من رسائل عبد الكبير الخطيبي إلى غيثة الخياط 15 : الرسالة 36: النسيان علامة على الاعتراف

«مراسلة مفتوحة» سلسلة منتظمة من الرسائل المتبادلة بين عبد الكبير الخطيبي وغيثة الخياط، طيلة أربع سنوات (1999-1995). انضبت المراسلات لموضوعة «التحاب» أو الانجذاب كما يفضل الخطيبي ترجمتها، وانطلقت من أرضية محددة «كتاب التحاب» Le livre de L’Aimance لعبد الكبير الخطيبي.
كتاب «مراسلة مفتوحة» قدره في عنوانه، الانفتاح والانزياح، فأثناء المبادلات التراسلية، وقع حدث خطير جدا، في الحياة الأسرية للكاتبة غيثة الخياط، وهو وفاة ابنتها الوحيدة. وبدل أن يتوقف المكتوب L’écrit، انفتح على أبعاد أخرى، وانزاح إلى موضوعات غير مدرجة قي الاتفاق المشترك والعقد الضمني بين الكاتبين. «إنه عقد ضمني، بشكل من الأشكال، يقول الخطيبي، تركناه مفتوحا على كل الاحتمالات». انتصرت الكتابة على الموت. وحولته الكاتبة إلى موضوع للكتابة ومادة للمبادلة التراسلية، كما هو واضح في رسائل للخياط ترثي فيها ابنتها الوحيدة «عيني» وتتفجع على أمومتها المفقودة وتنتقد فيها الممارسة الطبية، وهي الطبيبة في اختصاصات متعددة.
حضرت تيمات وموضوعات لم تكن مبرمجة من قبل: الفن، العداوة، السياسة، الزمن، السفر، الألم، العلم، الطب…إلخ.
صحيح أن الخطيبي رجل حوار، حوار منسق ومنظم سواء مع نظرائه أو قرائه أو طلبته. يتعلم حتى من طلبته. يمدد الحوار والمحادثة بتجربة الكتابة ويعده موردا للإغناء والتثمير يقول: «ففي بعض الأحيان يحدث لي أن أكتب أشياء بعد محادثة، كما لو أنني أمدد بالكتابة الحوار. وفي أحيان أخرى يمنحني الآخرون أفكارا، لأن في التبادل هناك اللغة. والحالة هذه، فاللغة تعيش في الجسد، وفيما أسميه الذكاء الحساس للجسدl’intelligence sensible du corps، ويترجم بالانفعالات، والأحاسيس، وطريقة الكلام، والأسلوب، كل ذلك مصفى بواسطة الذكاء الحساس للجسد؛ وبذلك فإننا نراه في طريقة الكلام، وفي طريقة الكتابة. فالحوار مؤصَّل في الحياة، وفي اليومي.»
لا تقرأ مراسلات الخطيبي والخياط خارج السياق العام للمسألة النسائية، أي المرافعة عن قضايا المرأة ومناصرتها، وإن كان هذا الكتاب ليس الوحيد الذي يتحدث فيه الخطيبي عن المرأة، فتحدث عنها في أعمال أخرى فكرية وإبداعية من قبيل: الاسم العربي الجريح، حج فنان عاشق، كتاب الدم… علاوة على التشجيع، الذي يخص به النساء، بتقديم أعمالهن، وإشراكهن في برامج إعلامية، كما لا تخفى نسبة الكثافة في كتابات النساء عن أعماله!
يقول الخطيبي: «هناك بطبيعة الحال إرادتي في الدفاع عن المرأة وعن صورتها وما تمثله، والقول بأننا يُمكن أن نتحاور. ومن جهة أخرى كنت دائما أتساءل عن مكانتي فيما يخص علاقتي بالمرأة عموما، أو بأي امرأة على الخصوص. ولابد أن أجيب عن هذا السؤال كل يوم. عندما تكون هناك شفرة للتواصل، سواء أكانت مع الرجل أم مع المرأة، إذ ذاك يُمكننا جعل الحوار يتقدم في المجتمع. وهذا فيما يبدو حيوي لأن هناك إما الصمت أو استغلال للمرأة، لأنه عندما نعرف هشاشتها في الصورة التي تكونها عن نفسها يُمكننا دائما أن نجعلها قابلة للعطب. إذن أولئك الذين يتلاعبون بعلاقتهم مع النساء يتحاشون الحوار؛ فهم يستخدمون هذا الضعف لمصالحهم الخاصة».

 

صديقتي،
عندما تكاد تقترب نهاية السنة، فنحن نلج الفكر الحالم للزمن. أتوقف، نتوقف مرارا عند هذا المنعطف، هذا العبور، هذا الحد الفاصل، حيث يلزم أن نقول وداعا. لكن ما الذي نوعه؟ إنها اللحظة التي تتحول فيها هشاشة الكائن، -حنيننا- إلى حفل. أحب الطقوس الاعتيادية للاحتفال. من المؤكد أنها تجمع، وتنشط روح الجماعة. ونحن في أمس الحاجة، إلى أن نكون مغمورين، بصداقة القريبين والبعيدين، وحبهم.
أحب أيضا كلمة «الأفقي» Horizontain، فهي تحيل على اجتراح في المجهول. وإذ نسمي المجهول، فإننا نخاطر بثرثرة، وإبحار في الكآبة الثاوية فينا. لكن، ومثل الكثيرين، أبحث داخل التسمية، عن نوع من العلاقة، بما هو غير قابل للإتلاف indestructibleفي الإنساني. أسألك: ما هو هذا الشيء العصي عن الائتلاف؟ نحن نكتب رسائل، وجميل أن نستمر فيها، بكل حرية: هذه الرسائل هي أصلا علامات تعود عودة، وتنسج رابطة من التواد بيننا. تبني صورة للحياة، من حيث، هي ذاتها، إيقاع وترنيمmodulatio. تذكري كلمة «تحاب». هذه الكلمة تستهدف هذه الرابطة، وهذا التحالف مع المتقدم من الوقت، في أجسادنا، الأكثر حساسية.
إنه لأمر مثير للإعجاب، ما تحكينه عن مغامراتك، في منحدر أحد الأهرامات، أو في مناجم جنوب إفريقيا! «في بطن الأرض» كما تقولين. أتذكر أسطورة لهذا العصر الفرعوني: الميت الذي يرسل مضاعفا يعيش مكانه، على الأرض، بينما هو يبحر على متن قارب الأبدية. انطباع رائع لمحو الزمن، وبالتالي صورة الموت! غير أن هذا المضاعف أو العائد، أليسا مجرد هلوسات، أو أوجه تعيش في اليومي؟
يتعلق الأمر عندي، منذ زمن بعيد، بتعزيم exorciserعلى الثنائيات: ثنائية اللغة، ثنائية التقليد. توحيد الطريق في الحياة والفكر. من هنا إلحاحي، في محكياتي على «ربما». هل لاحظت ذلك؟ أكتب جانحا مائلا إلى إمكاناتي المضمرة، من نص لآخر. يحدث لي أن أكتب، ما نسميه شذرات، على شاكلة الكتاب الأخلاقيين والشعراء. هذه الشذرات هي، بشكل خطير، أقرب إلى الصمت، والنوتة الحادة note incisive، والتوقف أمام الفراغ. لكن الفراغ يرسم صورة، مشهدا، هيئة، طيف كائن. ظهور واختفاء، أخذ نفس، عاصفة وريح هوجاء، محور الرقص والرغبة.
فما تأتيني به كل سنة، مثل حياة مجهولة، لا أملك غير أن أتلقاه مثل نعمة، وكعطية، دون أن أتساءل، عما تخبئه لي كمفاجأة. تصوري للحظة، أننا نحن -أنفسنا- لقيات واكتشافات للقدر. الصحراء، والمعاناة يشرعان في التحرك، حينما نصير غير مبالين، بأي شيء، وبالتالي فنحن موحدون داخل العدم.
لا أتحدث عن أمل يتراءى وراء الغيوم، بل عن خط التلاشي ligne de fuiteفي حياتنا. «الأفقي»، ذاك أو تلك، من يتمسك بإرادة (أكيد هشة) لما هو غير قابل للإتلاف في الإنساني l’indestructible de l’humain. هذا أعتقده تفكيرا، لكن «الاعتقاد» و»التفكير» متناقضان. البحث عن خط الوسط، الذي يقطع الأفق، بمجاوزة كل ماض.
أجل، تعشيت ذات مرة رفقة «ألكسندر مينكوفسكي» Alexandre Minkowski في بيته، الموجود بزنقة «ريفولي» Rivoli بباريس. مرت على ذلك عشر سنوات. يا له من إنسان شغوف! أحتفظ له بذكرى مطبوعة، بالدفء والمؤانسة. لا أذكر ما دار بيننا من أحاديث. فالنسيان أعده علامة على الاعتراف. أقول لنفسي أحيانا: انس الماضي، والأجداد، وكل ما يتبع ذاك أو أولئك. غير أن صوتا آخر يستعد لمحاسبتي، على ما اقترفته من ذنب. لا نخرج من الشعور بالذنب، لكننا نستطيبه، يوما بعد يوم. الكثير من الخفة إزاء الندم، هو أيضا مسألة في فن العيش. عند انقضاء كل عام، أنتظر وعودا سخيفةّ، ومسرات مباغثة.
هذه بضع كلمات، بطريقة المودة السنوية.
عبد الكبير
الرباط، في 22 دجنبر 19972


الكاتب : عبد الكريم الخطيبي

  

بتاريخ : 12/06/2021