منظومة التربية والتكوين ما بعد جائحة كرونا: أي هوية للمدرسة المغربية؟

يعرف العالم تحولات عميقة ستمس جوهر القيم الانسانية وتوازنات النظام العالمي (قيم العولمة)، وهو ما يعني أن العالم سيعرف أزمة هوية، يؤكدها الاتجاه العام الذي طبع سلوك الدول تجاه جائحة كرونا بسيادة النزعة الحمائية والانكفاء الثقافي(الدولة الوطنية)، مما سيعيد طرح إشكالية الهوية من جديد كأفق لما بعد العولمة، أي العودة إلى الخصوصيات الثقافية لإعادة بناء القيم الوطنية(ثنائية الخصوصية/الكونية).

إن هذا التحول سيجعل المدرسة في واجهة التحديات التي ستعرفها أزمة الهوية، وهو ما يستدعي مراجعات عميقة لأسس منظومة التربية والتكوين، سواء تعلق الامر بالجانب المرتبط بمرجعيات الاصلاح وتصور وظائف وغايات المدرسة، أو من حيث السياسات التربوية بإعادة النظر في الرهانات والأولويات الاستراتيجية، فضلا عن التحديات الاجتماعية (الرهان على مدرسة المجتمع) ، أو ما يرتبط بالمقاربات والاختيارات البيداغوجية (مدرسة المستقبل).

المدرسة في افق التحولات الجيو-سياسية

لا شك أن التحولات الجيو-سياسية التي سيعرفها العالم ستخفف الضغط على الفاعل السياسي، وتتيح له فرصة مراجعة الاختيارات الاستراتيجية، كلحظة تأمل ومراجعة للذات من أجل إعادة النظر في مرجعيات الاصلاح ورهانات السياسات التربوية. ولعل أهم هذه التحولات هو التراجع الذي ستعرفه الايديولوجية النيولبيرالية التي ما فتأت ترهن سياساتنا التعليمية بمبادئها المغرضة التي شكلت مرجعية أساسية لبناء تصوراتنا لهوية المدرسة؛ هذا التراجع سيعيد النظر في العديد من الرهانات التي أطرت اختيارات اصلاح منظومة التربية والتكوين. إن من أهم ملامح تجليات الحضور النيوليبيرالية ضمن الاصلاحات التي عرفتها المنظومة، ارتهان المدرسة بالسوق عبر صيرورة امتدت من الميثاق الوطني المفعم بروح (اجماع واشنطن)، الذي روج لمفاهيم السوق ضمن السياق البيداغوجي (الجودة، الانتاجية، الفعالية، الرأسمال البشري…)، فضلا عن تحويل المحتوى الايديولوجي لليبرالية الجديدة إلى محتوى بيداغوجي ضمن ما سمي المقاربة بالكفايات. كما امتد هذا الحضور النيولبيرالي مع المخطط الاستعجالي ليس كمسار لتصحيح اختيارات الاصلاح، بل مجرد إنقاذ لسيرورة تشكل المدرسة الخادمة للسوق، فكان الاصلاح متجها نحو الجواب عن فرضية خاطئة، اختزلت الاصلاح في تجاوز الإكراهات البنيوية وليس معالجة الاختيارات الاستراتيجية، فضلا عن تكريس التوجه نحو السوق باعتماد بيداغوجيا الادماج كاختيار بيداغوجي. لقد حاولت الرؤية الاستراتيجية 2015-2030 التوجه نحو الاختيار القيمي من خلال استحضار المرتكزات القيمية (مدرسة المساواة والإنصاف) دون الخروج عن النسق العام للتوجه الليبرالي (مدرسة الجودة)، من خلال اعتماد (إعلان إإنشيون – التعليم بحلول عام 2030) كمرجعية للإصلاح، إن صيرورة الاصلاح المرتهنة بإجماع واشنطن و إعلان انشيون، عرفت تيها في بناء تصور خاص، يعكس التجربة المغربية المرتبطة بخصوصية المجتمع المغربي، وبرهاناته المستقبلية. يبدو أن مسار الاصلاح لم يطرح الأسئلة الجوهرية والتفكير في ربط المدرسة بالمجتمع وتلبية المتطلبات والحاجات الاساسية دون اختزالها في متطلبات السوق. ولعل الفرصة مؤاتية الآن لمراجعات املاءات المؤسسات المالية والارتهان بالقرار الخارجي لبناء هوية جديدة للمدرسة المغربية مع التراجع المرتقب لهذه الايديولوجية، التي أعلنت عن افلاس قيمها التي انتجت وهم عولمة النموذج التنموي القائم على أوهامها الثلاث: أولا: وهم دولة الحد الادنى أو السياسات التقشفية التي تعتبر التعليم والصحة والقطاعات الاجتماعية غير منتجة، وأن العدالة الاجتماعية مجرد وهم (أطروحة هايك/ ونويزك/ وفريدمان). ثانيا: وهم الشراكة خاص/عام، لأنها دعوة لا تخرج عن نطاق الربحية وانتهازية الرأسمالية؛ فليس مستبعدا أن نشهد أزمة هذا النموذج (ريادة القطاع الخاص) باعتباره نموذجا ارشاديا لحكامة التدبير العمومي بفرض واقع التعليم الخصوصي، الذي حول المدرسة إلى مقاولة ربحية، وأنتج كائنات انتهازية تقتات من الريع التربوي( قضية مساعدات صندوق جائحة كرونا كمثال). ثالثا: وهم تبخيس السياسي والنقابي والفعل العمومي (المدرسة العمومية)، بالإجهاز على الطبقة الوسطى، وخلق التفاوت الاجتماعي، وتوسيع هامش الفقر والتهميش والاذلال الاجتماعي.
إن من أهم التحديات التي انتجتها التحولات الجيو-سياسية مع أزمة الايديولوجية النيولبيرالية، هو نهاية وهم دولة الحد الادنى والسياسات التقشفية؛ فقد اثبتت جائحة كرونا حاجة المجتمعات إلى السياسات الاجتماعية (التعليم والصحة) كضمان أساسي لتحقيق الامن القومي والاستقرار الاجتماعي، مما يستدعي إعادة ترتيب أولويات الانفاق العام (عودة مفهوم الاختيار الاجتماعي للدولة). كما أبرزت الجائحة الحاجة الماسة إلى انخراط الجامعة والمدرسة في المجتمع، بدل شعار الانخراط في السوق. فالمجتمع يحتاج اليوم إلى البحث العلمي وإلى قيادة علمائه ومثقفيه كقوة توجيهية ارشادية لسياساته العمومية، كما أنه بحاجة إلى ادماج أفراده في المجتمع والانخراط في قضاياه الحيوية، بدل الارتهان بايدولوجيا الادماج في السوق، والتي يعتبر التعليم الخصوصي أحد مظاهرها(الشراكة خاص/عام). إن منظومتنا التربوية في حاجة إلى تعليم فعال ممتد نحو المجتمع، قادر على تلبية حاجات المجتمع الحيوية (سياسات حيوية)؛ وليس مجرد فبريكات لصناعة اليد العاملة، تحول المدرسة والجامعة إلى بروليتاريا خادمة للمقاولة (تشييء الفعل التربوي). كما تشكلت قناعة عامة لدى الجميع حكاما ومحكومين، أن المستقبل رهين بتعليم ناجع قادر على رفع تحدي مواجهة المستقبل المنفتح على المجهول.
ولعل التخلص من ربقة هذا الاستعمار الجديد (المنظمات المالية الدولية) رهين بتحقيق السيادة على الوطن ومقدراته، وذلك بالإصغاء لصوت الشعب، والتماهي مع تطلعاته وتلبية حاجاته، ولا مناص في ذلك من إعادة بناء التعاقد الاجتماعي الذي سيعيد الثقة للمؤسسات، ويخلق سلما اجتماعيا قد يُحَصِّنُنا ضد إرادة التحكم في الشعوب، التي تخدم أجندات الدول المهيمنة والشركات المتعددة الجنسية التي تتطلع لمقدرات الوطن وتتربص به.

تحدي المواطنة: رهان الامكان البشري

لقد أثبت المجتمعات التي راهنت على بناء الانسان، والعمل على ارتقاء القيم الفردية والاجتماعية، قُدرة هائلة على مواجهة الشدائد مهما كان حجمها ونوعها (كوارث طبيعية، أزمات مالية، أوبئة…)؛ لأن وعي الأفراد يَسْمَحُ بتوسيع اختيارات الدول، ويعزز قدرتها على التنظيم والتخطيط لمواجهة المخاطر والآفات. إن شرطية المواطنة كحقيقة دالة على وجود الدولة، وضامنة لاستمراريتها، تتأسس على بناء الإمكان البشري ، الذي يُحدد الفِعل الانساني ضمن نطاق الغايات، و يَجعل الفرد قادرا على أن يُحدد اختياراته، ويَستثمر الموارد المادية والرمزية المتاحة ضمن المجتمع، فالقدرات هي امكانية استثمار الموارد، وليس ضمان الولوج إليها صوريا (قانونيا) فحسب؛ أي بناء مواطن مُدرك لقُدراته المعرفية والأخلاقية، واعٍ بكينونته الاجتماعية، مُمْتَد نحو المجتمع، ومُتفاعل مع القضايا الوطنية والإنسانية.
إن الكائنات الفاقدة للمعنى التي أنتجتها أجهزة الدولة الايديولوجية (نظم تربوية، إعلام، سياسات ثقافية…)، لا تصلح لبناء مشروع مجتمعي ولا تحقيق نهضة منشودة، بل تعكس أزمة الدولة الحديثة بأنساقها السياسية التقليدية، القائمة على أساس تبرير الاستبداد والأبوية السياسية. إن شرطية المواطنة تفترض علاقات اجتماعية قائمة على إدراك التَمَفْصُلِ الحاصلِ بين الحق والواجب واقتران الحرية بالمسؤولية، بدل الابتذال الليبرالي القائم على الفردانية الاستئثارية (الكائنات المستهلكة)؛ كما تفترض نُكْرَانَ الذات و الحافزية على المشاركة في انتاج الخير العام للمجتمع، بدل أشكال الاستلاب التي لا تصلح سوى لتبرير وجود السلطة الحاكمة.
لقد تأكّد عَملِيًّا، من خلال تدابير مواجهة جائحة كرونا، الحاجة إلى فِعْلٍ تواصلي بين أفراد المجتمع وأجهزة الدولة، يعكس شَخْصَانِيَّة الأفراد و وعيهم الاجتماعي في مواجهة الأزمات. إن الاعتبارات الخاصة التي تميز الأفراد داخل المجتمع، وتبرز التمايزات على مستوى الانتماء الاجتماعي، هو ما يحدد شرطية المواطنة، وشرعية التعاقد الاجتماعي بين مختلف مكوناته. لقد خلقت السياسات التعليمية كائنات اتكاليَّة مُشْبَعَة بثقافة الإحباط و ازْدِرَاءِ الذّات، غير قادرة على تحديد أُفُقٍ اجتماعي لانتظاراتها، تُعبّر عن أزمة انتماء حادَّة لكل ما هو مشترك.
لقد آن الأوان لسياساتنا التربوية أن تتجاوز منطق الرَعِيَّة الذي يُنْتِجُ ثقافة القَطِيع، ويُكرِّس كل أشكال الوصاية والازْدِراء الاجتماعي. لا مناص من بناء جسور الثقة داخل المجتمع، بالرهان على خلق كائنات اجتماعية واعية بكيْنُونَتِها، مُدرِكة لحدود امكانياتها في تحديد اختياراتها السياسية؛ و تِلْك هي حدود المواطنة والتَحَقُّق العَيْنِيّ لمفهوم المواطن.
إن المجتمعات التي تُعزِّز في أفرادها عن طريق المؤسسات التربوية مَلَكَةَ المسؤولية، والقُدرة على تَمَلُّك الفضاء واحترام المجال العام؛ تستطيع اقتحام المجهول مهما كانت مخاطره وآفاته؛ وَاهِمٌ من يعتقد أن سياسات التجْهِيل وصناعة الرداءة وخلق كائنات مُستهلكة، وسيلة لتدجين المجتمعات والتحكم فيها. المستقبل مَرهُونٌ للهِمَمِ العالية التي ترفع من شأن مواطنيها، و تَتَحصَّنُ بمشروعية الامْتِداد نحو المجتمع.
يحتاج المغرب إلى إعادة النظر في سياساته التربوية، ببناء منظومة تربوية تستوعب حتمية التغيير المضطرد الذي يعرفه العالم، أو بتعبير “إدغار موران”: “الإعلاء من موهبة فهم التعقيد الانساني ودراسته، تلك التي تربط بين المعرفة والوعي بالشروط الوجودية المشتركة لكل البشر”( المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل)؛ كما تحتاج بلادنا إلى سياسات ثقافية تَرْتَقِي بالذّوق العام، وتُرسخ قيم جمالية تُهذِّب السلوك الاجتماعي، بدل الرداءة في الذوق والقبح المُعَمَّم، وصناعة نماذج مبتذلة للفن (برامج صناعة النجوم، وكائنات الإنستغرام/.).
إن المنظومة التربوية ينبغي أن تتطلع إلى نماذج مُلهِمَة لأجيال المستقبل، تُحفِّز القيم الجمالية، وترفع من شأن العلم والعلماء والمثقفين؛ إنها دعوة للارتقاء بقيم المجتمع الأخلاقية والجمالية والوجدانية؛ تنمي في الأفراد مَلَكَة تقدير الذات واحترام الآخر، المشاركة في تنمية الخير العام واحترام المشترك الاجتماعي.
لا مناص من استشراف المستقبل بكائنات واعية، وتعاقدات جديدة بين مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، أحرار في الاختيارات، نُظَراءَ في المسؤوليات، مُتكافِئين في المشاركة في صنع القرارات.
إن اللحظة السياسية تحتاج إلى شرطية المواطنة كعماد لبناء مجتمع متماسك، ودولة ممتدة نحو المجتمع (دولة المجتمع)، بدل شعوب منقادة مُسْتَباحَة الكرامة، تذهب مع الريح، وتهتِف لمن يُسوِّق نفسه أفضل (مجتمع الدولة). لِواءُ المستقبل معقود بمدرسة وطنية رهانها الاساس هو بناء كائنات اجتماعية قادرة على مواجهة تحديات المستقبل المنفتحة على المجهول.

التحديات الاجتماعية: من أجل مدرسة المجتمع

لقد كشفت جائحة كرونا عن مفارقات عديدة في العلاقات التربوية بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين (ادارة تربوية، اسرة، هيئة تربوية)، كما ابرزت الحاجة إلى مدرسة المجتمع المنفتحة على المستقبل. لعل اللافت للنظر في هذه الأزمة هو حضور الاسرة وأهميتها في سيرورة التعلم، حيث تبث بالملموس أن المدرسة امتداد للبيت والأسرة، ومن ثمة يصعب بناء تصور للإصلاح في ظل واقع استقالة الأسرة وعدم انخراطها في مسارات التعلم وسياقات التربية. لقد انتجت أزمة “كرونا” مظاهر عديدة لحضور الأسرة تتراوح بين مساهمتها المباشرة والصريحة، إما عبر المشاركة في التربية والتعليم داخل البيت كفضاء مكمل للمدرسة، وهذا ما انكشف مع جائحة “كرونا” من خلال عمليات المراقبة والتتبع والمواكبة لمسار التلميذ عبر التكوين عن بعد، مما مكن الأسر من المشاركة بشكل مباشر في تقييم ومراقبة مسار التعلمات ومحتويات ومكونات العملية التعليمية التعلمية. كما مكنت الازمة الاسر من الانخراط غير المباشر في الرقابة المعنوية للقيم التي تنتجها المدرسة عبر اكتشاف المضامين المناهج التربوية. لقد أبانت الجائحة عن أهمية الأسرة كشريك حقيقي للمدرسة، بعيدا عن الأشكال الكاريكاتورية التي تنتجها منظومتنا التربوية ( مجالس التدبير الشكلية المحنطة التي تقابل بالعزوف والتغيب). فالشراكة تعني الانخراط في كل المسارات والصيرورات التي تطبع الفعل التربوي، والتفاعل مع ايقاعات الحياة المدرسية؛ وكل ذلك ينطلق من الرغبة في المشاركة التي تولدها الثقة في المدرسة كمؤسسة اجتماعية، تصلح لاستيعاب المطلب الاجتماعي وحاجة الأسرة المادية (التعليم والتكوين)، والقيمية الرمزية (التربية). إن المدرسة كفضاء عمومي قادرة على خلق نقاش عمومي فعال يحدد معالم مدرسة المستقبل المنفتحة على المجتمع، وتشارك فيه كل القوى المتدخلة في عملية التربية (مثقفين، منتخبين، أسرة، أطر تربوية، أطر الإدارة التربوية، تلاميذ وطلاب، شركاء اقتصاديين واجتماعيين…).
إن المؤكد من التحدي الاجتماعي الذي فرضته جائحة كرونا ، هو أنها أزمة اجتماعية بالدرجة الأولى، بمعنى أبرزت الوجه الحقيقي لمفهوم الشراكة خاص/عام أو ظاهرة التعليم الخصوصي، التي برهنت أن الرهان الحقيقي لهذه الشراكة لم يكن رهانا تربويا/بيداغوجيا، ولا مساهمة من القطاع الخاص في الارتقاء بالمنظومة أو انتاج الخير العام (المنفعة العامة)؛ إن هذه الشراكة لا تخرج عن نطاق الربحية وانتهازية الرأسمالية. فليس مستبعدا أن نشهد أزمة هذا النموذج (ريادة القطاع الخاص) بالتوجه نحو رأسمالية الدولة، وبالتالي التفكير بجدية في إعادة الاعتبار للتعليم العمومي، باعتباره الامتداد الطبيعي للمجتمع برمزيته المتعالية عن الربحية والتشييئية (Réification) التي تفقد الانسان معنى وجوده ككائن غائي إلى مجرد إنسان بضاعة بتعبير “لوكاتش”. فالحاجة إلى الارتقاء بالفرد قيميا لن تكون بالتأكيد وظيفة للتعليم الخصوصي، بل إنها تَحَقُّق عيني لمفهوم المشروع المجتمعي. والذي أبانت جائحة “كرونا” حاجتنا إلى وعي جمعي، وقيم اجتماعية كلية أكثر انسانية، بمنطق التضامن ليس في بعده المحلي وحسب بل الاقليمي و العالمي. وما من مدخل أصدق من بناء مدرسة المجتمع بعيدا عن السوق والريع الاقتصادي الذي يمثله القطاع الخاص في مجال التربية؛ إن زيادة الانفاق العام في التربية والرهان على الجانب الانساني (التربوي) سيعيد النقاش من جديد حول جدوى التعليم الخصوصي، أولا كقناعة لدى الاسر التي تكشف أمامها الوجه الحقيقي للتعليم الخصوصي، أو القناعة التي وصلت إليها الدولة من خلال الانتهازية والجشع الذي أبداه هذا القطاع في خضم الأزمة، وهو ما يعني زيف ووهم الشراكة خاص/عام، وفصل المقال ما بين “البزيس” والتربية من اتصال.
إننا أمام لحظة تاريخية كشفت عنها جائحة “كرونا”، من أجل تدارك أزمة وشيكة لمنظومتنا التربوية، من خلال مراجعة أولويات ورهانات المنظومة بتجاوز التوجه النيوليبيرالي في السياسات التربوية، وإعادة الاعتبار للمدرسة العمومية الوطنية، القادرة على مواجهات التحديات الاجتماعية التي قد تفرزها جائحة كرونا، جراء الأزمات المالية والاقتصادية في المستقبل، والتي ستؤدي إلى ازدياد عبء الاسر في الانفاق على التعليم، والتفاوتات التي من الممكن أن تخلقها انتهازية الاستثمار في مجال التربية والتكوين.
من المظاهر النفس –اجتماعية الدالة التي كشفت عنها الجائحة، استعادة الذاكرة الجماعية لرمزية حضور المثقفين والعلماء في ريادة المجتمع، ساهم هذا الحضور المميز في الاعلاء من شأن المربي، واستعادة المكانة اللائقة به في وعي وضمير الامة. إن الوعي الجمعي أدرك زيف الصور التي تسوقها ايدولوجيا الرداءة والقبح (نجوم الفن الهابط، و دعارة الانستغرام، ونجوم كرة القدم…)، لتحل محلها صورة الطبيب والمعلم والعالم كواجهة حقيقية للمجتمع، لتتوج المدرسة حاضنة لروح الامة، وملاذا آمنا للشعوب من عبث المجهول الذي يتربص بالإنسانية جراء حروب المستقبل ذات الطبيعة المعرفية (حرب البيولوجيا والتكنولوجيا الحيوية…). إن عودة الروح لوجدان الامة، رهين بما تقدمه من نماذج ملهمة لأجيال المستقبل، تعيد بناء صورة المعلم والعالم والمثقف في المخيال الجمعي، ضمن ثقافة الاعتراف بالكفاءة والتميز (بيداغوجيا القدوة) تحفيزا لشبابنا، وتشجيعا لهم على الابداع والابتكار والتميز في درب العلم والمعرفة، بدل سياسات التجهيل الجماعي والتسويق للرداءة والقبح.

التحديات البيداغوجية: من أجل مدرسة للمستقبل

إن من أهم الاكراهات التي اعترضت عملية مواجهة جائحة كرونا في بعدها البيداغوجي، هو عجز النموذج البيداغوجي عن استيعاب حجم التحول التي ستحدث جراء الأزمة، والتفكير في مقاربات بيداغوجية جديدة، تُساعد الأفراد على التكيُّفِ مع صيرورة التحولات، وأنماط مُعزِّزَة لِمَلَكاتِ التَعلُّم الذاتي.
إن الرهان البيداغوجي الحالي القائم على الكفايات لا يخدم تحديات المستقبل المتسمة بالتغيير المضطرد والسريع. فضلا عن قدرة هذا النموذج على مواكبة ما أسماه “أولريش بيك” مجتمع المخاطر المفتوح على المجهول. لذا فالحاجة الى بيداغوجيا للمستقبل تنبع من قدرة المنظومة على بناء كائنات لها القدرة على التكيف مع تحديات المستقبل (بيداغوجيا التكيف)، التي من ملامحها تغيير مرفولوجيا المدرسة (واقعية/افتراضية)، وتغيير ايقاعات التعلم (تعليم حضوري/تعليم عن بعد)، وتغيير في مناهجها التربوية (تثوير المناهج: المضامين/طرائق التعليم). كل هذه التحديات تجعلنا منفتحين على مدرسة المستقبل (مدرسة ما بعد جائحة “كرونا”). إن هذا المدخل يحيلنا إلى نقاش ابستمولوجي يحدد اختياراتنا المعرفية، فمستقبل المدرسة رهين بالتحولات التقنية الهائلة التي حولت المعرفة من العالم المادي إلى عوالم افتراضية قد تتلاشى معها المدرسة كفضاء مادي، كما أن هذا الوضع يطرح إشكاليات ابستمولوجية مرتبطة بتشكل مجتمع المخاطر (الحرب البيولوجية/المعضلة البيئية…)، مما يستدعي البحث عن أنساق بيداغوجية مرتبطة بتحولات أنماط المعرفة المواكبة للتحولات التقنية. إن هذه التحولات التقنية جعلت المتعلم يعيش مفارقات بيداغوجية/ديداكتيكية، بين نظام معرفي متخلف لا يساير التحولات التقنية كي يتمكن من إدماج التلميذ في صيرورة التعلم التي ينخرط فيها ضمن أنساق موازية للمدرسة فرضها جائحة كرونا (فضاءات الانترنيت، مواقع التواصل الاجتماعي …) أمام الازدواجية الوظيفية للمدرسة، التعليم والتكوين من جهة والتربية من جهة أخرى؛ و بين واقع افتراضي يعيشه التلميذ، قد يعيد النظر في المدرسة بمعناها المادي ( مدرسة الجدران) ليؤسس لمدرسة افتراضية تغيب المكان والزمان. في هذا السياق المتطور لتصور المعرفة (افتراضية/واقعية) نعتبر أن إمكانية الفصل بين الوظيفتين (تربية/تكوين) ممكنة في سياق إدماج التقنية بيداغوجيا، فيمكن لمدرسة المستقبل أن تكون افتراضية حينما يتعلق الأمر بالتعلم والتكوين، في حين لا يمكن إلا أن تكون واقعية حينما يتعلق الامر بوظيفة المدرسة التربوية، لأن فعل التربية يفترض أنساقا قيمية معيارية مرتبطة بالسلوك الاجتماعي للأفراد، عكس الأنساق التقنية اللااجتماعية. فالتعليم عن بعد يعزل المتعلم عن سياقات التعلم، ويفقده القدرة على التواصل والتفاعل مع محيطه، وتختزله في بعد أحادي الاتجاه ( البعد السبيرنتيكي) الذي يغيب لديه ملكات متعددة تميزه ككائن متفرد ( عاطفة، تواصل…) . فمدرسة المجتمع هي الضامن الوحيد لاستمرار منظومة القيم، مما يجعل واقعيتها حصانة ضد أشكال الاستلاب الثقافي الممكنة، والناتجة عن الانفتاح التقني الكاسح والمغيب للوعي بالذات. فالإنسان معرفيا متعدد الأبعاد، يحتاج إلى طاقة اجتماعية دافعة، تنمي لديه ملكات متعددة: عاطفية وجدانية، تواصلية، جمالية… وهو بهذا المعنى قابل للتشكل وفق كل نمط معرفي تختاره الجماعة، وحريته هي الخاصية الوحيدة التي تحافظ على بعده التعددي. لذا فمدرسة المستقبل مهمتها إنماء شخصية المتعلم، وإعداده للتحكم في التحولات التي يعرفها العالم، بدل أن تتحكم فيه. فمدرستنا مدعوة للتفكير في استراتيجية معرفية لا تنساق كلية مع التحولات في أنماط المعرفة التقنية (التكوين عن بعد)، بل هي مدعوة للبحث عن أنماط معرفية متعددة: كانخراط الاسرة في سيرورة التعلم (الاسرة المربية)، أو المدرسة المندمجة في المجتمع (مدرسة الحياة)، حيث يمكن اختزال زمن التعلم وفضاءاته بين ثلاث مكونات بيداغوجية (المدرسة، الاسرة، المجتمع).
إن أزمة جائحة “كرونا” أبانت بالملموس عن حقيقة مخجلة، كشفت عن عورة السياسات التربوية وكل شعاراتها، وأماطت اللتام عن عجز وقصور رؤية النخب المدبرة للقطاع في تدبير الازمة. إن خطابات العصرنة والرقمنة والانخراط في مجتمع المعرفة(مشروع إدماج تكنولوجيا الإعلام : E1.P10) كمثال وغيره من المشاريع، انكشفت أمام محدودية استراتيجية تدبير الأزمة وارتجاليتها. فرغم الكثير من المشاريع والموارد المالية والبشرية التي انفقت في الارتقاء بالمنظومة تقنيا (رقمنة الموارد البيداغوجية)، لم يستطع الفاعلون بلورة استراتيجية بديلة للتكوين، ولم تستطع تطوير مواردها البيداغوجية والديداكتيكية للتفاعل مع أزمة “كرونا”. وهو ما يؤشر على أزمة منظومة ارتهنت في اصلاحها بالحاضر الذي يتلاشى في كل لحظة، وأغفلت التفكير في استراتيجية استشرافية للمستقبل، تدرك و تحدد ماهية وحجم التحول الذي سيعرفه العالم في أفق 2030 المشرف على نظام عالمي جديد سيتغير فيه كل شيء التاريخ والجغرافيا والإنسان.

على سبيل الختم: توصيات مستوحاة من درس كورونا

قد تكون هذه دعوة إلى صناع القرار، بإعادة النظر في اختياراتهم السياسية في مجال منظومة التربية والتكوين، لذا سأكون مختصرا وأعتبر أن جائحة “كرونا” درس تاريخي ينبغي أن نأخذ منه العبر قبل فوات الاوان، والتي ألخصها في التالي:
أولا: مراجعة الاختيارات الاستراتيجية التي تحاول جعل المدرسة خادمة للسوق، والكف عن اعتبار المنظومة التربوية مجرد ريع اقتصادي يخدم المقاولة والسوق الاقتصادي. بل اعتبار المدرسة مؤسسة اجتماعية ممتدة نحو المجتمع مستجيبة للمطلب الاجتماعي، وظيفتها هو بناء (الانسان) أو ما أسميه “الامكان البشري” بدل الرأسمال البشري ذو الحمولة الاقتصادوية.
ثانيا: الاهتمام أكثر بالبحث العلمي وجعله أولوية حيوية للمجتمع، لأن المستقبل في بعده المرتبط بالأمن القومي، رهين بانخراط الجامعة والمدرسة في القدرة على تحصين الذات من الآفات والخطر المحدق (مجتمع المخاطر)؛ وتحقيق الاكتفاء الذاتي في القدرات الحيوية (غداء، مواد طبية، تكنولوجيا…)، لقد بات الامن القومي مرتهن بسياسات تعليمية ناجعة.
ثالثا: إعادة النظر في المقاربات البيداغوجية وفلسفة التربية، بالاتجاه نحو تنمية الوعي والارتقاء بأفراد المجتمع، بدل الجهد الكلي في التنمية الاقتصادية. فأزمة “كرونا” أبانت أن الشعوب الواعية والمجتمعات المنضبطة قيميا هي القادرة على تخطي الأزمات، وليس المجتمعات المتقدمة اقتصاديا والفقيرة قيميا.
رابعا: إن أزمة كرورونا أنتجت خطابا حمائيا، وأبانت عن نزعات تَوَحُّدِية للأمم، وهذا يعني التعويل على الذات، ورفع الانتاجية والاكتفاء الذاتي. كما أبانت عن فاعلية الدول القادرة على الابداع والابتكار والتكيف، وهو ما يعني التفكير في استراتيجيات للتحفيز وسياسات لتشجيع الابتكار بالاستثمار في العنصر البشري، والمدرسة العمومية هي القادرة على خلق هذه القيم والنهوض بهذه المهمة.
خامسا: إعادة النظر في تصور المدرسة، واستيعاب التحول وسيرورة التغيير الذي يعرفه العالم، بالتوجه نحو مدرسة جديدة تدمج التعلم عن بعد، وتعتمد وسائل ديداكتيكية جديدة. فالتجديد البيداغوجي بات ضرورة حيوية، وربما يؤسس لمدرسة المستقبل التي ستتجاوز مفهومي الفضاء الصفي وزمن التمدرس.

* أستاذ التعليم العالي بمركز تكوين مفتشي التعليم بالرباط


الكاتب : د / سعيد العلام

  

بتاريخ : 12/11/2020