معنى الحياة

أحسست بطاقة غريبة تنثال من عيون ما حدست بأنها تنظر إلي، حين رفعت بصري عن الأجندة المفتوحة أمامي، والتي كنت أدون فيها ملاحظات انطلاقا من مشاهداتي في المدينة الكبرى التي لم أزرها منذ أكثر من عامين، أي منذ انبثاق وباء كوفيد 19 وفيروسه القاتل بمتحوراته اللانهائية، حين رفعت بصري وجدت المرأة الجالسة في الطاولة المقابلة لطاولتي تنظر إلي بتركيز شديد، وحين تقاطعت نظراتنا ابتسمت كما يحدث لمضاءة يعمها ضوء الشمس فجأة وسط غابة ذات أشجار متشابكة ومعتمة. انتبهت إلى ساقيها الرخامتيين البيضاوين اللتين كانت تضع إحداهما على الأخرى. المرأة تلبس فستانا ذا لون فستقي يعلو قليلا فوق ركبتيها وقميصا أبيض تلوح من وراء نسيج ثوبه الشفاف تضاريس صدرها، راعني البياض الناصع لوجهها والذي كان يميل إلى صفرة باهتة. قد يعتقد المرء حين يراها بأنها إحدى زوجات دراكولا التي أتت هذا الصباح لمقهى الأوديسة خصيصا، لتقلب نظام الأشياء أو لتزعج العالم من حولها. انشغلت بهاتفي المحمول وحين رفعت عيناي ألفيتها واقفة بجواري، افترت شفتاها عن ابتسامة غامضة فلاحت أسنانها المنظمة، البيضاء والمدببة. هالني مجددا الامتقاع الذي يحتاج وجهها. قالت لي: [ألم تنتبه إلى أنه كلما صارت الهواتف المحمولة أكثر ذكاء كلما صار الناس أكثر غباء]. بدت لي من قد يعتقد المرء بأنها إحدى نساء دراكولا الطالعة من رواية تجري وقائعها في قصور وحدائق قوطية مرعبة، ذات ملامح جميلة ومتناسقة. طبعت قبلة مفاجئة على خدي، أحسست ببرودة شفتيها المضرجتين بحمرة قانية (حمرة إصبع الروج طبعا). أسنانها المدببة تلوح من بين شفتيها كإبر حقن قاتلة. استبد بي نوع من الاضطراب وألفيت بأن أصابع يداي ترتعشان. قالت: [ماذا كنت تكتب؟] قلت متلعثما: [أدون ملاحظات عن ما شاهدته هذا الصباح في كازابلانكا. بدا لي كما لو أنني أزورها لأول مرة بالرغم من أنني قضيت حوالي سبع سنوات مقيما فيما. لم أزرها منذ بدأ الوباء …]. قالت وهي تتفحص ملامح وجهي: [آه! الوباء … هكذا إذن !؟). تزايد اضطرابي وتفاقمت ارتعاشات يداي. أحسست بإرهاق وتعب شديدين يفرغان روحي فجأة من كل طاقة أو إرادة. المرأة تنظر إلى بعينيها الواسعتين ذاتي الحدقتين العسليتين، لكن بدا كما لو أن حمرة غامقة بدأت تجتاحهما. قالت المرأة: [لقد استيقظ الحيوان الخرافي الذي نام طويلا في الممرات والدهاليز تحت الأرضية المفتوحة أسفل المدينة، استيقظ بعد سبات دام مئات السنين. العتمات السفلية الرابضة أسفل هذه المدينة – المتاهة أسفل كازابلانكا ستطفح فوق السطح، سيعم الظلام كل أحيائها وحدائقها وحاناتها منازلها وشركاتها وإداراتها ومعاملها ومعالمها الآيلة للانقراض والخراب، وسيلزم الأشخاص أمثالك الصعود حتما إلى الدائرة العاشرة من الجحيم..]. قلت مقاطعا [كنت أعتقد بأن هناك فقط تسع دوائر..]. وجهت لي نظرات ماكرة، سحبت سيجارة مالبورولايت من علبتها، أشعلتها بطريقة سينمائية وقالت: [لا … هناك الدائرة العاشرة أيضاً وهي خاصة بأمثالك]. قلت مستغربا: (أمثالي !!). نظرت إلي بعينيها اللتين بدأت تكسوهما الحمرة تماما كما تكسو المويجات ساحل البحر، وأيقنت بأنها تقول الحقيقة. فكرت باستخفاف بأنها قد تكون مجرد ممثلة قادمة للتو من هوليود، نفثت المرأة دخان سيجارتها، وعوض سحب الدخان سرت في زوايا مقهى الأوديسة زخات ريح باردة كتلك التي تمخر الشواهد الرخامية في المقابر ليلا. تضاعف رعبي واكتفيت بالنظر إليها. قالت فجأة شبه صارخة في وجهي: (هل تسمعني؟(. قلت مضطربا وقد انحبست الأصوات في حلقي [أس.. اسمع ماذا؟]. قالت: [تسمع ما أقوله لك..]. قلت وأنا أحاول عبثا التحكم في ارتعاشات يدي: [نعم نعم..]. استرسلت المرأة في الحديث عن عالم المال والأعمال، قالت بأنها منذ سنوات كانت مسؤولة كبيرة في بنك معروف. قلت متلعثما: [ولكن سنك لا يوحي بذلك.. يبدو أنك بالكاد قد تجاوزت العشرين]. قالت: [وما أدراك بسني.. يجب أن تعرف بأنني عشت حيوات كثيرة قبل أن تراني هنا جالسة بجوارك]. قلت مستغربا: [حيوات كثيرة]. تذكرت حينها بأنها قد تكون ارتوت مثل زوجها المفترض من معين الخلود. لاحظت اضطرابي فقالت: [نحن عادة نعيش حيوات كثيرة]. تساءلت: [أنتم…من أنتم؟!]. قالت: [نحن الذين لا تطالهم أعطاب الحياة]. كانت جالسة أمامي واضعة ساقا فوق أخرى منحوتتان كقطعتي رخام أبيض. لاحظت تمعني فيهما. ابتسمت فلاحت أسنانها الناصعة البياض والمدببة كما في إشهار لمعجون تنظيف الأسنان، الأسنان ذات الرؤوس الحادة والقاطعة مثل أنياب ذئب. فكرت لحظة أو بالأحرى انخرطت دون وعي في أحلام اليقظة. قلت لنفسي: [من يدري قد يكون هناك كائن مفترس ثاو أسفل جلدها الناعم الشديد البياض، وحش دموي وحين يبلغ الشخص الذي يكون معها أوج الرعشة يخرج الوحش أنيابه ليحوله إلى مزق دامية. من يدري قد يكون الديدن الأساس لهذه المرأة الفاتنة والمرعبة تحقيق المتعة الدموية]. نظرت إلي وقالت: [يبدو أنه لا علاقة لك بعالم المال والأعمال]. قلت: [لا علاقة لي بهذا العالم.. لقد مارست التدريس لسنوات وأعيش الآن بمعاش تقاعد حدو قدو وما هو أهم بالنسبة لي هو الكتابة]. المرأة ما تني تنفث دخان سيجارتها على شكل زخات ريح شديدة البرودة تجمد العظام، مثل تلك التي تصفر وسط الأنقاض والخرائب والمقابر في منتصف الليل. سألت: [وهل اختبرت معنى الحياة بعد كل ما عشته، هل استطعت معرفة معنى الحياة عبر الكتابة]. قلت: [ازدادت حيرتي وتناسلت أسئلتي..]. نظرت إلي بعينين عمتهما حمرة غامقة وقالت: [أنت على ما يبدو إنسان نزيه]. قلت: [النزاهة هي نجمة القطب التي أضاءت حياتي، لذا زهدت في المناصب والألقاب]. حين جلت ببصري في أرجاء وزوايا مقهى الأوديسة ألفيتها فارغة تماما لا زبناء ولا نوادل ولا بارمان، الأعشاب الضارة العالية نبتت خلسة فوق أرضيتها الرخامية، ورأيت زواحف سامة تنسل عبرها. ألقيت نظرة عبر الواجهة الزجاجية فألفيت الظلام يعم الشارع الذي تخترقه سكة الطرامواي. هبت المرأة واقفة. صدرت عنها ضحكة مجلجلة جمدت عظامي. قالت بصوت أجش: [ألا ترى حقيقتي.. أنا في الأصل ملاك، ملاك سقط في عالم مدنس، ملاك بلا أجنحة]. قالت: [هيا نذهب الآن..] وأطبقت بيدها ذات الأصابع النحيلة الشبيهة بمخالب على يدي. سألتها مرعوبا: [إلى أين سنذهب… إلى أين؟]. قالت: [سنصعد إلى الدائرة العاشرة لنرى من الفوق كازابلانكا الأخرى. حين ترغب في رؤية مدينة تحترق فالأحسن رؤيتها من الفوق، هناك تكون النظرة بانورامية]. غادرنا مقهى الأوديسة وهي تجرني خلفها وسط حرائق وخرائب المدينة أو ما تبقى منها على الأقل.. استدارت نحوي وأنا أنسحب خلفها. نظرت إلي وقالت: [أحبك]. رسمت على شفتاي ابتسامة غامضة وتابعت السير خلفها….


الكاتب : مصطفى الحسناوي

  

بتاريخ : 09/06/2023