من رسائل غيثة الخياط إلى عبد الكبير الخطيبي 17- الرسالة 49: بساتيني من القارئات الأميات أفضت بي إلى مصاف الكتاب الرديئين

صديقي،
تحت صداقتك، التي نصبتها رسما لخيمة، أكتبك إليك من الدارالبيضاء وهي ليست، على الأرجح، مكانا نستطيع فيه الكتابة، كتابة أشياء عميقة ومستدامة. لا أرى تحت “الدارالبيضاء” إلا فواتير تناسبية، أو عروض أسعار للتجار، والبنكيين، وأصحاب الصناعة، وكل الأشخاص الضروريين، في اشتغال المدينة وأدائها.
أما المدينة التي نحلم بها، أنت وأنا ونظراؤنا، فهي مدينة الآداب والفنون، خيالية أكثر منها واقعا ملموسا، تعمل رغم ذلك، على الدفع بإطلاق إبداع متين، لهؤلاء الرجال والنساء، تجارا، ووكلاء الصرف، ومهندسين؛ زعم بسيط ونهائي: الإنسانية في حاجة إلى هذياناتنا حتى تتفتح.
في طي عباراتك الواردة في رسالتك الأخيرة، أربع نقط خطيرة. سوف أبذل جهدي للجواب عنها؛ لأن قلمي صار، لفترة، غريبا عجيبا، ورافضا أن يطاوع فكري. كان بودي، لو أن أحدا يساعدني، في “تدبير” كتابتي؛ لأنني فقدت عيني، وكذلك نمسك بيد أعمى لعبور الطريق. هذه واحدة من النقط التي تثيرها: “إذا كانت عباراتك مركبة طوعا للتيه، لا أفكر سوى أن أكون مسرورا”
باستطاعتي كتابة رسالة كلها، الحالية، حول هذه الملاحظة، إذا لم أتخوف من الضياع في الأشكال الأسلوبية، وحياكة زربية من الكلمات، تصل إلى فردوس النفس.
أرغب، ببساطة، أن تفهمني حتى لا تكون مراسلتنا مناجاة، وتوحدا، وسوء فهم.
يبدو لي أنني قد أكون منزاحة متهربة؛ لأنني أعرف أن قراءك يجدونك منزاحا متهربا. عصيا على الفهم، بل حتى غير مقروء عند بعضهم. سأقول لك ما هو أسوأ ومؤلم: تدربت على كتابة “سهلة” ومتاحة، وفي المتناول لأكون مقروءة. يا للخطأ! ويا للفظاعة! فلربما فاتني منجز عبر المجاملة، أو باحترام القارئ المتوسط. لكن، في الواقع، كان لدي افتتان متعدد ب”جورج باطاي”، والسورياليين، وخاصة جويس منصور، صاحبة كتابات غير معروفة كثيرا.
أحب انزياح “مارغريت دوراس” عن الكلمات، ثمل المعنى والحمولة، والحدة المفرطة في إتقان الكتابة لـ»مارغريت يورسنار» Margarite Yourcenar. لكن بساتيني من القارئات الأميات أفضت بي إلى مصاف الكتاب الرديئين والصغارـ في العالم الثالث.
إذا، أطلب منك اصطحابي إلى سديم متوهج، وإلى نصوص تكون برسم الطلاسم، لكل هؤلاء الذين لم يتعودا على رحابة الأجنحة، والفكر المنبهر بانبهاره الخاص.
نحن نخاطر في أن تصير مراسلتنا غير مقروءة، لأحد غيرنا أكثر منا: لكن، يا له من امتياز !
سأتوقف قليلا عند هذا، وصمتي الداخلي، سيسمح لي تناول، فيما بعد، بقية النقط التي أرغب أن أكلمك فيها. صندوق آخر متشابك متراص داخل التشابك والتراص. قد لا تقرأ مراسلتنا أبدا لكن لها قصة. لم يكن بوسعي أن أحكيها لك إلا في رسالتي الأخيرة، وليس النهائية، لكن الأخيرة؛ لأننا لن ننقطع عن الكتابة قط.
كثافة رسالتك دفعتني لمكاتبتك جوابا عنها. لكن من العبث. كلماتك عبرت الزمن والثلاث النقط الأخرى تثير في أفكارا مختلفة عند كل قراءة ثانية. الصمت، والذاكرة، والموت. لم يعد يشغلني قط إلا وجودي -في- العالم الراهن. في الصمت، والذاكرات المأساوية تنشد المديح الأبدي للموت.
وعلى العكس من ذلك، فلديك إمكانا ثنائيا للإحساس، وبغرابة شديدة، بجعل هذا الإحساس فكرة لا مادية تماما، مما يمنح ما تكتبه، تأرجحا غير مألوف وساخر. تقول، وأنظر إلى ما تقول، بطريقة مستحيلة، طالما أن كلماتك، هي في ذات الوقت، الأجوف وقمة الموجة.
صمت، قدرة على النسيان، تحاب. فهكذا على كثبان الزمن، أن تدفن معاناتي. لكن إنها شوكة ذكرى، حاملة صباحا «اليوم نحو توهجه» -كلماتك-، تقذفني، بعنف مفرط، نحو وضعية وقوف.
«العذراء واقفة»… وبالتالي تشتت الزمن، في هذه السلسلة اللامتناهية، من الثواني. عشت خلالها خارج الذات، رغما عني، بدون الآخرين.
تصحر في ذاتي، يشتغل بمكر. ذاكرتي الشريرة تذكرني بكل هؤلاء الذين حاولوا استخراجي من الحمم القاتلة حيث فيها صلابتي. منهزمة، بسرعة، بالمهماز الذي يسحبني في هذه الكاتدرائية الهائلة لذكرياتي. تقول ذكرياتي إن الأنجلوسكسونين يلينون داخل مقاطع الألفاظ، والكلمة ذات ثقل.
من المؤكد جدا أن بينك وبيني «خيط أريان» وبضع دعامات، انطلاقا منها مازال من الأفكار ما يقودني ويوجهني. من حسن الحظ، أن علينا الشروع في غرس الأحجار البيضاء للأصبع الصغيرة، منذ زمن بعيد على محنتي، في غابة الزمن. فهذا يعني بلا شك، أنني في حاجة لأقرأك أو لأكتب إليك. وها هو ذا الفعل le verbe الأكثر أهمية في الحياة.
بقيت بضعة تعبيرات للوجه، وأخرى لنبرات الصوت. وكثير من صيغ التحاب العقيمة.
صديقي،
أكتب إلى أرتوي. أكتب بأنفاس متفجرة. أكتب دون نظام. أكتب حتى لا أقتفي آثار صادق هدايت و «ستيك داجرمان» Stig Dagerman. لم أستطب العيش، وهما ميتان و»تحابي» لهما لا يفيدهما في شيء، وهما ما عليه اليوم. أكتب بسرعة. أكتب كتابة سيئة. لن يتوفر لي الوقت، لكتابة ما أريده حقيقة. غير أنك إذا قرأتني «على أفضل وجه»، فلن يذهب شيء سدى.
الإثنين 02 نونبر98


الكاتب : ترجمة وتقديم: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 03/05/2021

أخبار مرتبطة

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

: داخل مجتمع اللاتلامس، لم تعد نظرة العشق الأولى موضوع تبادل في الشارع، أو داخل حانة، أو في عربة من

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *