مع برهان غليون : علينا أن لا نخلط بين الوليد وماء الولادة

“عطب الذات… وقائع ثورة لم تكتمل” كتاب يواجه فيه الدكتور “برهان غليون” بجرأة الواقع الذي وصلت إليه الثورة السورية و دون خوف أو خطوط حمراء عما تعيشه الثورة في الوقت الحالي.
“برهان غليون” من أبرز الشخصيات الوطنية السورية المعارضة من مواليد مدينة حمص 1945، وعمل أستاذا لمادة علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون، ثم رئيسا لمركز دراسات الشرق المعاصر في ذات الجامعة، ثم عمل رئيساً للمجلس الوطني السوري.
حوار أجرته “بوابة سوريا” مع الدكتور “برهان غليون” للحديث عن كتابه وتطلعاته للحل في سوريا جاء فيه:

 

يثقل الوضع السوري اليوم نفوس كثير من السوريين بالهم، وبعد شهور من التفاؤل في 2011 يبدو مناخ من الشك والتشاؤم مخيماً في بضع الشهور الأخيرة حتى عند منحازين إلى الثورة ومشاركين فيها؟ ماذا تقول في ذلك؟ وهل تستطيع قول شيء عن مستقبل البلد القريب؟ وكيف تتخيل أن تكون سورية ما بعد الأسدية؟

أحد العوامل الرئيسية التي خلق هذا المناخ فشل المجتمع الدولي في مواجهة مسؤولياته تجاه حماية المدنيين وفرض احترام حقوق الشعب السوري الشرعية. والعامل الثاني ناجم عن تخبط المعارضة وانعدام اتساقها وغياب الخطط السياسية والعسكرية لدى المتصدين لقيادتها في الميدان العسكري وفي المجال السياسي. والعامل الثالث نجم عن تهويل الكثير من المثقفين والصحفيين بمخاطر انقطاع الدعم الدولي للثورة وخيانة العالم لها. والعامل الرابع كان وراءه التشكيك بمقدرة الثوار على الحسم عسكرياً من قبل هواة الحلول السياسية والمفاوضات، وضغوط الدول المستمرة من أجل دفع المعارضة إلى فتح طريق الحوار في الوقت الذي كانت الثورة تفتقر فيه للدعم الواسع، وكان النظام يشن فيه أكبر هجوم مضاد عسكري وإعلامي وسياسي، مدعوما بايران وروسيا، منذ بداية الثورة. وهذا ما أقلق الرأي العام وزرع الشك والخوق عند قطاعات واسعة منه.
والحال لم تكن هذه معنويات المقاتلين على الأرض. ولم يفقد هؤلاء في أي لحظة ثقتهم بأنهم المنتصرون. ونحن نرى كيف ذهب الهجوم المضاد الذي قام به النظام مع الريح، من دون أن يحقق أي كسب، بينما استعاد المقاتلون الثوار المبادرة على الأرض، وهم يحققون اليوم انتصارات باهرة في أكثر من موقع وجبهة، من الطبقة إلى دمشق ومن حلب إلى درعا.
أنا أعرف الظروف اللاإنسانية التي يعيشها الشعب اليوم. لكن لن يخدم التراجع عن الأهداف أو التشكيك في إمكانية الوصول إليها قضيته، ولن يخفف من معاناته، ولكنه سيزيدها لأنه سيطيل أمد الحرب. في مثل هذه المواجهة المصيرية بكل المعاني ينبغي على القادة أن يتحلوا بالكثير من رباطة الجأش والتصبر والتصميم على الانتصار. وإلا فإنهم يضعفون معنويات المقاتلين ويضرونهم بدل أن يخففوا المعاناة عن شعبهم.

ما الذي تقوله لنا الثورة السورية على المستوى الفكري؟ في بداية «الربيع العربي» بدا أن الثورات تؤكد نقد «الحداثة الرثة»، الذي كنت طليعياً فيه على المستوى العربي؟ اليوم مع صعود الإسلاميين بمحصلة الثورات، كيف ترى الأمر؟ هل من مراجعة لازمة؟

ما بني على باطل فهو باطل. وما نشهده اليوم هو الانهيار الشامل لبنيان الحداثة الرثة الذي بني على القهر والظلم والإقصاء والتمييز والعنصرية الاجتماعية والطائفية، وفي النهاية على الاستهتار بحياة الإنسان وحرياته وحقوقه وضميره. ولم يتخذ أحد القرار في هذا الانهيار. جاء من تلقاء نفسه لأنه لا يمكن أن يستمر، ولم يعد هناك إمكانية لا نفسية ولا سياسية ولا اقتصادية ولا حتى أمنية كي يعيد إنتاجه لصالح حفنة من القتلة والفاسدين وعديمي الوطنية والأخلاق.
لكن مضمون الثورة التي نشهدها اليوم ليس الرد على مشروع الحداثة الرثة بكليته. لا تزال هناك أوهام كثيرة علينا التخلص منها حتى ندخل في الحداثة الحق، أي العاملة على تحرر الإنسان وتكريمه. ما نعيشه هو سعي الشعب اليائس في انتزاع ملكية وطنه التي انتزعت منه، واستعادته كوطن يضمن له الحقوق والحماية القانونية، بعد أن تحول إلى ملكية خاصة ومزرعة إقطاعية، وحول الناس الأحرار فيه إلى أقنان بالمعنى الحرفي للكلمة تلحقهم الطغمة المتسيدة بالقهر والعنف بالأرض والدولة وتسخرهم لخدمة أغراضها الخاصة، مستهينة بحقوقهم ومستهترة بحياتهم وأرواحهم ومدمرة لمعنوياتهم ولهويتهم الأدمية. هؤلاء الرجال والنساء الذين ينزلون إلى الشوارع مخاطرين بحياتهم، وأولئك الشباب والشابات الذين حملوا السلاح ووضعوا أرواحهم على أكفهم، واستشهدوا بالآلاف، لا يريدون خبزاً ولا أجراً ولا مجداً. إنهم يريدون وطنا يضمهم ويحميهم وهوية توحدهم وتقرب فيما بينهم، يريدون دولة ترعى مصالحهم، يريدون قانوناً يحمي ضعفاءهم، يريدون حكومة تسأل عنهم، يريدون قادة منهم يمونون عليهم ويسمعونهم ويطيعونهم عن طيب خاطر. يريدون أن يعيشوا بكرامتهم وأن يتعامل بعضهم مع البعض كرجال ونساء أحرار ، متساوين، لا يخضع أحد احداً، ولا يذل مواطن أخيه أو يظلمه او يغشه.
لكن غاية الثورات لا تبلغ مباشرة ولا دفعة واحدة. تمر بالضرورة بتعاريج ومطبات ومآزق. هكذا لم يكن من الممكن التحرر من طغيان النظام العنصري الراهن من دون خلق مشاكل جديدة لا يكاد المرء يتصور مقدار ما سيعانيه الشعب كي يجد الحلول المناسبة لها قبل ان يحقق أهدافه ويبلغ مبتغاه. منها مشكلة إعادة بناء الدولة التي أغرقها النظام معه، ومنها إعادة الإعمار لبلد تحول إلى خرائب مادية وإنسانية، ومنها مشكلة بروز قوى جديدة تتحدى قيم الثورة المحركة ذاتها في الحرية والكرامة وتسعى إلى فرض قيم أخرى مضادة لها.
لكن هذا مجرد معبر إجباري للوصول إلى الغاية الرئيسية. وعلينا أن لا نخلط بين الوليد وماء الولادة. لنرجع إلى تاريخ الثورات، لننظر كيف كان الطريق متعرجاً وطويلاً في الثورة الفرنسية الذي لم يصل فيها الشعب إلى غايته إلا بعد أكثر من قرن من المعارك السياسية والاجتماعية والفكرية الطاحنة. لكن من دون هذه الثورة ما كان هناك جمهورية ولا شعب بحقوق سيادية متساوية ولا وطن ولا تقدم حضاري. فما نشهده هو ثمرة تحرر الفرد وتكريم ذات الإنسان.
لا تتغير النظم والمجتمعات بلمحة بصر، لأن ثقل التاريخ والعادات وصراع المصالح وتضارب البنيات والهويات يجعل من المستحيل التقدم بصورة خطية بسيطة، ويفرض المرور بمعارك متنوعة ومتوازية أحياناً لايصال التاريخ إلى غايته. المهم أن لا يغيب الهدف عن نظرنا وان لا نفقد الإيمان بالمثل التي حركتنا ودفعتنا إلى تحمل هذه التضحيات الهائلة. ومهما حصل، لن تذهب دماء الشهداء هباءً. سوف تزهر وتعمر الأرض، وتجعل من سورية الوطن الذي يتطلع إليه السوريون بالتأكيد.


الكاتب : حاوره: أنس الخطيب

  

بتاريخ : 26/06/2020