من حوارات الخطيبي : 1- على المثقف أن يجدد ذاته يوميا كي يظل مثقفا

تساءل دولوز، في كتاب يحمل عنوان “حوارات” Dialogues، ما هو الحوار؟ وما فائدته؟ -فأجاب- ينبغي ألا يتم الحوار بين الأشخاص، بل بين السطور والفصول، أو بين أجزاء منها؛ فهذه الحوارات هي الشخوص الحقيقية” ، وهو في هذا مثله مثل صمويل بيكيت، متحفظ من جدوى الحوارات، ومثلهما أيضا، عبد الفتاح كيليطو، في تردده من إجرائها، لكنه استجاب لها واعتنى بها، وجمعها في كتاب “مسار”.
الكاتب عبد الكبير الخطيبي رجل حوار، أجريت معه حوارات ومقابلات تضاهي ما ألفه من مؤلفات، في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، بل حظيت بتأليف مستقل مثل كتاب” La beauté de l’absence” للباحث حسن وهبي، وكتاب” Le chemin vers l’autre” . ونجد من محاوريه، الصحفيين والكتاب أنفسهم: غيثة الخياط، والطاهر بنجلون، وبختي بن عودة، وعبد الله بنسماعين، وعبد المجيد بنجلون، وبول شاوول…
إن انتعاشة الحوارات مع المفكرين والمبدعين لمشير على أنهم أفلحوا، أو يسعون إلى ذلك، في إبداع متلقيهم وصناعتهم، بتعبير الخطيبي نفسه. وهو الذي كان يقول “مطلوب من الكتاب أن يقدم نفسه”. لكن الحوار يضمن شروط نجاحه، إذا تناظمت مهارة حذق السائل وخصلة ثقة المسؤول.
في ما يلي الحوار الذي أجراه معه عبد الحميد جماهري ومصطفى النحال:

 

– الأستاذ الخطيبي، إذا سمحت نبدأ بآخر كتاب صدر لك وهو “السياسة والتسامح” لعل القارئ لهذا الكتاب يشعر بعد الانتهاء من قراءته أن مفهوم التسامح ظل مفهوما عاما، وأنه رغم محاولتك تخليصه من حمولته المثالية، لم ينفصل عن هذه المثالية المتصلة بنسق فلسفي معين. كما يلاحظ أنك عدت، من أجل تحديد هذا المفهوم إلى مرحلة بعينها: القرن التاسع عشر والقرن الثامن عشر، أي إلى جون لوك.
-نعم، هذا سؤال مهم. لماذا جون لوك، ولماذا مفهوم التسامح في الفلسفة الأنجلوسكسونية في تلك الفترة؟ هناك على الأقل سببان أساسيان: السبب الأول هو إرادة الباحث في توسيع أرضية المفهوم والسؤال حول التسامح. فالتسامح في الحضارة الصينية مثلا يختلف عن التسامح في الحضارة الإسلامية أو المسيحية. هناك إذن نسبيه في تحد يد هذا المفهوم حسب المجتمع الذي يستعمله.
– ثانيا: إن دلالة هذا المفهوم في الفلسفة والعلوم الإنسانية مهمة في تاريخ تطوره. فلماذا، إذن، عدت إلى تلك الفترة؟ لقد عدت إليها لأنه آنذاك كانت مشاكل بين القانون والدين، بين القطاع المدني والدين، بين الدولة والدين. كانت هناك أسئلة أساسية مطروحة مثل: (ما هي الدولة؟ …) كانت فترة مهمة وحاسمة جدا في تاريخ تطور انجلترا وبالتالي، فإن النتائج التي تولدت عن ذلك المخاض طورت نفسها في مفاهيم التسامح والقانون وتاريخ القانون والمجتمع وتاريخ الدين والمجتمع، إضافة إلى القانون الشخصي الخاص والقانون الدولي، وإذا تتبعتم لحد الآن قانون الأمم المتحدة، فإن المفاهيم الأكثر تداولا هي مفاهيم حقوق الإنسان والتسامح، إذن عرفت تلك الفترة تطور الفكر الفلسفي في علاقته بالقانون والسياسة والمجتمع.

– لكن لماذا بالضبط العودة إلى هذه المرحلة التاريخية (كانط، لوك، ييل…؟)
-كان بإمكاني أن أبدأ بمرحلة أخرى، المسألة مرتبطة بمنهجية طرح السؤال مثلا يمكن أن تدرس التسامح بالرجوع إلى ما قبل التاريخ أو إلى التاريخ الإسلامي أو عند اليونان، فالمهم هو تحديد المنهجية، لكن لماذا هذا التحديد؟ لأن للتسامح عوائق حقيقية في المجتمع بين الرجل والمرأة…وهذا يمكن طرحه في أي مجتمع. المهم هو الحدود: ما هي الحدود التي يصل إليها المجتمع ويطبقها؟ فبعض الأشياء لا تمس لأنها إذا مست سوف تزعزع الهيكل المجتمعي. وهكذا فللتسامح دائما حدود، وأنا أهتم بالحدود. لا أهتم بالتسامح من حيث هو تسامح، لأنه ليس ثمة تسامح مطلق، هذه هي النتيجة الأولى: التسامح مفهوم نسبي. أما النتيجة الثانية فهي انه دائم التطور والتغير. واخيرا فإنه ينقلب أحيانا إلى عنف وإلى حرب مواقف. وإذن، فمنهجية البحث تكمن في تحليل الحدود. حدود التسامح واللاتسامح.
– يمكن أن نقول في نفس الوقت إنها حدود العقل، لأنه بمعنى من المعاني يعتبر التسامح اتجاها نحو الكوني والإنسان كقيمة من بين قيم دينية واجتماعية وغيرها تعكس جوهره الإنساني. وبالتالي، فهذا الكوني الذي تأسس على تمجيد العقل يعرف الآن عودة للإثنيات والدين والتطرف وانحسار العقل. فهل هناك بالفعل حاجة إلى التسامح وإلى العقل، هل يمكن قول ذلك؟
– نعم هذا ممكن. أولا لا بد من الإشارة إلى أن التسامح يحترم الإنسان، يحترم الآخر كمجتمع ورأي للآخر، كما يحاول أن يتجاوز حرب المواقف بين الأنا والآخر كثقافة، مثلا في العقائد وحسب الحضارات، نأخذ التوراة والإنجيل والقرآن الكريم، فعندما يطرح شخص ما قراءة تحترم النص كنص، وتنصت إلى الإيقاع وإلى ما وراء النص، يكون هناك تحليل، أما الفيلسوف أو اللغوي فيمكنهما أن يقدما تأويلا كما يقدمه الفقهاء ورجال القانون. هذا يبقى تأويلا. فهل هو التأويل الأخير؟ المهم أنه تأويل من التأويلات الممكنة. غير ان التأويل المتفتح هو الذي فيه اجتهاد متجدد في مسالة التأويل وفي المنهجية. فإذن بين المؤمن والله هناك علاقة مباشرة ليست فيها تأويلات. لكن ما يلاحظ هو أن الفقهاء قي بعض العقائد يأخذون التأويل كحقيقة نهائية. وهذا في الحقيقة عنف ضد التأويل. ومن هنا، فإن التسامح تأويل: أن تؤول وتترك للآخر حرية الحوار. هنا تدخل، بطبيعة الحال، بعض الحدود. هناك أشياء نسبية ينبغي أن تحترم. لست أدري إن كنت قد أجبت عن سؤالك.
– هل يمكن أن نعتبر هنا أن مفهوم التسامح هو امتداد لمفهوم الاختلاف؟
– للإجابة عن هذا السؤال، اسمحا لي أن أتحدث قليلا عن نفسي، إن حياتي تشبه مختبرا صغيرا محمولا، فأنا الآن أنصت إليكما وأتتبعكما وأحاول الإجابة. وإذن، فأنا دائم الاشتغال، ولا أكف عن العمل. أنا نفسي مطروح كعنصر في التحليل، فلا يمكن أن أنظر إلى نفسي من الخارج. هناك مفاهيم موجودة منذ القدم، منذ بارمنيدس وهيراقليطس، وهكذا، ففي كل فترة معينة أحاول استعمال مفاهيم موجودة أو اختراع مفاهيم جديدة وحتى أعطيكما مثالا على ذلك، أشير إلى أن ثمة بعض المفاهيم التي قمت بوضعها، واتسع استعمالها في العديد من المحافل الدولية، كما أن الكثير من المحللين بدأوا يشتغلون بها. وبعض هذه المفاهيم هي مفهوم البينية (لغة بين لغتين) ومفهوم الأجنبي المحترف، ومفهوم L’AIMANCE الذي ترجمه أدونيس بالتحاب غير أن هذه الترجمة غير موفقة. الحب له معنى محدد: هناك المحبوب والحبيب، أي عنصر سالب وعنصر موجب. وأما مفهوم L’AIMANCE أن هناك اثنين يحبان الحب، أي أن الحب هو المحبوب من طرفهما. فهو إذن يحرر الفكر والجسم والروح في اتجاه هدف مشترك: هما معا يوجدان في الصداقة والمحبة حسب القدماء. وباختصار، فإنني آخذ بعض المفاهيم التي تستعملني وأستعملها، وبعد ذلك تأتي أشياء أخرى…المهم عندي هو أن أفتح أبوابا للفكر والتساؤل، ولمنهجية العمل الثقافي.


الكاتب : إعداد وترجمة: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 23/03/2023