من رسائل غيثة الخياط إلى عبد الكبير الخطيبي -7- الرسالة 47: نحن في حاجة للتحدث مع كائنات قادرة على التفكير

«مراسلة مفتوحة» هي سلسلة رسائل كتبت ما بين دجنبر 1995 و أكتوبر 1999، بين غيثة الخياط، هي في ذات الوقت كاتبة ومحللة نفسية، وعبد الكبير الخطيبي، وهو كاتب أيضا وجامعي وباحث في العلوم الإنسانية. وهما سويا ينتميان بذلك إلى الحضارة الإسلامية ونظامها الاجتماعي الأبوي. وهي تعرض تبادلا خاصا وأكثر تفردا في العالم العربي.
«مراسلة مفتوحة» هل هو فن للصداقة، أم شكل أدبي عبر الرسائل، أم رغبة في التقاسم الفكري، أم صيغة لركوب المغامرة؟ هكذا سأل الناقد حسن وهبي صديقه عبد الكبير الخطيبي.
أجاب الخطيبي: كان لها هدف إجرائي واضح: الإعلان عن صداقة فكرية بين امرأة ورجل، في العالم الإسلامي ونظامه البطريركي. فهي أكثر منها شهادة، هذه المراسلة المفتوحة تراهن على الحقيقة الخطيرة، عبر هذا النوع من التبادل. كسر بعض المحظورات التي تكبل النقاش العمومي بين الناس، منشورا ومقروءا ومتداولا بالنسبة لإمكانات أخرى من النقاش المكبوح بين الرجال والنساء، كما يقول الخطيبي في تقديمه لهذه المراسلة.
ومن الخطأ مقارنة هذه الرسائل، بتلك المتبادلة بين مي زيادة وجبران خليل جبران؛ لاختلاف طبيعة العلاقة بين هؤلاء، بين الحب والصداقة، وبين العلاقة العاطفية والصداقة الفكرية. وهو سوء الفهم لصق بذهنية البعض. لكن غيثة الخياط نفت هذه الشبهة، ذات الهيمنة الذكورية. ولو كان الأمر صحيحا لجهرت به، كما تكرر دائما، بقدر ما جرأت على الكتابة معه، وليست عنه كما تؤكد أيضا.
انضبطت الرسائل -بلغت تسعا وخمسين رسالة- منذ البداية لمفهوم «التحاب» الذي عرفه الخطيبي، في تقديم الكتاب، كالآتي: « أقصد ب «تحاب» لغة الحب التي تثبت المحبة الأكثر نشاطا بين الكائنات، والذي يستطيع أن يمنح شكلا لتوادهم ولمفارقاته. أنا مقتنع أن محبة، من هذا القبيل، بإمكانها تحرير بعضا الفضاءات حيث تحظر المباهج بين الشركاء. مكان للعبور والتسامح، معرفة بالعيش المشترك بين الأجناس والحساسيات والثقافات المختلفة»
حرص الخطيبي على تحويل الكلام إلى كتابة رغبة منه في التوثيق، وإيمانا منه أن البقاء للأثر في مواضيع تناسب الصداقات الفكرية، ومقاومة للنسيان الذي يعتور الكلام.
مر أكثر من عقد ونصف، على صدور هذه المراسلات بين دفتي كتاب «مراسلة مفتوحة» تتأسف غيثة الخياط متحسرة على أن هذه المراسلات لم تعرف طريقها إلى لغة الضاد، وتعتبر الأمر كارثة، في حين ترجمت إلى لغات أخرى كالإنجليزية والإيطالية.
تحاول الخياط استعادة رسائلها. وقد كتبتها بخط اليد وأحيان على ورق رسمي. وقد صارت الآن إرثا لعائلته قبل أن تصير إرثا للذاكرة الثقافية لمغربية، في انتظار تأسيس «مؤسسة الخطيبي».
كتب الخطيبي مقدمة قصيرة للكتاب واختار عنوانه وناشره. لكن الخياط ستكتب مقدمتها في النسخة المترجمة إلى الإنجليزية ولم يقيض للخطيبي قراءتها لأنه كان يحتضرـ كان ذلك اليوم 16 مارس 2009.
لم تعرب الرسائل، وهم ما حز في نفس الكاتبة. واعتبرت الوضع كارثة في العالم العربي، وهو المعني بمحتواه أكثر من البلدان الأخرى. تمنت لي غيثة الخياط قراءتها بالعربية فانجذبت إلى ترجمتها، إلى اللغة نفسها. وقد أذنت لي بذلك ووافقت. كانت الخياط حافزا مباشرا لإنجاز ترجمة هذه الرسائل ورسائل أخر. لعلها تكون بداية لترجمة العمل كاملا. وأنا متيقن أنها ستسعد بذلك. وهي المعدودة على الحركة النسوية.

 

يا صديقا،
يا صديقا! لا أقدر على قراءة رسالتك الأخيرة حرفيا، دون الارتماء في أحضان الذاكرة والسفر والموت.
أغبطك على ذاكرة خف ثقلها. أما ذاكرتي أنا فدابة مثقلة تتعرض للسقوط: لقد رأينا حيوانات أصيلة تنهار في حركات كبيرة من الأرجل. يرهبني سقوطها. لا أستطيع نسيان أي شيء. إضافة إلى أن تحليلي الشخصي استعدت به كثيرا طفولتي والتي أعرفها في أدق تفاصيلها بقدر ما أعرف مراهقتي.
أغبطك أيضا؛ لأنك لم تعرض نفسك على التحليل النفسي. يا صديقا، هنا أحتاج إلى عشرين صفحة من الكلمات لأقول لا حل للعلل والأعطاب في طريق محفوف بالمخاطر.
أتأسف أساسا على عدم توفر محلل يونغي (نسبة إلى يونغ). فرويد ولاكان أودعاني جزءا لا يستهان به لهلاكي وخرابي. من بعد هؤلاء علم الوراثة نمط لا يمكن تجنبه في نهاية القرن العشرين، يأتي ليتم بقية «العمل» ويمنحني نعمة «المرور» العسير… ما أنا إلا حمض نووي متفاعل مع وسط بيئي؟
وأخشى إقحامك في تشعبات طبية أوعلمية وبهذا أتوقف عن هذا الإطناب.
لكن، انظر، عند هذا المستوى من التفكير، نحن في حاجة للتحدث مع كائنات قادرة على التفكير، وإرسال انعكاس غير مرموز، مشذب منقح نحو فكر يعاني… لا، لم أعد أسافر إلا للضرورة القصوى والملحة. ولك أن تتخيل ما لا تطيقه حالتي علما أني كنت فيما مضى أجتاز الأرض طولا وعرضا؟
إذا، أنا باقية هنا خلال هذا الصيف. والصيف القادم والذي يليه، إذا بقيت دائما على قيد الحياة…
أحس إحساسا عميقا -ومدهشا – أن أي موضع على الأرض هو بالنسبة لي نفس أي موضع آخر في العالم. جملتي مركبة طوعا قصد الإضلال. هنا أوهناك، هنالك أو بعيدا جدا، ليس ثمة مخاطرة شديدة ولا حظا ولا فرصة.
ما عشته بوضوح: هكذا ألغيت الفضاء ولم أكن أعتقد أبدا أنه يوجد تصور مثل هذا.
بقي لي مواجهة متغير ثان: الزمن!
اعتبرته جامدا ماضيا محددا بصفة نهائية.
ما أتيت على قوله هو شديد الخطورة. أنا إذا ميتة. غير أنني أعرف هذا.. أنا أول كائن يطالب بأن يكون حيا-ميتا، وهو ما أسميه مظهرا خداعا. وبالتالي فأنا لست إلا ظلا لذاتي عينها تتولى ظلا آخر دقيقا على نحو فريد وفي صيرورة. لن أكون أبدا بالنسبة لعبد الكبير الخطيبي» حيوية، بداهة، نكهة المبادرة»، وهي كلماتك الخاصة بك. حيوية ومباشرة هما حركة ودينامية، وترتبطان أكثر بالتنقيب في الفضاء. وهما مبتهجتان بسرعة البداهة.
تتطلب «نكهة المبادرة» وقتا لإنجازها. قال النبي عيسى وهو يحتضر: «كل شيء مكتمل! « هنا ينتهي الزمن والفضاء، عدا أشياء لا هوادة فيها، تتفاعل مع العالم، لكن مع الكائن البشري خاصة.
في هذه الرسالة أنا متسارعة في الموت، لأنه عندك مطروق باحتشام وبمرور الكرام. إنها لفرصة أجمل لي أن يلهو بي بين مخالبة! طبعا لا تخوف لدي من الحديث إليك عن هذا العدو الخسيس، الذي يسحق بعماء وجنون. لا تتجشم العناء أو أن تنساق في مراسلة تصل إلى ما بعد…معان.
لقاءاتك مع الموت تكلمني عنك. الأخ، عبد الوهاب، عبد من يهب. موت أصغر، اعتباطي بالكاد في الطفولة الثانية؛ وفاة الأب وعمرك تسع سنوات هذا يعني أن أخاك يكاد يكون أكبر منك سنا مات وأبوك ما زال حيا يرزق. إلا أنه سيموت بعد ثلاث أو أربع سنوات بعد وفاة أخيك، لتبدأ حياة طفل صغير آخر…أعلم أن لي نفس العمر الذي هو لإحدى أخواتك والتي لو قيض له أن تعيش لكانت معاصرة لي.
ثمة تعارض في الأحاسيس في أقوالك يطوقني يلفني في موجة من الفهومات المتعددة. وأصادف عبارة قطعت لي العلاقة بالكتابة إلى صورتين مرسومتين للاهتمامات العميقة والقريبة بغرابة:» ختمت ميثاقا بما يتجاوز ما يتعذر فهمه»
وأنا أكثر من الاستشهاد بك في رسالتي هذه، أشعر أنني أنساق وراء شرح نصوص. لكن كلا! إنني أتجاوز هذا في حديثي، بضعة سطور أعلى من ذلك.
إنها المرة الأولى التي نتصارع فيها مع الموت كتابة. تكلمنا في الموضوع في بيتي ونحن نتحدث عن «عيني»، تبادل أردته نبيلا وشريفا وصوفيا ورفيعا.
لكن، من الواضح جدا، أننا نوجد في موضع آخر ذي تعبير ممكن عن حياتنا وبالتالي عن موتنا. وهذا ما يتعذر قوله أو كتابته طالما أن استحالة وصف هذين اللغزين والتعبير عنهما تنفلت من كل تأطير إبداعي. كل مبدع يكون أكثر إثارة وإبهارا يتاح له فقط الاشتغال على جزء من القضايا العويصة.
وأنا بروما (القديس بطرس) أمام la pietà الشفقة ل»ميكيل انجلو» انتابتني جملة من الأحاسيس الغريبة. هذه امرأة شابة آية في الجمال، تمسك بين يديها رجلا مترهلا تخاله أكبر منها سنا. إنسان ميت. وهي عبارة فرضت علي: امرأة جميلة للغاية غارقة في التأمل لم تفقد ابنها بل ربحت لله! «ثم إنني لم أتأكد بعد ذلك إذا لم يكن النحات هو «ليوناردافنتشي». لا يهم. هذه القطعة الأثرية تطرح مشكلة الموت في كل أبعاده. لا تقدم حلا بشأنه.
أظل بعيدة عن اهتمامك السياسي الراهن. لكن أنت تعرف…
مودتي وانهمامي بما تتوقع.
الدارالبيضاء، 20 يوليوز 1998


الكاتب : غيثة الخياط

  

بتاريخ : 21/04/2021