من التمييز الإيجابي…إلى المناصفة.. مسار تراكمي طبيعي ومنطقي

 


إن المتتبع لمسلسل الاستحقاقات الانتخابية في بلدنا على المستويات الوطنية والترابية يقف على التطور النسبي الحاصل في مجال التمثيلية السياسية للنساء، تلك التمثيلية التي ظلت شبه غائبة لسنوات طويلة، ويعود الجزء الأكبر في هذا التطور إلى اعتماد نظام الحصيص أو الكوطا على المستويين الجهوي والوطني، لتظل النسبة أقل على مستوى الجماعات المحلية، نظرا لغياب المقتضيات الملزمة.
صحيح، أن نظام الحصة كان،ولايزال، موضوع جدل دستوري فقهي وسياسي لأنه لا يتساوق في المنطلق مع مفاهيم حقوقية كونية كالمساواة وتكافؤ الفرص بين الجنسين باعتباره شكلا من أشكال التمييز المعتمد لصالح النساء، تمييزا إيجابيا يساهم في معالجة مواطن الاختلال في مجال التمثيلية السياسية للنساء. واليوم، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي خاصة، ترتفع أصوات منادية بإلغاء هذآ التمييز الإيجابي باعتباره ” ريعا” وعائدا منتظما غير مستحق قياسا على المصدر الاقتصادي للمفهوم.
وصحيح أيضا أن الوعي كان حاصلا منذ البدء أن الكوطا إجراء غير ديمقراطي يساهم في تقليص المسافة نحو بلوغ وضع ديمقراطي، وكانت القناعة قائمة أنها آلية مؤقتة، محدودة في الزمان والمكان يتم الاستغناء عنها متى تحققت الأهداف المنشودة منها على المستويات السياسية والبيداغوجية والثقافية، إذ كنا كنساء مناضلات مدركات لمختلف الإكراهات الحزبية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، التي تعيق الارتقاء بالتمثيلية السياسية للنساء في بلدنا، وكنا أيضا متتبعات لتجارب مماثلة أكدت نجاعتها في مجموعة من دول العالم ارتباطا بهذا الموضوع.
وفي هذا السياق انخرطت مناضلات الصف الديمقراطي والحداثي في بلدنا، بقوة وعزم كبيرين، في مسار نضالي ترافعي عنيد وواع بضرورة إحداث آليات للرفع من التمثيلية السياسية للنساء، وطرقن كل الأبواب ذات الصلة، إيمانا منهن أن المعركة من أجل استكمال البناء الديمقراطي والتنموي لا تستقيم مع غياب وتغييب نصف المجتمع المغربي، بكل ما يشي به هذآ النصف من كفاءة وطاقة وقدرة على المساهمة والعطاء، ناهيك عن صدقية ومشروعية المعركة الحقوقية في هذا المجال…ولم يكن هذا المسار النضالي الترافعي سهلا…ولم تكن النتائج ممنوحة…رافقته الكثير من المقاومات…الكثير من الصد والكف.
ولعلنا لم نقم لحدود اليوم بقراءة عالمة وتقييمية جادة وموضوعية لمساهمة النساء في المؤسسة التشريعية، حيث أحدثت اللوائح الوطنية كإحدى آليات التمييز الإيجابي، تقييم عالم يشمل في المستوى الأول انتظامية حضور النساء البرلمانيات، درجات الالتزام، حجم الإحاطات، كم الأسئلة الشفوية والكتابية، الاشتغال في اللجان، التواجد فى لجان التحقيق، مستويات الدينامية في الديبلوماسية الموازية…إلخ.
وتقييم علمي أكاديمي على مستوى ثان وأهم يتوخى الإجابة على أهم الأسئلة التالية: هل استطاعت النساء البرلمانيات المستفيدات من مبدأ التمييز الإيجابي بشكل خاص الترافع من أجل تجويد التشريعات المتعلقة بالنساء؟ هل استطعن تكوين جبهة نسائية قوية وضاغطة داخل البرلمان انتصارا للقضايا المجتمعية ارتباطا بالنساء؟هل استطعن من خلال تجربتهن التشريعية، التشجيع والتحفيز على المزيد من الانخراط في العمل السياسي في صفوف النساء؟وأخيرا ،- وهذا هو الأهم في تقديري- هل تم تسويق التجارب القوية والناجحة للنساء البرلمانيات قصد المساهمة في تجويد صورة المرأة في المخيال واللاشعور الجمعي في الثقافة المغربية الشفاهية والمكتوبة(وهذه هي إحدى الأهداف البيداغوجية والثقافية الأساسية من وراء اعتماد آلية الكوطا).
وفي انتظار توفر دراسات وأبحاث جدية من داخل العلوم الإنسانية في الموضوع، أجرؤ على المجازفة بالاعتقاد بأن قراءة تقييمية مقارنة وتناسبية، نزيهة وموضوعية، مرجحة لأن تكون لصالح النساء خصوصا على مستوى الشق الأول من التقييم.
في تصوري هذا هو الرهان الأساسي والشاق بدل التسرع برفع شعار”ريعية اللوائح ” والمطالبة بإلغاء هذا التمييز الإيجابي. فحتى دون أن أدخل في تفاصيل تحديد مفهوم الريع ومنبته الاقتصادي، وتعدد مظاهره ومو اطنه الخفية والظاهرة في بلدنا، وبعيدا عن اللوائح الوطنية للنساء والشباب، أحسب الأصوات المطالبة بالإلغاء حملات مغرضة تتمرد على المكتسب وتتنكر لنضالات قوية وشاقة ومكلفة قادتها نساء مناضلات ودعمها أحيانا قادة مناضلون .
إن النضال من أجل الحقوق-في تقديري- نضال ذو منحى تدريجي تصاعدي تراكمي، لا يمكن هدم مراحله السابقة والتنكر لما أنجز فيها فعليا، يقتضي المنطق النضالي التراكمي أن نثمن ما تم الحصول عليه وأن نرفع من وتيرة المطالبة والترافع من أجل مكتسب أفضل في المراحل المقبلة، فنضمن بذلك الاعتراف لمن سبق والتحفيز والفعالية لمن لحق.
إن المناداة بإلغاء التمييز الإيجابي قبل ضمان تفعيل المناصفة كحق دستوري بدعوى أنه “ريع” وأن الأحزاب السياسية أساءت بناء اللوائح الوطنية، يذكرني بالفيلسوف المغربي الأندلسي ابن رشد وهو بصدد الرد على الذين نادوا بحذف الفلسفة بحجة التهافت عند البعض مستعملا عبارة انزياحية جميلة عندما قال ” أن من يمنع الفلسفة بدعوى أن أناسا تفلسفوا فتهافتوا، كمن يمنع الماء عن الناس بحجة أن بعضهم شرقوا به فماتوا، فالموت بالماء شرقا أمرعارض والحياة به يقين مؤكد…”.
إلا أن هذا الأمر في تقديري لا يمنع من النقد والمساءلة: فهل تم التعامل مع الكوطا النسائية بالشكل الأنسب؟ هل تم استيعاب دلالتها والأدوار الوظيفية المنشودة منها؟هل تم دائما إعمال معايير الديمقراطية والكفاءة والاستحقاق بعيدا عن النزوعات الذاتية والعائلية والولائية والزبونية وفي كل الأحزاب…إلخ؟
إن الإجابات الأولية عن هذه الأسئلة وغيرها متوفرة اليوم في تقارير أنتجتها جمعيات نسائية جادة ، وكذا منظمات نسائية حزبية ترافعت من أجل الرفع من التمثيلية السياسية للنساء وواكبت اعتماد الكوطا ونتائجها، إلا أن كل هذه التقارير تؤكد إيجابية اعتماد نظام الحصيص ضدا عن كل الاختلالات التي رافقت اعتماده وتطبيقة مستحضرة سياقات ما قبل اعتماد التمييز الإيجابي.
لم تتمثل هذه الهيئات إذن اللوائح النسائية ” ريعا” أو عائدا غير مستحق وغير مشروع، بل ناضلت في حينه من أجل كوطا باعتبارها حقا جزئيا مؤقتا للنساء، مقتطعا من حق شمولي وقار سيأتي به دستور 2011 لاحقا.
ومع كل هذا، وأخذا بعين الاعتبار الأفق الدولي للمناصفة(2030)، واستحضارا لاستحقاقات 2021، يظل السؤال المشروع مطروحا: كيف يمكن تجويد الكوطا، هذا التمييز الإيجابي الذي لا يمكن الاستغناء عنه إلا بتفعيل المناصفة أفقيا وعموديا؟ كيف يمكن الارتقاء بها كيفا وكما وتمنيعها مما قد يصبح “ريعا” باختصار، كيف يمكن الرفع من ديمقراطية هذا الإجراء اللاديمقراطي؟
لا يمكن مقايسة لوائح النساء- وطنية كانت أم جهوية -على أي نوع من اللوائح الأخرى، فالنساء لسن فئة اجتماعية ولا فئة عمرية ولا فئة مستوى خبرة وثقافة ، على غرار ما يروج له كلائحة الكفاءات التي أصبح البعض يناديي بها مع قرب الانتخابات، النساء هن نصف النوع الاجتماعي محليا ودوليا بقوة المؤشر الإحصائي، لم يتم إقصاؤهن تاريخيا بالنظر للمرحلة العمرية أو الكفاءاتية بل على قاعدة الاكراهات الثقافية والاجتماعية ، وصعوبات ، بل استحالة أحيانا القبول بتقاسم السلطة معهن في التفكير الابيسي والذهنيات التقليدية، التي كانت وما زالت قائمة في ظل غياب حراك ثقافي تنويري شامل يخلخل مكونات اللاشعور الجمعي في مجتمعاتنا.
ومع ذلك تظل مسألة تجويد اللوائح النسائية قائمة وضرورية على المستويين العددي : من أجل إنجاز خطوة إضافية نحو المناصفة، والكيفي: من أجل استبعاد مفهوم “الريع” وإرساء مبدأ الاستحقاق. – على البنيات الحزبية أن تراعي المسارات النضالية الناضجة والملتزمة للنساء، تلك المسارات المستوعبة لمرجعيات الانتماء – – يتعين أن تحظى المستفيدات من مبدأ التمييز الإيجابي بالقدر الكافي من الفعل والحضور داخل بنياتهن الحزبية على المستويات التنظيمية والإشعاعية والتكوينية باعتبار التكليف بالمهمة التشريعية تتويجا لمسار حافل منتظم.
– أن يكون لهن الحد الأدنى من الفعالية في الحملات التكوينية الانتخابية وخوض المعارك السياسية نشرا لأفكار أحزابهن وتعريفا بمشاريعها بدل “تصيد الفرص” والركون إلى زاوية الانتظار ترقبا لما ستجنيه الأحزاب من عائدات على اللوائح المتنافسة.
– واحقاقا للتداول الديمقراط ، وتوسيعا للمشاركة السياسية للنساء يتعين عدم تكرار الاستفادة من آليات التمييز الإيجابي سواء كانت اللوائح وطنية أم جهوية، وذلك لأن اأوى دليل على فعالية الكوطا ونجاعة أدوارها الوظيفية المشار إليها سابقا، وأكبر حجة على بطلان شبهة “الريع”، هو ألا تكون الاستفادة أكثر من مرة واحدة وأن تتقدم النساء بعدها للترشح في الدوائر الإقليمية في عملية تنافس حقيقي متكافئة ومفتوحة، تتحمل الدولة والأحزاب السياسية مسؤولية توفير ظروف إنجاحها ماليا ومعنويا وإعلاميا تجسيدا لجدية الإرادة السياسية من أجل تأنيث المشهد السياسي وتقليص المسافة في اتجاه المناصفة. خصوصا وأن هؤلاء النساء اكتسبن تجربة وخبرن العمل التشريعي واستفدن من التسويق الإعلامي، مما يجعل حظوظ فوزهن-في ظل الشروط السالفة- أوفر من غيرهن من النساء.
والأهم من كل ذلك هو أنهن يضعن تجربتهن رهن إشارة جيل جديد من النساء ويساهمن في الرفع من التمثيلية السياسية لتحفيز مناضلات أخريات، فيحققن بذلك خطوة إضافية أخرى في سلم التراكم المطلوب ،ولن يستقيم الحديث عن “الريع” عندئذ في ظل هذا التجويد والتمنيع، إلا لمن أراد ذلك من قبيل التشويش والمزايدة والتمرد على الجهد والمكتسب.
من حقنا اليوم- مناضلين و(لات) ومهتمين و(مات)، أن نقوم بالنقد والمراجعة لأساليب إعمال الكوطا ونتائجها.
ومن واجبنا اليوم ألا نقطع مع التمييز الإيجابي إلا بتفعيل المناصفة أفقيا وعموديا وإحقاق المساواة الفعلية بين الجنسين. إن رفع شعار الريع خارج هذآ الحق والواجب نسف لمجهودات سابقة وتمرد على نضالات مشروعة، إنها معركة افتراضية تتنكر لمعارك واقعية حقيقية خاضتها نساء وقوى حية في هذا البلد.
وللاشارة في هذا السياق، إن مذكرات الأحزاب السياسية المتضمنة اقتراحاتها قصد إصلاح المنظومة الانتخابية، لم تغيب في أغلبها المطالبة بتفعيل المناصفة، إما تلميحا أو تضمينا أو تصريحا، حسب درجة رسوخ القناعة وقوة الخطاب، كما أن النضال النسائي اشتغل بالتوازي على واجهتين، واجهة الائتلاف من أجل المناصفة، وهو ائتلاف حزبي مدني نسائي انضم اليه مثقفون وإعلاميون وفاعلون مؤمنون بالمساواة بين الجنسين، تم تقديم عرائضه أمام البرلمان مؤخرا. وكذا اشتغلت المنظمات الحزبية النسائية مدعومة بجمعيات نسائية مدنية، ورفعت مذكرات إلى رئيس الحكومة والجهات ذات الصلاحية، كما قدمت هذه الأشكال الترافعية دفترا أبيض واقتراحات ملموسة من أجل تفعيل الدستور المغربي والر فع من التمثيلية السياسية للنساء ارتباطا بالمناصفة والمساواة بين الجنسين، مع توصيات بضرورة إعمال آليات البطلان في جميع المقتضيات المقترحة، وذلك لتحل قوة القانون محل التوافقات الظرفية والسلوكيات المزاجية أحيانا.
وللتذكير، إن هذا الحراك النضالي من أجل الارتقاء بالتمثيلية السياسية للنساء، تأكيد أن الركون إلى الكوطا كتمييز إيجابي، لم يعد اليوم، وفي السياقات الجديدة والمختلفة وطنيا ودوليا، لم يعد هو المطلب الأساسي كما كان الأمر قبل دستور2011، إلا أنه وفي ذات الوقت لا يمكن التشويش والتفريط في هذا التمييز الإيجابي ما لم يتأكد الانتقال الفعلي إلى تراكم أعلى من خلال إرادة حقيقية للدولة بكل مكوناتها: أي إقرار وتطبيق المناصفة كحق دستوري.
وتقوية لجبهة حقوقية مشتركة،على كل اللواتي والذين يرفعون اليوم افتراضيا شعار “الريع” ارتباطا بلوائح التمييز الإيجابي أن ينضموا واقعيا وميدانيا إلى المعركة من أجل المناصفة وتفعيل الدستور.


الكاتب : خدوج السلاسي

  

بتاريخ : 13/02/2021