ملاحظات على سِفْر العبور «دفتر العابر» أو حين زُيّن لياسين عدنان السفر

تُعلّمنا الحياة أنّ كل فعل هو في جوهره هدفٌ لغايةٍ ما. وتُؤكد لنا العلوم الإنسانية ذلك، بل وتذهب أبعد في قولها إن كل ما يصدر من الشخص، حتى في نومه من أحلام، وأفعاله اللاإرادية هو في الواقع للتعبير عن أمور أخرى، قد تكون أحيانا كثيرة لا تُشبه الفعل، أو حتى عكس معناه. وهذا يطرح مشكلة التأويل. لكن الهدف، هنا، هو تأويل النص الأدبي تحديدا.
فالكتابة فعل إرادي، ولا يقوم به الكاتب إلا بعد تفكير وتعديل وتصحيح… إذن فحين يُقدّم لنا هذا الأخير نصا أدبيا، فهو يريد قول شيء ما من خلاله. (أتحدث عن الكاتب الجيد طبعا). وأول سؤال ينبغي على القارئ أن يفكر به هو: ما الذي يودّ الكاتب قوله؟ ما الأمر أو الموضوع الذي يحاول التعبير عنه من خلال نصه؟ ولماذا؟
لذلك، حين أقرأ «دفتر العابر» لياسين عدنان مثلا، يُطرح عندي سؤال أساسي، هو: لماذا يحكي لنا ياسين عن رحلاته لعدة دول؟ ولماذا البلدان «الغربية» تحديدا؟ ولماذا يحدثنا عن لقاءاته مع عدة نساء؟ ولماذا يعبِّر بهذا الأسلوب؟ .. إذ ليس من المنطقي أن يكون ياسين عدنان قد كتب الديوان فقط كي يحكي لنا عن رحلاته. ثم لماذا دوّن هذه الأسفار على شكل ديوان وليس على شكل رحلة أو يوميات سفر مثلا على غرار العديد من الإصدارات من هذا النوع التي تُنشر في العادة سرودًا لا أشعارًا؟
وحين قرأت الكتاب النقدي «الفضاء الرحلي السيرذاتي في قصيدة النثر، معمارية التشكيل الملحمي في (دفتر العابر) لياسين عدنان» للناقد العراقي محمد صابر عبيد، كنتُ أنتظر أن أفهم بعض الأمور التي أثارت لدي تساؤلات في الديوان، أو أجوبة عن الأسئلة الكثيرة التي كانت تراودني وأنا أقرأه. لكن هذا الكتاب النقدي الممتع والمفيد بكل تأكيد إنما جعل أسئلتي تتوالد وتتناسل وتزيد! وسأحاول هنا طرح بعضها على شكل نقط، بالاعتماد فقط على كتاب الناقد، دون العودة إلى الديوان إلا في حالة الضرورة لتوضيح المعنى والهدف.
في عتبات التصدير، هناك الآية التالية: «يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا، لا تنفذون إلا بسلطان» يُقارب الناقد هذه الآية عن طريق شرح معاني العبارات وشروط النفاذ أو السفر… لكن، هل يكفي شرح الآية القرآنية لفهم مغزى اختيارها من طرف ياسين عدنان؟ ثم أليس اختيار آية هو في جوهره نوع من التوجّه إلى فكر معين؟ إلى معنى أبعد من كون الآية تتحدّث عن السفر. وإلا فهناك الكثير من العبارات والمقاطع الشعرية التي تفعل. فلماذا اختار ياسين آية قرآنية؟ أكيد أن الأمر ليس مجانيا؟ خصوصًا وأنه يتوجّه إلى «وعي جمعي»، وبالتالي إلى معنى آخر مُتضمَّن، وليس فقط لأنها تتحدث عن السفر حسب شرح الناقد.
وعن الإهداء الذي خصصه ياسين عدنان إلى شقيقه طه عدنان «إلى طه، اخترتَ الهجرة، وزُيِّنَ لي السفر». يشرح الناقد محمد صابر عبيد: « ولولا هجرة طه السابقة لما زُين السفر اللاحق له، ولما اكترث به على النحو الذي شيَّدَته الجملة الثانية القائمة كليا على الجملة الأولى، إذ لا بدّ أنّ حدوث فعل التزيين هذا تأتّى من جمال حديث الهجرة على النحو الذي يحرّض على السفر ويغري به. فالتماسك الحاصل بين الجملتين المتعاطفتين هو ما يجعل الرصد الدلالي لإحداهما متعلقا بالأخرى على نحو تفاعلي متبادل.»
ولا أفهم هنا كيف تحوّلت واو العطف إلى فاء السّببية؟ وماذا لو أن ياسين كتب الإهداء على الشكل التالي: إلى طه، زُيِّن لي السفر واخترتَ الهجرة؟ فهل سيكون المعنى أن طه هاجر احتجاجا على سفر ياسين المتكرر؟! هذا ونحن لا نعثر في الديوان على بروكسل العاصمة الأوروبية التي يقيم فيها طه إلا كمحطة صغيرة. أما التماسك الذي يشير إليه الناقد، فهو بين الإخوة التوأم طه وياسين، اللذان لا تجمعهما صلة الدم فقط، بل أيضا نفس الاهتمامات وفعل الكتابة والتوجهات…
في الصفحة 63 من الكتاب يورد الناقد هذا المقطع من ديوان «دفتر العابر»: «كنتَ تشتهي السفر / فتنبح في ذاكرتكَ / الكلاب». ويشرح بما يلي: وما النباح سوى التذكير بخبرة السفر السابقة بما فيها من تفاصيل وجزئيات ومواقف ومقامات وقيم وأفكار، لتكون على أهبة الاستعداد في تموين التجربة الرِّحلية الجديدة بمعلومات تُسهِّل فاعلية المسافر، وتجعل من إيقاع نباح الكلاب جرس تنبيه وإنذار لارتياد تفاصيل محمية وآمنة.
مع أن المقطع الذي يليه مباشرة هو مقطع طويل كله عن الكلاب التي تنبح، وسأورده هنا فقط لتبيان المعنى:
«في الطرُقِ البَعيدةِ نتذكَّرُ الكلابْ
كلابَ الطفولةِ
كلابَ القُرى الموحِشَهْ
كلابَ محطة القطَار
كلابَ الليلِ حينَ نُسافرُ في الليل
كلابَ الصَّيفِ والصيفُ جَفاف
كلابَ الفُصولِ القاسيهْ
وكلابَ النهار
كبرنا
تشابَكتِ الطُّرُقُ والمفَازات
والخرائطُ صارتْ أوسَعَ ممَّا في خَيالِ الطفولةِ
أما الكِلابُ
فنبتَتْ في كل مكانْ
كِلابٌ على الأعْمدةِ
كلابٌ على الجُدرانْ
كلابٌ في المرايا، كلابٌ في النوايا
كلابٌ مُصفَّفةٌ بعنايةٍ على رَفٍّ صبُور
كلابٌ هشَّة كالزجاج
كلابٌ بأنْيابٍ كالسكاكين، كلابٌ سكاكينٌ
كلابٌ سِهامُ غدْرٍ
كلابٌ أبوابْ
كلابٌ تتعَلَّقُ بالأهْدَابْ
كلابٌ
تهطلُ مع مَطرِ الصَّيف
كلابٌ ترطُنُ بفُصْحى مُكسَّرة
كلابُ أضرحةٍ
تنامُ في توابيتَ زجاجيةٍ
وتصْحُو
قبْل أن يصْحُوَ الصباحْ
كلابٌ تنبَحُ في الجرائدِ
وعلى الأرصِفَةَ
كلابٌ تهُشُّ على الأحْلامَ
كلابٌ في الصَّفِّ
كلابٌ في الخَلْفِ
كلابٌ
في إثْرِ كلابْ
كلابٌ تنبَحُ على النَّزواتِ الصغيرةِ
كلابٌ بمخالِبَ وأنيابْ
كلابٌ مُقدَّسَةٌ، هكذَا تزعُمُ
كلابٌ تتَنكرُ في هيئةِ ملائكةٍ، لكنَّها كلابْ
كلابٌ تنبَحُ جِهاراً، وأخرى في السر
كلابٌ تقطعُ الطرُقَ، وأخرى
تأكلُ الأكبادْ
كلابٌ تنبحُ على قيلولةِ المتعَبين
وكلابٌ على لمعَةِ الضوءِ
تنبَحُ
على الماءِ الصَّغيرِ
وطفُولةِ الأحْلام
في الطُّرق البعيدةِ نتذكرُ الكلابّْ
فنتفقَّدُ القصائدَ
المخِيطَة تحتَ جُلودِنا
نتفقَّدُ الريشَ، دُعاءَ الرِّحلةِ، التعويذةَ
ونُنادِي أحْبابَنا
الشعراءْ

ككلْبٍ عجُوزٍ، كان المحرِّكُ المتعَبُ يلهثُ في حافلة الجنُوب التي عبرت المتوسِّطَ باتجاه غِبْطة الجغرافيا هناك.»
من الواضح أن الكلاب هنا، هي «كلاب» غاضبة من كل شيء… وتتخذ لها أشكالا متنوعة حتى أنها تنكر كونها «كلابا» بالرغم من نباحها الشديد والعدواني تجاه كل مختلف عنها. واختزال هذا الحضور القوي للكلاب في تفسير أنّ «نباح الكلاب جرس تنبيه وإنذار لارتياد تفاصيل محمية وآمنة» غير مفهوم، ويحيلنا إلى كلاب حراسة حقيقية… هذا مع التأكيد على أن «دفتر العابر مليء بالكلاب» وهذا ما يؤكده الناقد، حتى أن القارئ يحس أنها في كل مرة تتّخذ معان مختلفة.
والسؤال هنا، هل يجوز شرح النباح من مقطع صغير، دون الانتباه إلى المقاطع الأخرى؟ وألا يُضعف ذلك فهمَ القارئ؟ أو يضيء له فهما معينا خاصا فقط؟ خصوصا أن «الكلاب تتنكر في هيئة ملائكة، لكنها كلاب»، وهي تنبح على «قيلولة المتعبين» و»طفولة الأحلام»…
أما الفقرة التي يتحدث فيها الشاعر ياسين عدنان عن إحدى القضايا التي تعرف الكثير من الجدل في العالم، ومن اختلاف الرؤى، وهي: «هناك التقيتُكِ روسانا: هل كنتِ كرواتية؟ أم قلتِ أوكرانية؟ أمّا أنا فمن القدس، هكذا زعمتُ. كنتُ أفكر في محمود درويش. متحمسا للحديث عن فلسطين حتى مطلع الفجر. لكن روسانا باغتتني: أكره العرب، وأحبكم أنتم اليهود. (أفلم أقل من القدس؟) لأنكم ماهرون في الطب والرياضيات. وأضافت البنت ذات الكذا والعشرين أن في الطابق العلوي من الحانة مجلسا حميميا يطلّ على الراين. حقُّها هي 150 فرنكا. وحق المحل زجاجة شمبانيا بـ 150 أخرى. وأضافت روسانا: أتعاطف مع اليهود وأحببت ابتسامتك ولن أعاملك كزبون. وحين تردّدتُ شجّعَتْني: الأهم شمبانيا المحل، أما أنا فليّنة ويمكنني التفاوض. لم يكن في جيبي أكثر من 120 فرنكا سويسريا وعشرة أوروهات. هكذا ضيّعتُ يا روني سوميك فرصة الإبحار كيهودي مزيّف في لحم الشمال؟ فاتني أن أرشف ماء التعاطف الزلال مع «مأساة شعبك المسكين» من شفتي روسانا النديتين»
ويُعرّفنا ياسين عدنان في الهامش على روني سوميك بأنه شاعر يهودي من أصل عراقي. كي يفاجئنا الناقد بقوله: «… ربما جاءت قصة الفلسطيني واليهودي عابرة لكنها تترك خلفها علامة شعرية تعيد إنتاج المفاهيم على نحو ما.» وكأن الشاعر كتب الفقرة هذه كلها مع التعريف سهوا فقط! دون أيّ شرح لمدى التباين في وجهات النظر في الفقرة، واختلاف المواقف، واختلاف التسميات، والكراهية (أكره العرب)، وعدم الاعتراض على التباس الأمر على الفتاة الأوروبية التي تتصوّر أن كل مقدسي هو يهودي بالضرورة، وهو حضور لليهودي في القصيدة قد يفهم منه عمومًا نوع من الاحترام، وانفتاح على الآخر، مع محاولة معرفة رؤيته وكيفية تعامله مع الغير… وكل ما يمكن فهمه من هذه الفقرة يعتبرها الناقد «جاءت عابرة»! في حين أن الفقرة مثقلة بالدلالات التي تستدعي نقاشا عميقا، بل حتى سهو الشاعر عن كون الفتاة كرواتية أم أوكرانية، يمكن جعله مقابلا عن القدس / اليهود… ربما.
«كنا نيبَسُ على مهل
نيبس الهوينى
ونفكّر في الأندلس»
يفسر لنا محمد صابر عبيد: «إذ إن صراع الأمكنة في خاطر الشخصية بضميرها الجمعي يعيد إنتاج الحلم ويسخِّره في خدمة جدل العلاقة بين الشخصية والمكان، (…) من دون أن تتجرد العلاقة الجدلية بين المكان والشخصية من حلمها الرحلي التاريخي في استعادة المفقود.»
والسؤال هنا: فعل يبس يدل على الجفاف، على عدم الإثمار والعطاء… فلماذا لا يتم تفسير المقطع على أننا نيبس ولا ننتج أي شيء سوى البكاء على الأطلال؟ أمّا الفقرة: «لكن الدنمركي الطيب يركن دراجته أمام مدخل العمارة ويتسلل إلى المصعد خفيفا كغيمة بيضاء. سلالم الدرج من عهن. كأنك تصعد باتجاه حلمك أيها الهارب من برد الشارع وبرد الآخرين» فيشرحها الناقد: «تظل عدسة كاميرا الأنا الراوي تلاحق حركة الآخر الدنمركي داخل إطار صورة حيادية على مستوى جدل العلاقة بين الطرفين» ولكن، أليست عبارات مثل: الطيب / خفيفا / غيمة بيضاء / الهارب من… توحي بعدم الحيادية؟ بل إنها تفصح عن إعجاب بالشخصية ونشاطها وطيبتها.
«في ألمونيكار، كلمة البحر لم تكن تعني البحر لأستاذة الكيمياء. كان سالفادور Salvador يقرأ (مائة عام من العزلة) في الشرفة صباحا، ظهرا، ساعة المقيل، وفي الليل. وكنتُ رفقة مانوليتا Manolita، صديقته الغرناطية، ننزل نهارا إلى البحر، وليلا نخرج إلى فرح الحانات. أساتذة الكيمياء لا يغارون من الموج والنبيذ. لكن سالفادور لم يكن يفهم لماذا يتسكع الشعراء طوال الوقت ونادرا ما يقرأون: «أنا لا أعنيك أنت. فحتى في إسبانيا الشعراء اليوم لا يقرأون. لا بأس. فقط لو يقفلوا أفواههم قليلا ويكفّوا عن الثرثرة بلا مناسبة حول مستقبل الكون ومصير الوجود.»
ثم يواصل الشاعر بوْحَه:
«لم أكن مهتما لمصير أحد
كنتُ فقط أغطس قدمَيْ غرناطة
في الموج
أغسل ساقيها المرمريتين
عند شاطئ ألمونيكار
وأحرس القلعة العتيقة من حوافر الخيول
وأقمار الشعراء
غرناطة السر
لن أبوح، لن أبوح»

يعرّف ياسين «ألمونيكار» بأنها بلدة على الساحل الأندلسي تبعد عن غرناطة بأربعين ميلا بها قلعة عتيقة بناها أمراء من أحفاد عبد الرحمان الداخل. أما الناقد محمد صابر عبيد فيشرح لنا الفقرة بأن الراوي الذاتي الشعري ما يلبث أن ينحاز لمهمته الرحلية والاستئثار بغرناطة التاريخ والحلم والمغزى والألم كي يتفرّغ لحراستها والعناية بجمالها. ويتجلى المشهد الشعري بمعنى خاص للصفة «العتيقة» إمعانا في تشديد قيمتها الدينية والحضارية الضاربة في العتاقة والأهمية، وانفتاحا على المحيط الشعري بقوة احتواء ضاربة في أرض الحلم، وقادرة على الإسهام الظلي في بناء أفق المشهد، وبأن «غرناطة» تحتل موقع المركز في تشكيل المشهد فهي الهدف والمقصد والمحور الشعري الذي تشتغل عليه الذات الشعرية الراوية.
لكن، ألا تكون «غرناطة» في المقطع الشعري، لا تعني المدينة، بل تعني الصديقة الغرناطية في الفقرة التي تسبق المقطع؟ فلماذا إذن يؤكد الشاعر أن أساتذة الكيمياء لا يغارون من الموج والنبيذ؟ وأيّ سرٍّ لن يبوح به الشاعر بعد أن عرفنا المكان (عند شاطئ ألمونيكار) وتحديدا (أحرس القلعة العتيقة من حوافر الخيول…) والفعل (كنتُ فقط أغطس قدمَيْ غرناطة في الموج أغسل ساقَيْها المرمريتين).
وأخيرا، ألا تكون صفة العابر لا تعني السفر من مكان إلى آخر، ولا الترحال من فكرة إلى أخرى، ولا الحالات العاطفية، والنفسية والاجتماعية… بل تعني حالة الوجود في الحياة؟ وجود الشاعر في الحياة هو عبور في حد ذاته؟ مجرّد عبور في الحقيقة؟ وبهذا لا يمكن للدفتر إلا أن يكون دفترا، لأن ياسين لا يزال عابرا، وهو على قيد الحياة… وقد جاء في آخر الديوان:
«أهذا كتابُكَ؟
أين يمينك إذن؟
أهذا كتابك؟
اتلُهُ غيبا»
والناقد يشرح ذلك بالآية: «فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه. إني ظننت أني مُلاقٍ حسابيه. فهو في عيشة راضية. في جنة عالية. قطوفها دانية»
بل إنّ ياسين عدنان يؤكّد لنا منذ الصفحة الأولى للديوان:
«كانت طريقي إلى الله شاقّة
مليئة بالمطبّات»
وكأنّ الشاعر يحاول أن يطيل عبوره بالسفر والتعرف على عادات وأفكار وحالات كثيرة ومتعددة فهو يعترف:
«عمر واحد لا يكفي
أيتها الأسفار
(…)
أحتاج أعمارا مجنحة
كي أحلق في الأعالي
بين السماء وبروجها
بين المدن وأطيافها»
بل إنه لا يكتفي بالسفر والتعرف لإطالة فترة العبور، بل يحاول تقمُّص أشخاص وأشياء أخرى، كي يزيد من حالة الشعور بالحياة. لكي يتجذر في الحياة. لكي ينغرس في زمنه. في المكان والزمان. هذا عبور راسخ إذن. عبور متجدّد. متحوّل. متمدِّد في الزمن. يقول ياسين عدنان:
«في باريس
كنتُ نبيلا ذا شعر أشقر
أدعى الكونت دو (لا أذكر ماذا)
في بروكسل
عازف قيتار في ميترو الأنفاق
في قرطبة كنتُ روضا
ثم نافورة
في دارة قديمة بغرناطة
وفي إيسلندا
تصاعَدْتُ أعمدة من رماد
كنتُ البركان يهز نهر الجليد»
أما البنت التي تغنّي بوب ديلان، فإنها «تطرق باب الجنة وتعيد. وتعزف. تطرق وتغني» والشاعر يبدو مهتما جدا بأمرها. فهو يطمئن لوجودها من وقت لآخر «فالبنت في الزقاق المجاور ما زالت تغني بوب ديلان» وفي نفس الصفحة (179) «والبنت في الزقاق المجاور ما زلت تغني بوب ديلان». لكنها رحلت أخيرا «البنت التي كانت تغني بوب ديلان / رحلت / أبواب الجنة موصدة في ما يبدو».
ومن الأكيد أن الشاعر لم يختر هذه الأغنية اعتباطا. فهي تناسب بشكل واضح بعض معاني ديوانه، لذلك فإن سؤال الشاعر «كم الساعة الآن… بوكوفسكي (لطفًا) كم الساعة الآن؟» لم يأت إلا للتأكيد على أهمية الوقت الذي يعني الحياة… وهو يؤكد شعوره بالانزعاج من تسرُّب الزمن في صالات الترانزيت «ولا بالوقت الذي يخرج لنا لسانه / شامتا / في غفلة من مدرسي التاريخ»
ثم، ألا يكون التشبيه بين صالات الترانزيت و»العبور» ممكنا؟
وهذا ما يفسر كون الشاعر يتحدث عن نفسه في الديوان، وعن أشخاص وأسماء وأمور حقيقية، كأنه يؤكد فعل الحياة. وهو ما يشرح لنا أيضا انعدام حضور الدول العربية في الديوان، مع أن ياسين عدنان زارها كلها ربما. وهو أن الحديث عنها سيأخذ السياق إلى ظروف الدول من حروب ومآسي ومشاكل تُبعد عن فعل الحياة والاستمتاع بها… حتى في أبسط أمورها. وقد نفهم ذلك من «أورورا الصغيرة التي لا تفهم لم يحتاج الأمر كل هذا الجدال العاقل مساء سبتٍ ثملٍ في حانةٍ على البحر.» فتهرب «بعيدا إلى ساحة دمشق حيث الصبايا في سنّها يكرعن البيرة مع رفاق جسورين كمصارعي الثيران ويغنين كما اتفق دون أن يدققن كثيرا في الفرق بين إسبانية الإسبان ولهجات الآخرين». بل ويعطينا نماذج كثيرة من أشخاص يتصرفون بعفوية ونشاط، دون كل تلك القيود الاجتماعية الكاذبة في أغلبها الموجودة بكثرة في الدول العربية.
كأنه يدعونا لأن نقبل على الحياة، فهي قصيرة ولا سبب يدعونا ألا نعيشها بحب ومرح، وعدم محاولة خنقها بكل الوسائل بكثرة الصراعات، حتى مع الحيوان، إذ يورد الشاعر في ديوانه مقطعا عن البومة يقول:
«هنا في غرب النمسا. في هذا الريف الساحر
خطرَتْ لي البومة
قلتُ الحكمة لا عمر لها
الحكمة ترمق صمت الضاحية
هنا
بعينين
كفنجاني قهوة
يا بومة غرب النمسا
لو أني ألَّفْت كتابا للطير، لمدحت جلالك
في صفحته الأولى
ولقلت بأن طريقك فردوسي
يا طيرا يحرس العالم»
ومن المعروف أن التراث الإسلامي يكره البومة ويحاربها. وقد يكون تعبير الشاعر هنا عن كونها رمزا لآلهة الحكمة (مينرفا)، وبالتالي يمكن الفهم بأننا نحارب الحكمة.لكن، بقي ثمة سؤال أخير: يورد الناقد في كتابه أن ياسين عدنان يتحدث مرة بصيغة المتكلم وأخرى بصيغة المخاطب (أنت) وهو يشرح: «تخاطب شخصية العابر ذاتها وقد انفصلت عنها وصارت آخر قابلا للمحاورة». لكن السؤال هو: لماذا يلجأ ياسين إلى ذلك؟ وألا يمكن فهم الأمر بأن هناك من يخاطبه، وليس هو من يوجّه الكلام لنفسه، بل من يوجّه إليه ياسين الدفتر، مثلا. هو من يقول للشاعر:
«لم تكن هناك طريق
حدّق جيدا
أيها الأعمى
لم تكن هناك طريق
حتى السراب الذي في خيالك
محض سراب».
وأخيرًا وجب الاعتراف بأن كتاب الدكتور محمد صابر عبيد باختياره الاشتغال على هذه القصيدة / الديوان، وتخصيص دراسة مفصلة لها هو أمر محمود في وقت صار فيه النقد يقارب التجارب الشعرية بتعميم يضع الكثير من الأصوات والتجارب والدواوين في سلة واحدة. ولعل هذا التشريح الجميل للنص الشعري الذي قام به الدكتور عبيد في كتابه، هو ما يشجع على مرافقته في هذه اللعبة النقدية الشعرية باستمتاع. فقراءة الشعر وتحليله وتأويله عملية لها جاذبيتها، وهي لا تقل إثارة عن كتابته.


الكاتب : رفيف الشيخلي

  

بتاريخ : 15/01/2021