من مقدمات الخطيبي (16) مهنية الفنان قيمته الفعلية وحساسيته تجاه العالم

“من مقدمات الخطيبي” إضمامة من الاستهلالات، قدم بها الخطيبي بعض أعماله وأعمال غيره في الفكر والإبداع. وهي في إبداعه لا تتجاوز نصا مسرحيا واحدا، ووحيدا في كتابته المسرحية، وهو “النبي المقنع” الصادر عن دار “لارمتان” L’Harmattan في 1979.
قدم الخطيبي أعمال مؤلفين معروفين، وآخرين ليسوا بالقدر نفسه. كما قدم لنساء كاتبات مغربيات. وكانت له استهلالات في المجلتين (المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع، علامات الحاضر)، ووقع مقدمات أخر بالاشتراك.
ونصادف في مقدمات الخطيبي الأكثر ترددا: التمهيد Avant-propos، الاستهلال Préface، التقديم Présentation، الديباجة Prologue، الاستهلال البعدي Postface، الافتتاحية Préliminaire، أو بروتوكول… وهي تصنيفات-رغم تداخلها- صالحة لتأطير ما تثيره كل مقدمة من قضايا حول المؤلف، وتشكل النص، وإضاءات لولوج عالم الكتاب…
غير أننا نعثر على مقدمات، لا تشير إلى نفسها بهذه التسمية، بل تأخذ عنوانا مستقلا حل محلها، أو عنوانا مصحوبا بها.
ليست المقدمة ملزمة ولا ضرورية، في كل كتاب. إلا أنها تستمد قيمتها مثل باقي المتوازيات والمناصات والعتبات. وغالبا ما يعدم حضورها في الهوامش والإحالات، وكأنها خارج النص hors livre بتعبير جاك دريدا.
ورد في كتاب “التشتيت” La dissémination “تكون المقدمة لنص فلسفي غير مجدية ولا حتى ممكنة”. فهل كتب الخطيبي مقدمة فلسفية؟ هذا الحكم القاطع لجاك دريدا يعفينا من إثارة هذا السؤال أصلا؛ فكتابة الخطيبي المتعددة، لا تيسر تأطيره في خانة معينة، فالخطيبي ليس رجل المفاهيم، ولا نعثر له على كتاب فلسفي بالمواصفات الفلسفية، إذا استثنينا “كلمته” التي قدم بها الكتاب الفلسفي لعبد السلام بنعبد العالي: “الميتافيزيقا، العلم والإيديولوجيا”.
ويكاد المنجز الإبداعي لعبد الكبير الخطيبي، يخلو من مقدمات، باستثناء كتابه المسرحي الآنف الذكر. والذي استهله بديباجة Prologue.
لكن، من يقرأ منا كتابا بدءا من مقدمته؟ من يقرأ مثلا، مقدمة “لسان العرب” لابن منظور (1232-1311). الجواب السهل: قليلون نادرون هم من يقوم بذلك. يكشف الناقد عبد الفتاح كيليطو، في إحدى شهادات عن قراءته لمقدمة ابن منظور، وهو أمر قد لا يعني شيئا، للكثيرين من متصفحي هذا المعجم النفيس. ليذكر ما قاله: “جمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون…وسميته لسان العرب”.
حظيت مقدمة ابن خلدون بذيوع صيتها، أكثر من كتابه المقصود بها: “العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر”. وحسابيا، حبر الفيلسوف نيتشه من المقدمات أكثر مما ألف من الكتب. وهذه لعمري معادلة غريبة! ومهمة مستحيلة كما أثبت ذلك “دريدا” وهو يفكك مقدمة “هيجل” في كتابه “فينومينولوجيا الروح”.
ولا تخفى الأهمية من تجميع مقدمات الخطيبي، سواء تلك الواردة في مؤلفاته أو مؤلفات غيره أو في المجلتين اللتين كانا يديرهما. وتوفير بعض منها، في هذه الإضمامة، عرضا وترجمة، تثمينا لهذه العتبات النصية وتبريزها.

 

لا يمكن أن نعتبر الاحتفال بفناني منطقة خاضعا لمنطق الجهوية. كما لا يمكن أن نعتبر أنه يكفي ليكون الشخص فنانا، أن يزداد بدكالة. إن الإنسان يولد بمنطقة ما، ثم يصير فنانا جيدا أو متوسطا. ما يهمنا هنا هو تمكن الفنان من مهنته، وقيمته الفعلية، وحساسيته تجاه العالم. إن ما يجمع هؤلاء الرسامين، هو حبهم للفن بما هو كذلك، والذي يتجاوز ذاكرة المكان المحدد. لكن مكان الولادة يترك آثارا وبصمات في قلب كل عمل راشد. فكيف يمكننا التعرف على الذاكرة الحية لمكان ما؟
يغرق الفن المسمى جهويا، في جميع أنحاء العالم، في الغرائبية، ذلك أنه ليس بمجرد رسمه لسباق الخيول بمولاي عبد الله، يصبح المرء فنانا؛ لكنه يصير كذلك إذا أحسسنا بالخيول طائرة تسبح على علو من الأرض، مندمجة مع الخطوط والأشكال والألوان، بين الأرض والسماء على ضفاف المحيط. أليست الطبيعة هي التي يجب أن تؤخذ في حركتها وعنفوانها الراقص؟ لذلك فإن الفنان لا يشخص الطبيعة كما هي، بل كما تحولت في انفعالاته، وإدراكه وتمكنه المهني.
لكن الغرائبية المحلية ليست بدون جدوى. إنها ساحرة تحيي الذكريات والحنين إلى الأمكنة، كما أنها تعيدنا إلى الانبهار بمكان الولادة، إلى الأشكال الأولى لعالمنا المعهود؛ لها شخوصها وأمكنتها، نباتها وحيواناتها، أبالستها وملائكتها. تلك علامات لذاكرتنا البصرية.
هذا أيضا هو أول وطن للفنان؛ أما الوطن الثاني فهو الرسم، الذي هو أصلا عالمي رغم أنه نشأ بالغرب كما يزعم ذلك تاريخ الفن الذي نشأ بدوره بالغرب. لكن لكل حضارة فنها الذي تجعل به العالم مرئيا. هنالك، حسب بعض الأدباء، ثلاثة أنواع من الحضارات: حضارة العلامة (العلامة المكتوبة أو العلامة بصفة عامة)، حضارة الصورة، وحضارة الإيقاع. تنتمي الحضارة الإسلامية، حسب هذا التقسيم، إلى حضارة العلامة. والاستعمال -المبالغ فيه- للخط العربي والوشم والزليج ورسوم الزرابي في اللوحة المغربية يؤكد لنا ذلك. ولنا في هذا المعرض عدة أمثلة من ذلك. إن الفنان يتأثر بأشياء عديدة، أي بطرائق عدة ليجعل العالم مرئيا.
قد يحدث أن يستلهم الفنان المغربي الصور الشعبية والعلامات، وفي هذه الحالة يمكن اعتباره جهويا، أي أن عمله يستحيل إلى بطاقة هوية لمتخيلجهوي: تتعرف عند ذلك في عمله على قبة ضريح أو جزء من الزليج أو شذرات أخرى من هذه الصور الشعبية المستعملة كتزيين لتميمة ذاكرتنا. لكن ما يؤسس قوة عمل فني ما هو بناؤه، إيقاعه وتمكن صاحبه من أدواته؛ وهذا ما يختبئ وراء إعجاب المتلقي. إنها حدة الحياة التي تغني بصرنا؛ وللبصر تاريخ. نحن لا نشاهد سباق الفرسان بطريقة دولاكروا، بل ربما بطريقة بيكاسو أو ميرو أو آخرون أكثر حداثة. إن منطق تقسيمنا الفني هو في الآن نفسه جهويا وطنيا وعالميا. ثلاث محطات للهوية التشكيلية.
لكن كيف ننتقل من الجهوي على الكوني؟ أطيد أن ما يدعى بالكونية الفنية، من وجهة نظر سوق الفن العالمي، ما هو إلا شكل فني محلي عمم على العالم؛ لكن نزعة على العالمية. لقد تحدثنا من قبل عن البناء والإيقاع والتمكن المهني في العمل الفني. ماذا يحكي الرسم الذي نقدمه اليوم للمشاهدة انطلاقا من هذه المحطات الثلاث. إن مهمتنا صعبة: تقديم رسامين باسم جهة مع فكرة الدفع بهم إلى مصاف الفنانين العالميين. إنهم يأتون من الدارالبيضاء، من الجديدة، من أزمور ومن باريس، إما بحكم أماكن سكناهم أو أماكن تكوينهم الفني. إنهم، وعلى الأقل مجموعة مهمة منهم، منخرطون في إشكاليات فنية جهوية وطنية وحتى عالمية.
إذا قاربنا أعمالهم من حيث الموضوع من حيث الموضوع سوف نخطئ كل الطروحات الصباغية المقترحة في اللوحات؛ إننا نواجه هنا مشكلة التصنيف. هل نقدمهم وفق نمذجة تقليدية من فن تشخيصي وآخر تجريدي، أم نعتبرهم في قوتهم التعبيرية الخاصة؟ هل نسائل المحتوى الثقافي والسياسي والاجتماعي والفلكلوري لكل عمل أم نكتفي بتحليل الطريقة الصباغية؟
قبل أن نصنفهم حسب انتماءاتهم الأكاديمية، يبدو لنا من الأفيد أن نقدمهم كل حسب طريقته الخاصة […]
هذه الرغبة في رؤية أعمال فنية جيدة، حرمنا منها أيضا فيما يتعلق بغياب أشكال تعبيرية غير للوحة. عندما نتحدث عن الفن، لماذا نشير فقط إلى الفن الصباغي؟ رب قائل يقول «هذه مشكلة تخص كل الإنتاج الفني المغربي»! أكيد، لكننا ننتهز الفرصة هنا لنسأل هذا «الحصر الأكاديمي». لقد صرنا نحن أيضا في هذا الاتجاه وذلك بحديثنا عن جعل «العالم مرئيا». إن حديثنا بقي حبيس مرحلة يمكن أن تنعتها بالتعبيرية: يجب على الفنان أن «يلتهم» العالم بعينيه، وأن يهضمه ثم يغيره حسب تعبيره الشخصي. ألا ترون؟ ألم نغلق على أنفسنا في فكرة ان الفن يمثل؟ لكن مع وجود الوسائل التكنولوجية والاتصالية فإن الصورة المنتجة ليست بالضرورة واقعية أو ليست لها بالضرورة إحالة في الواقع.
إن نوعا من التعبير الفني يسمح بإنتاج نوع من الخطاب: الإستطيطقات لكن وحسب آخر الأبحاث في الميدان ان نكون قد تجاوزنا دائرة الفن، تماما، ودخلنا عهد المرئي. إن الأمر هكذا! فالفن الصباغي لا يلائمه إلا الخطاب التاريخي أو الجمالي. من هنا نجد أنفسنا مضطرين إلى تصنيف هذه الأعمال وفق أطر معرفية معروفة من لدن الجميع […]
هل يمكن أن نستنتج أن للأرض دور في كل هذا؟ أكيد! إن مكان يطبع! يجب على النقد أن يبذل جهدا في هذا الاتجاه حتى يستطيع الكشف عن الأثر «الأول» الذي يؤسس النموذج المبدئي.
دكالة أرض عبور والتقاء ثقافي، إنها النقطة المركزية التي تجمع هذه الحساسيات؛ إذا كان من تحية فيجب أن توجه لهذه الأرض التي تهبنا كل هذه البدائع.
عبد الكبير الخطيبي وموليم العروسي
رسامو دكالة، هبة الأرض، نشر جمعية دكالة، 1993، ص. ص 7-8-9-13-14-15.


الكاتب : إعداد وترجمة: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 20/04/2022