لازمت الأوبئة كظاهرة اجتماعية مرضية وضرورة حتمية واقتران استثنائي بتاريخ المغرب، فاختلفت طبيعة العدوى الوبائية، وتنوعت أعراضها ودرجة حدتها واتساع رقعة انتشارها ومخلفاتها البشرية، بسبب الجفاف المتواصل والجذب
الحاد والقحط الشديد.
فمنذ قرون عديدة، وكلمة “الوباء” أو “الطاعون” أو “الجائحة” تثير الرّعب في الناس، تقشعر لها الأبدان، وتضيق أمامها النفوس؛ لأنها، ببساطة، صارت في ذهنية المغاربة مرادفًا لفقدان الأهل وللخوف الرّهيب من الموت، إذ تكفي الإصابة به ليَعدّ المصاب نفسه ممن سيلتحقون بطوابير الموتى الملتحقين زمرا إلى العالم الأخروي. هذه النّظرية التي جاء العلم ليفندها ويثبت أنه يمكن التّشافي من الطاعون والعيش بعده طويلًا لنقل الحكايات عنه لمن لم يعرفوه أو يدركوه.
في هذه الحلقات نرصدبرفقتكم محطات من “اوبئة” ضربت بلاد المغرب، فخلفت ضحايا في الخلف من إنس وحيوان٠
ويورد الطبيب كراندورج في مذكراته بأن التيفوس عاث في المغرب الشرقي في بداية 1914 وخلف أوضاعا صحية مزرية لدى الجيوش والطيارين المطاردين والسكان.
وبعد ست سنوات سيعاود وباء التيفوس اكتساح أطراف البلاد، انطلاقا من تازة، فظهرت بعض الحالات خلال شهر دجنبر 1920 في سجن الكتانيين وباب دكالة بفاس. وفي شتاء 1921، انتشر في بعض الأوراش في بور ليوطي (القنيطرة)، ليبلغ أوجه في شهر فبراير وأيضا في فصل الصيف في أوساط العمال المشتغلين بأوراش تعبيد الطرق وسجناء الدار البيضاء. ولم يستثن الوباء بعض الأطباء الذين عملوا على محاربته؛ ومن بينهم أوكيي ، ، بويس وبولان وأيضا الممرضة فرونتو . وفي هذا الصدد كتب دانييل ريفي: “وفي الثلث الأول من القرن الـ20 م، أضحى التيفوس الآفة الأكثر رعبا، فعدد الضحايا التي خلفها، هي دون شك أقل جسامة من التي أحدثها الطاعون”، حسب دانييل ريفي الذي كتب عن الطب الاستعماري: أداة استبدادية متسامحة لمراقبة السكان
وخلال سنة 1927 ونتيجة للجفاف، خصوصا في منطقة الجنوب والذي تسبب في “مسغبة شهباء بلغت فيها المجاعة بسوس أقساها ومات فيها خلق كثير” سيظهر داء التيفوس مجددا، مسجلا 6512 حالة في الفترة الممتدة ما بين نهاية 1926 و1928. وهنا يشير رويان إلى أن الوباء أودى بحياة أحد أشهر الأطباء في فبراير 1928، ويتعلق الأمر ببول شاتنيير ، الذي ترك رسالة لصديقه قبل وفاته بعشرة أيام، جاء فيها: “لقد قرصني التيفوس هذه المرة، وكنت أنتظر ذلك بعض الشيء، وعلى الرغم مما كنت اتخذته من احتياطات، وهي كثيرة، فقد كان من الصعب ألا تتعلق بي قملة تحمل المرض… إني وزوجتي نترقب كل الاحتمالات… أطلب منك كصديق أن تهتم بأهلي وأقاربي…”.
وحسب ذات الباحث فستعرف الفترة الفاصلة بين 1937 و1945 مرحلة ثانية، سيحل فيها وباء التيفوس في كَرتين؛ الأولى كانت خلال سنتي 1937 و1938، وقد أطلق روني كاليسو على 1937 “سنة الجوع”، فانتشر الوباء بوتيرة سريعة، مخلفا مئات المصابين والموتى في صفوف المغاربة بنسبة أكبر، حيث بلغ عدد الإصابات بمدينة مراكش لوحدها يوم 21 دجنبر 1937، 437 حالة، ضمنها 54 وفاة في أوساط المغاربة. أما بالنسبة للأوروبيين فسجلت 19 إصابة، من بينها وفاة واحدة.
إلى جانب مراكش، استشرى وباء التيفوس بمدينة الدار البيضاء في شهر دجنبر 1937 واستمر إلى غاية يونيو 1938، ومنها انتشر في محيطها، خصوصا منطقة الشاوية ودكالة. وقدر كاليسو 10 آلاف حالة إصابة بالتيفوس خلال هاتين السنتين.
أما الكرة الثانية، فكانت خلال فترة الحرب العالمية الثانية ورافقها تفاقم أزمة غذائية وصحية عميقة “ولعبت مجاعة 1945 دورا تكميليا في هذا الاتجاه، فهيأت المغاربة جسميا لاستقبال مزيد من عبث التيفوس وفتكه”.
ومن بين أكثر المناطق التي سجلت حالات كثيرة، نجد منطقة تازة بـ176 حالة خلال سنة 1940. وفي سنة 1941، اشتدت وطأة الوباء ليبلغ مجموع الحالات 1666 بغرب المغرب وشرقه كما حصل سنة 1921. وخلال 1943، ارتفع عدد المصابين أكثر من السنة السابقة بنسبة 60 في المائة، ليبلغ 16 ألفا و190 حالة. ليتراجع خلال السنة الموالية إلى 3 آلاف و61 حالة، حسب إحصاء إدارة الصحة العمومية. ثم يعود بقوة خلال سنة 1945، والتي كانت من أقسى سنوات الجوع والبؤس والوهن، فبلغ عدد الإصابات 8 آلاف و158 حالة، تفرقت بين جل المناطق، كان أكثرها تضررا منطقة الشاوية ثم مراكش.