أنه يتم تهييئها لخوض غمار الانتخابات الرئاسية القادمة بفرنسا، خاصة بعد النتائج اللافتة التي حصدتها أثناء الصراع الانتخابي على عمادة مدينة باريس، الذي آلت نتيجته إلى منافستها الاشتراكية السيدة هيدالغو. لكن ما سجل حينها هو ملامح القوة السياسية التي أبانت عنها رشيدة داتي، من موقعها كرئيسة منذ 2008، للدائرة السابعة بباريس، التي تعتبر واحدة من بين أقوى الدوائر الجماعية بالعاصمة الفرنسية وأغناها.
لابد من التذكير أن رشيدة داتي، كانت دوما حاضرة في عدد من القضايا المعروضة على القضاء الفرنسي، كطرف ضمن ملفات أكبر وأضخم، من بينها الملف المتعلق بمتابعة الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، الذي كانت هي الناطقة الرسمية لحملته الانتخابية في سنة 2007. وكما أكدت هي نفسها للصحفيين الفرنسيين من يومية «لوموند» يوم 30 ماي 2017، في لقاء خاص معها، ضمن مشروع إنجاز بورتريه حول شخصها، أنها عاشت تلك المرحلة ب «ألم دائم في البطن، يعتصر معدتها، ليس خوفا من أخطاء ما ارتكبتها، بل بسبب خوفها من نسج سيناريو للإساءة إليها، عبر تكييفات لا تعنيها هي في شيء واقعيا». لكن الخوف ذاك، سيتحول إلى حقيقة، في متابعة أخرى، انطلقت رسميا أطوارها في الصباح الباكر ليوم 22 أكتوبر 2019، حين دق بابها فريق قضائي مكون من ثلاث قضاة وثلاث ضباط شرطة من المكتب المركزي لمناهضة الرشوة والمخالفات المالية والضريبية، في الساعة السابعة والنصف صباحا، بطريقة اعتبرتها هوليودية مستفزة، تسببت في رعب لوحيدتها الصغيرة «الزهرة» البالغة 10 سنوات، وأيضا طريقة جمع العشرات من وثائقها الشخصية (التي ضمنها حتى فواتير البيت وحساباتها البنكية)، هي التي تقيم بشقة فخمة بشارع تور موبور، ما بين «شون مارس» والأنفاليد.
الأمر يتعلق بملف تعود أحداثه إلى سنة 2009، أي ملف قديم بعشر سنوات، لم يظهر إلى العلن سوى بعد سقوط رئيس شركة رونو – نيسان، السيد غصن في يد القضاء الياباني، حيث اتضح أن السيدة رشيدة داتي كانت لها علاقة مع مؤسسة هولندية فرعية تابعة لشركة رونو، كمستشارة وخبيرة، وأنها تلقت عن مهمتها تلك أموالا طائلة، بلغت ألف يورو لساعة عمل واحدة. لأن مما تشير إليه وثائق المتابعة (التي اطلع عليها الصحفيان بالمناسبة)، أن السيدة داتي قد تعاملت في تحرير عقد تعاونها مع شركة رونو مباشرة مع رئيسها العام السيد غصن، وأنها هي من حددت بالكامل شروط التعاون وكذا أتعابها الشهرية. حيث تمة وثيقة محررة بيوم 29 أكتوبر 2009، موجهة منها إلى الرئيس المدير العام لشركة السيارات الفرنسية والعالمية تلك، جاء فيها:
«تتمة لمناقشاتنا الأخيرة، فإنني أؤكد لكم تشرفي بالعمل إلى جانبكم ومساعدتكم ضمن سياستكم لتوسعة المستوى الدولي لمجموعتكم خاصة بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا». مضيفة أنها ستكون رهن إشارته للمشاركة ضمن اجتماعات دورية سواء معه هو شخصيا أو فريق من مساعديه ممن يحددهم لها سلفا، وأن تواصلها لن يكون سوى معه هو فقط لا غير. لتخلص إلى فقرة التعويضات المالية، التي اعتبرت أنه بغاية النجاح في القيام بمهامها بكامل المسؤولية والنجاعة، فإنها ترى أن التعويض الجزافي السنوي الذي من حقها الحصول عليه يصل إلى 300 ألف يورو بدون ضرائب، تحصل منها على 100 ألف يورو بدون ضرائب كتقديم، مباشرة بعد توقيع العقد معها. وأن مجموع ساعات العمل التي ستعمل خلالها معهم يصل إلى 300 ساعة، أي أنه حسابيا، فإن تعويضها يصل إلى 1000 يورو في الساعة. وهي الشروط التي وافق عليها السيد كارلوس غصن، رغم ملاحظات بعض مساعديه الذين اعتبروا تلك التعويضات كبيرة جدا. مع الإشارة أن موضوع التعاون والإتفاقية تلك لم يكن معلوما سوى عند الدائرة الضيقة المساعدة للسيد غصن.
قبل تحريك هذا الملف القضائي، لابد من الإشارة إلى أن السيدة رشيدة داتي، قد اختارت بسبب قوة القانون سنة 2019، الإبقاء على دورها كرئيسة للدائرة السابعة بباريس والتخلي عن منصبها بالبرلمان الأروبي بستراسبورغ، للتنافي الذي أصبح يلزم باختيار إما المسؤولية البرلمانية الأروبية أو المسؤولية السياسية الوطنية والمحلية. مثلما أنها ستؤدي القسم لممارسة المحاماة يوم 17 فبراير 2010. وهي المهنة التي ستكون واحدة من أسباب تحريك الملف القضائي الجديد ضدها، بسبب تبوث أنها مارست دورها كمحامية في علاقة مع شركة رونو نيسان، شهورا قبل التاريخ الرسمي لممارستها مهنة المحاماة، وأنها تلقت تعويضا ماليا سلم إليها عبر مكتب المحاماة الذي كانت مسجلة به (كمتدربة عمليا)، الذي هو مكتب الأستاذ دافيد دوباريانت، الذي احتفظ بتلك التعويضات حتى حصلت السيدة داتي على الصفة الرسمية للمحاماة.
جانب آخر كبير، يتعلق بنقط المتابعة القضائية التي تستهدفها حاليا، كما يشير إلى ذلك بتفصيل التحقيق الصحفي ليومية «لوموند»، يتحدد في طبيعة الخدمة التي قدمتها أصلا السيد داتي للشركة العالمية رونو – نيسان، التي تفيد الوثائق أنها لعبت ليس دور الإستشارة، بل دور «قوة ضغط»، كما خلصت إلى ذلك مؤسسة للتقصي المالي والضريبي. وأنه من ضمن المهام التي قامت بها، كما هو مدون في ملف وضعت عليه السلطة القضائية اليد في يوليوز 2019، ضمن بحثها في الملف القضائي الذي يستهدف السيد كارلوس غصن، والمعنون ب «ملف التعامل مع ر. د.» (أي ملف رشيدة داتي)، تنظيمها يوم 7 دجنبر 2010 لقاء لفائدة القيادة المركزية لتوظيف الشباب بأروبا، الذي تم فيه توجيه دعوة المشاركة والحضور إلى كبار رؤساء الشركات الفرنسية وكبار البرلمانيين الأروبيين. أي أن ما قامت به السيدة داتي قد فسر قضائيا على أنه دور تواصلي، لا علاقة له لا بمهامها كمحامية ولا بالمنصوص عليه في عقد التعاون مع شركة رونو (من خلال فرعها بهولندة) الذي يفيد بالقيام بدور الإستشارة والمساعدة على توسيع نشاط الشركة دوليا تجاه الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وأن كل ما سمح به ذلك اللقاء هو تمكين السيد غصن من لقاء شخصيات مؤثرة أروبيا من ضمنهم الإيطالي أنطونيو تاجاني (المقرب جدا من رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق بيرلوسكوني)، الذي عين منذ فبراير 2010 منسقا أروبيا للصناعات قبل أن يترأس في ما بعد البرلمان الأروبي في المرحلة ما بين 2017 و 2019. فالغاية كانت هي نسج علاقات مع شخصيات قوية ضمن صناعة القرار الاقتصادي والسياسي بالبرلمان الأروبي. فخلص القضاة إلى أن السيدة داتي قد تلقت تعويضا ماليا ليس لمرافقة الشركة الكبيرة تلك لصناعة السيارات في تطوير إشعاعها الخارجي بالعالم، بل فقط كوسيط ضمن شبكة ل «قوى الضغط» (لوبي). وأنه أكثر من ذلك، فإنها، وهي عضو بالبرلمان الأروبي حينها، قد ساهمت في جريمة فساد كعضو ضمن منظمة دولية عمومية.
على مستوى آخر، سيخلص البحث الذي باشره القضاء الفرنسي، إلى أن فرع شركة رونو – نيسان بهولندة، يطرح أكثر من علامة استفهام، كونه مجرد واجهة تشكل إطارا لتحقيق تعاون ومهام غير شفافة تماما مع مؤسسات وشخصيات لفائدة الإدارة العام للشركة، وأنه لا دور لها فعلي ضمن سلسلة الإنتاج. مما يعني أنها كانت واجهة لتبرير كل العقود التي هي على شاكلة عقد التعاون والاستشارة الموقع مع السيدة رشيدة داتي.
مما يؤكد عليه التحقيق الصحفي، في الختام، أن خلاصات القضاة حول المهام الخاصة التي كلفت بها شركة رونو السيد داتي تذهب في اتجاه اعتبار أن «قراءة وثائق الملف تعزز فرضية التكييف بالفساد المتعمد أو قوة التأثير والضغط». وأنه إذا كان السيد كارلوس غصن، من خلال محاميه الأستاذ جون إيف لوبورن، قد رفض التعليق على تلك الإتهامات وأن رأيه سيقوله للقضاء وليس لأحد غيره. فإن محامي السيدة داتي الأستاذ أوليفيي باردو، قد دافع بحماسة على موكلته مشككا في الحرب التي تستهدفها، حيث أكد للصحفيين الفرنسيين، أن السيدة داتي وقعت عقدا بتعويض جزافي مهما كانت طبيعة المهمة المكلفة بها أو أنها أنجزت كاملة أم لا، تبعا لطلبات الجهة التي وقعت معها ذلك العقد. وأن السيد غصن هو الذي سعى إلى طلب خدماتها وأنها ليست هي من بادرت إلى تقديمها له، وأنه لم يطلب منها أبدا إنجاز تقارير بل فقط حضور اجتماعات مع كبار مساعديه لتقديم الإستشارة والمشورة، بعد علمه بقرارها امتهان المحاماة. مشددا على أن العقد شفاف تماما، سواء من جهة الشركة في علاقتها مع المدققين الماليين أو من جهة السيدة داتي في علاقة مع الهيئة العليا للشفافية في الحياة العامة. وأن القضية كلها مفبركة من أجل التشويش على الوضع الإعتباري السياسي لموكلته، التي أصبح تنامي قوتها السياسية كسيدة مجتهدة ومقنعة يقلق البعض.


الكاتب : إعداد: لحسن العسبي

  

بتاريخ : 17/09/2020