وطاءة :
يحيل عنوان المجموعة القصصية للكاتبة صالحة سعد ” شهرزاد ترتب أوراقها ” على نص الليالي ؛ انطلاقا من المحفل السردي ” شهرزاد ” كذات فاض عنها نص الليالي. إنها الذات الساردة في النص المصدر والنص الفرع . فهل ستحكي من نفس الموقع ؟ و بنفس الرؤية ؟ و كيف تفاعل المروي له مع مضامين قصصها ؟
يتضمن العنوان إشارة إلى تغيير ممكن في الوظيفة السردية للسارد المحوري – شهرزاد – فمن خلال عبارة ( ترتب أوراقها ) يدرك القارئ أن الترتيب يخضع لرؤية جديدة وموقع جديد ووعي جديد وأخيرا منطق جديد أو مغاير لما كان سابقا.. و الترتيب هنا يحيل على الكيفية أو الصيغة، بينما الأوراق تحيل على المضمون السردي .
إلى جانب العنوان المركزي هناك إحالة على جنس العمل الفني ( قصص قصيرة جدا )؛ وبهذه الصورة يكون العمل قد أسس ميثاقه القرائي مع القارئ من خلال استحضار خصوصيات هذا الجنس الفنية والجمالية والبنائية ثم الأسلوبية مثل الإيحاء والاختزال والالتقاط والمفارقة والتعريض…
إذن هناك مرجعية ثقافية وتخييلية / سردية للعمل تكمن في نص الليالي ومرجعية أجناسية تتجلى في القصة القصيرة جدا . وفق هاتين المرجعيتين، يكون أفق القراءة ممكنا والتفاعل مع نصوص العمل أو فصوصه قادرا على استكشاف كنوزه الدلالية التي تشكل طبقات المعنى في شكل النص أو بنيته .
إن المعاني المبثوثة في النصوص لا تجففها قراءة واحدة مهما أوتي صاحبها من ممكنات أو قدرات تأويلية، وبالتالي يظل النص يغري ويفتن بسحره في البوح بأسراره .
من بين الأطياف الدلالية التي أثارتنا خلال قراءتنا لهذا العمل ، دلالة الإحراج أي إحراج الساردة للمسرود له ؛ وذلك من خلال سلطة الكلام التي أوتيتها شهرزاد، ونحن نعلم ما للكلام أو التكلم من سلطة وتأثير في التواصل أو التفاعل وفي التعبير أو البوح وفي البيان أو الإعراب وفي الحجاج أو الاستدلال ….وهذه الأبعاد المقترنة بالكلام تتحقق بدرجات مختلفة في القول السردي . فأين تحقق الإحراج في بعض هذه النصوص ؟ وما هي مظاهره عند شهريار ؟ وما أبعاد ذلك ؟
شهرزاد تحرج شهريار:
استهلت الكاتبة نصوصها بعبارة دالة ” وأخيرا تكلمت شهرزاد ” ، فما تحمل من معاني ؟
يمثل الصمت وضعية أولية انبثق عنها السرد . والصمت حالة أو وضعية أو موقف تكون عليه الذات الصامتة فاقدة للكلام /السرد ؛ نتيجة قمع أو عنف ممارس عليها أو ضدها أو يكون أحيانا للدفاع عن الذات في الدرجة صفر … وعودة إلى نص الاستهلال يتبين أن شهرزاد بادرت أخيرا إلى الكلام ، أي التعبير والنطق بما فيه من إفصاح وإعراب و بيان ، و فارقت بذلك حالة الصمت إلى حالة الصخب . و كأنه بالسرد / الكلام نحيا وفي الصمت أو به نموت . هكذا أعلنت شهرزاد ، و من خلال هذه النصوص التي شكلت مضمون كلامها وقولها ، عن موقفها ووجهة نظرها من كثير من المواقف والحالات و الوضعيات التي تمس وجودها المادي أو المعنوي، الرمزي أو الاجتماعي …كنوع أو جنس أو أنثى أو كطرف في علاقة مع الرجل : زوجة أو أما أو خليلة أو بنتا أو زميلة عمل … أو كضحية في قضية اعتداء أو ظلم أو جناية …
من بين إحالات الكلام و دلالاته : الجرح و إحداث الألم أو الإيلام معنويا. وكأن الكلام سلاح مادي يحدث جروحا وآلاما تصل حد القتل والإبادة الرمزيين.. فعندما تكلمت شهرزاد إما من تلقاء نفسها وعن طواعية ، أو تحث تأثير دافع خارجي جرحت وأحرجت كثيرا شهريار في كثير من كلامها وفي كثير من المواقع ، أي أنها أحدثت في أفق توقعاته خرقا وأثارت حنقه وغضبه بصور مختلفة مما جعله في وضعيات استجابة متنوعة .
إذا كان شهريار مرجعية ثقافية في ترتيب المواقع وفي تشريع الأحكام وتصنيف الأشياء وفي إلغاء الأقوال أو تأكيدها …فإن شهرزاد في بعض هذه النصوص سعت إلى خلخلة هذه المرجعية وكشفت عن القشة التي ستقصم ظهر بعير شهريار .
1- الإحراج بالغضب
الغضب شعور سائد لدى الإنسان وغيره من الحيوان ، يظهر في وضعيات معينة نتيجة دوافع أو مثيرات مختلفة . و يتجسد إما في السلوك أو الجسد أو اللغة . ويدرك القارئ لبعض نصوص الكاتبة صالحة سعد ، من خلال وساطة شهرزاد في هذه الأضمومة القصصية ،أن الساردة أغضبت مخاطبها شهريار في كثير من المواقع أو الوضعيات السردية ؛ أي أن الغضب كان هو شكل استجابته عندما تكلمت في موضوعات معينة وبكيفية خاصة . وهذا يدل على أن الغاية من السرد في هذه النصوص لم تكن هي إسعاد وإمتاع شهريار بل إثارة غضبه . فما دلالة ذلك ؟ و كيف تحقق لدى المسرود له في بعض هذه النصوص ؟
في القصة رقم 9 ، تحكي شهرزاد عن سلطان ( زوج ) يعاني من فقدان المناعة النفسية، وهو يتناول ما تهيئه صانعة الحلوى لديه من أصناف وأطباق، وتفاديا للمضاعفات السلبية على بنيته الصحية ، يعتقد السلطان أن اتباع نظام حمائي وبرنامج رياضي سيقلل من تلك المضاعفات أو يتجنبها، وبالتالي لا يعاني من الحرمان الذي سببه فقدان المناعة العضوية ، لكن ضحك شهرزاد ( انفجرت شهرزاد ضاحكة ) كشف عن غباء السلطان وسذاجته ، حيث فقدان المناعة النفسية يتطلب نظاما آخر، ولما أدرك شهريار ذلك لاحت نظرة غضب حادة على محياه ( أما شهريار فلاحت منه نظرة غضب حادة ).
لقد كشفت عن عيب من عيوب شهريار، أي اعتقاده الخاطئ في تمثل صحته النفسية أولا وتوهمه أنه يعاني حرمانا ماديا مثل المصابين بداء السكري ….فأن تعتقد أمرا و تقترح حلا غير مناسب هو من السذاجة و الغباء . وعندما أدركت شهرزاد ذلك انفجرت ضحكا .
وفي القصة رقم 20 ، تحكي شهرزاد عن مدير أحيل على المعاش ، وخلال حفل تكريمه كان يعتقد أن من احتفوا به سيفقدونه وقد تأثروا لغيابه ، لكن حركة بسيطة تمثلت في طريقة توديعه دون حراس و بإغلاق الباب وراءه بقوة ، أدرك مكانته الحقيقية لديهم ، وبالتالي انتابه حزن عميق. وهذا ما أزعج شهريار لأنه رمز للقوة والسلطة والمكانة الرفيعة ، ويتوهم أن سلطته سليمة من كل العيوب . لقد غضب شهريار لأن رمزا من رموزه قد أهين خلال حفل تكريم له فحكم على شهرزاد بالسجن ( حين أنهت شهرزاد هذه الحكاية، انفجر شهريار غاضبا في وجهها . ثم نادى خادمها الخاص و طلب منه أن يأخذها سرا إلى غرفة السجن . )
بينما في القصة 32، تضاعف الساردة من إحراج شهريار، وذلك بعد أن كشفت عيبا من عيوب مخاطبها . أي ما لا يرغب في أن يكون موضوع حكايتها أو كلامها . و يتعلق الأمر هنا بالخيانة ، حيث يحمل المروي عنه في كلام شهرزاد ما يمنعه من الدخول إلى الوطن و العودة إليه بعد أن خضع لإجراءات الفحص . فهذا العائد إلى الوطن يحمل مواد ناسفة ستلحق أضرارا بالوطن ؛ لهذا تم منعه .و هذا ما أثار غضب شهريار لأن من يمثله في الحكاية أو ينوب عنه اكتشف عيبه . جاء القصة : ( على الفور انفجر شهريار غاضبا :
– صرت أشك في صحة ما تقولين ..غيري مجرى الحكاية و إلا قد يكون لك علاقة بكل ما يحدث …)5
2- الإحراج بالخجل :
مثلما تمكنت شهرزاد من إغضاب شهريار في بعض الأوراق التي قدمتها ، تمكنت أيضا من إخجاله ، وقد ورد ذلك في القصة رقم 5 . في هذه القصة تزداد مظاهر الإحراج عند شهريار . و تتضاعف جراحاته المعنوية وانهزاماته الرمزية . فكلما أدرك مقصدية الكلام / السرد عند شهرزاد ، تأثر سلبا بذلك . فقد حكت الساردة هنا مراسيم تسليم الخلافة لأحد رموز شهريار – خليفة – وما يرافق ذلك من طقوس التهنئة ؛ إذ أهدت الجارية تفاحة للخليفة الجديد فكان أن قضم كف الجارية بدل التفاحة وبذلك أخبرت شهرزاد بأن الخليفة اعتلى عرش العبودية عوض عرش الخلافة فانقلب الوضع إذ أصبحت الجارية سلطانة والخليفة عبدا من خلال رمزية ودلالة التقبيل وصيغته وموضعه . و لما أدرك شهريار ذلك خجل من الموقف الذي صار إليه الخليفة في الحكاية …
3 – الإحراج بالسأم :
من معاني السأم الملل والضجر ،أي ما يبعث على الضجر عند الذات من عمل أو نشاط أو طقس …حيث تتذمر الذات من ذلك وترغب في التبديل والتغيير. والاستماع إلى الحكاية في نص الليالي طقس قد تحقق فيه الذات المتلقية – شهريار – المتعة والنشوة وقد يكون العكس : الضجر والملل . وأن تجعل الساردة مخاطبها يضجر ويتسلل الملل إليه فذلك قد يكون من مقصدياتها الخفية ، من خلال اختيار مادة سردها والتي من شأنها جعل المروي له يسأم ويمل . ومن بين ذلك ما ورد في القصة 19 حيث اعتمدت الساردة الترميز والتلميح بدل التقريروالتصريح. إذ تحكي عن امرأة تسير في الظلام وحيدة و تفصل بينها وبين الطريق عقبات ومزالق وحفر .. والمسألة تتعلق بحرية المرأة ، فهي لم تحصل عليها بعد ، ولم تتحرر جوهريا وكليا من قيود التبعية وهي كثيرة ، والتي من بينها قيد الحكي للسلطان بغاية إمتاعه . هذا النمط من القول / السرد أحرج شهريار و جعله يسأم و يضجر .
جاء في نهاية القصة : لكن السأم بدا يتسرب لشهريار وهو يحاول فهم المغزى من هذه الحكاية ..
هذه عينة من النصوص التي لم تحقق المتعة لشهريار، أي لم تحك له عن عوالم بطولاته وخوارقه أو معجزاته أو تشيد بآثاره وأعماله . ولكنها نصوص من خلال موضوعاتها كانت تنتصر لقضية المرأة و نضالها و تكشف عن مسؤولية الرجل في ذلك وهذا ما كان يثير غضب شهريار أو يقلقه أو يبعث لديه السأم والملل .
لقد كشفت هذه النصوص عن عيوب و مثالب البطل المزعوم شهريار . وهي عيوب تمس مروءته و فحولته أو سلطته ورمزيته عموما . الشيء الذي أثار إحراجه بصور مختلفة ” الغضب ، الملل ، السام ، الخجل ، الاستغراب …
خاتمة :
تفيد هذه العينة من النصوص وغيرها ما يلي :
– ارتفاع نسبة التحرر عند شهرزاد من سلطة شهريار ، حيث جل النصوص لم تبتدئ بالعبارة التقليدية : بلغني يا مولاي … لقد تخلصت شهرزاد من هذا الإيتيكيت الذي يعكس التراتبية الاجتماعية في مجتمع الليالي.
– إذا كانت نصوص الليالي قد تأسست على إمتاع السلطان كغاية مركزية ، فإنها في نصوص الكاتبة صالحة سعد قد راهنت في بعضها على إحراج شهريار وانتقاده و بالتالي تضييق مساحة الفهم والإدراك لديه ، إذ في هذه النصوص حاصرت شهرزاد شهريار في زاوية ضيقة أو مظلمة من التخييل فما كان منه إلا الانتفاض في وجهها .
– أظهرت هذه النصوص أن السرد يمكن أن يكون مساحة خطابية و صيغة تعبيرية للدفاع عن الذات من خلال وضعيات افتراضية . و قد نجحت شهرزاد في هذا الأمر حيث لم تكن تحكي من أجل إمتاع السلطان بل من أجل ذاتها في سبيل بنات جنسها .
– مقارنة بين النصوص التي أحرجت فيها شهرزاد شهريار وتلك التي أثارت نشوته و حققت إمتاعه يدرك القارئ أن شهريار نمط أو نموذج للتسلط والقهر والظلم ، لازال حاضرا في المجتمع العربي بأنماطه ورموزه على مستوى الرؤية الذكورية و تمثلات الفحولة عند الرجل ، أي كيف يتمثل أو يتخيل المرأة في إطار العلاقات البين إنسانية . والنتيجة أن شهريار كنموذج لازال يمارس وصايته و يسود في كثير من المواقع، منها موقع القول أو السرد .
– كشفت نصوص هذه الأضمومة القصصية أن شهرزاد و شهريار ثنائية إنسانية متلازمة يقوم عليها الوجود الإنساني و تكشف من خلال القصص مظاهر التوتر الدائم بين الرجل و المرأة .
– في هذه المجموعة ، وقفنا عند نصوص كانت فيها شهرزاد قوية بسردها حكايات أحرجت شهريار و عرت كثيرا من العيوب و المساوئ التي تسم سلطته أو موقعه في التراتب الوجودي ، حيث كلما كشفت عن عيب من عيوبه ، أو لمحت إليه تعريضا و كناية أحس شهريار بالإحراج و تظهر لديه علامات القلق والتوتر و كأنه تلقى ضربات موجعة ، و هي ضربات ناعمة تحدث شروخا في نفسيته و تحدث اهتزازات تحت كرسي عرشه .
طبعا هناك دلالات كامنة في ثنايا النصوص الأخرى ، رصدنا بعضها والبعض الآخر ستكشف عنه قراءات ثانية لها في سياقات معينة .
مراجع
صالحة سعد : شهرزاد ترتب أوراقها ، قصص قصيرة جدا . ط 1 ، 2017 ، دار المها للطباعة و النشر .1
– أنظر لسان العرب مادة (ح ر ج ). 2
3- صالحة سعد : شهرزاد ترتب أوراقها ، مرجع سابق ، ص 5 .
– شهرزاد ترتب أوراقها : ص 13 و الملاحظ أن هذه النصوص وردت مرقمة فقط و بدون عناوين تسمها . 4
– شهرزاد ترتب أوراقها …ص 23 .5