في قلب المدينة العتيقة لآسفي، وبالقرب من باب الشعبة، في درب المعصرة (بصماط العدول )، يقف متحفٌ فريد لا تحكي جدرانه تاريخ مدينة فحسب، بل تختزن بين أركانه ذاكرة جماعية تمتد عميقًا في الزمن، من العادات والتقاليد، إلى الحرف والفنون، ومن الطقوس الاجتماعية إلى الرموز الدينية والثقافية التي شكّلت هوية المدينة عبر ما يفوق الخمس قرون.
هذا المتحف، الذي تحوّل على مرّ السنوات إلى قبلة للباحثين والمهتمين بالآثار والتراث، وإلى محجٍّ لزوار مغاربة وأجانب، وطلبة، ومفكرين، وشخصيات وطنية ودولية وازنة، كان شاهدا على زيارات شخصيات مرموقة، من بينها مؤرخ المملكة المغربية عبد الحق المريني، والدكتور عباس الجراري مستشار جلالة الملك، ووزير الثقافة الفرنسي السابق فريديريك ميتران، ورئيس المؤسسة الوطنية للمتاحف المهدي القطبي، إضافة إلى عائلة الرحالة العالمي ثور هايردال. هذا المتحف في ملكية جامع التحف النادرة، الأستاذ عبد العزيز المودن، أحد خدام أسفي الأوفياء، الأسفي المولد والتنشئة، وهو أيضا نحات وشاعر ، عاشق للتحف القديمة والنادرة حتى النخاع، فأخدت كل وقته واهتمامه .
غير أن هذا الصرح الثقافي، الذي ظل قائمًا بجهود ذاتية وحب صادق للتراث، تعرّض مؤخرا لضربة قاسية جرّاء الفيضانات التي عرفتها مدينة آسفي، حيث تسربت المياه إلى فضاءات العرض والتخزين، ما أدى إلى إتلاف وتضرر عدد من التحف الأثرية والمواد التراثية، من أوانٍ تقليدية، ووثائق، وآلات قديمة، وقطع نادرة يصعب تعويضها، لأنها تمثل ذاكرة غير قابلة للاستنساخ. ويزداد الألم حدة حين يُسجَّل هذا الضرر في غياب شبه تام لوزارة الثقافة، الجهة الوصية قانونيا وأخلاقيا على حماية التراث الوطني، إذ لم تُسجَّل، إلى حدود الساعة، أي مبادرة استعجالية واضحة للمعاينة، أو الترميم، أو حتى التواصل مع القائمين على المتحف، وكأن الذاكرة الثقافية لآسفي لا تدخل ضمن أولويات السياسات العمومية.
إن ما يضمه هذا المتحف ليس مجرد مقتنيات جامدة، بل هو رصيد حي من التراث المادي واللامادي: حرف تقليدية، وتماثيل ومجسمات، وآلات موسيقية شعبية، وأجهزة تسجيل وأسطوانات، وطقوس العرس المغربي والآسفي، والتبوريدة، والأسلحة القديمة، وصور ملوك الدولة العلوية، وخزانة كتب نادرة، إضافة إلى مكونات من التراث الديني لليهودية والمسيحية والإسلام، ومراحل تطور الحرف والعادات، والصيد البحري، والفروسية، والطب الشعبي، والحياكة، وصناعة الأحذية، وغيرها من الشواهد التي تشكّل فسيفساء الهوية الآسفية.
إن ترك هذا المتحف يواجه مصيره أمام الكوارث الطبيعية دون حماية أو مواكبة، هو تفريط في جزء من الذاكرة الوطنية، ومسؤولية لا يمكن تبريرها بالصمت أو التجاهل، فالدستور المغربي ذاته ينص على صيانة التراث الثقافي، كما أن المتاحف الخاصة أو المجتمعية لا تقل قيمة عن مختلف المؤسسات الرسمية. اليوم، وأمام ما خلّفته الفيضانات من خسائر، يطرح السؤال بإلحاح: من يحمي ذاكرة آسفي؟ ومن يتحمّل مسؤولية ضياع تحفٍ نادرة لن تعوّض؟ إن إنقاذ هذا المتحف، وترميم ما تضرر، ودعمه ماديا وتقنيا، ليس مطلبا شخصيا ولا محليا ضيقًا، بل واجب ثقافي ووطني، لأن الأمم لا تُقاس فقط بما تبنيه من طرق وبنايات، بل بما تصونه من ذاكرة وهوية.


