موسم مولاي عبد الله أمغار: احتفال متجدد بروح التراث والدينامية المجالية

يشكل موسم مولاي عبد الله أمغار حدثًا سنويًا استثنائيًا بامتياز يستقطب الملايين من الزوار من مختلف أنحاء المغرب وخارجه لما يحمله من رمزية روحية وثقافية وتاريخية ضاربة في عمق التقاليد المغربية العريقة ومع اقتراب انطلاق الموسم يشهد فضاء الجماعة الترابية لمولاي عبد الله حالة من التعبئة الشاملة والاستعداد المكثف من طرف مختلف المتدخلين لضمان مرور هذه التظاهرة الكبرى في أجواء آمنة ومنظمة ومشرفة
هذا الموسم الذي يُنظم في رحاب الولي الصالح مولاي عبد الله أمغار لا يُعتبر مجرد احتفال محلي أو مناسبة دينية بل هو حدث وطني يحمل أبعادًا حضارية وثقافية واقتصادية تُجسد غنى وتنوع الهوية المغربية وتمثل لحظة تلاقي بين الماضي العريق والحاضر المتطلع إلى مزيد من التنظيم والاحترافية.

 

الهوية الروحية والتاريخية للموسم

يرتبط هذا الموسم باسم واحد من أعلام الصلاح والتصوف في الغرب الإسلامي، مولاي عبد الله أمغار الذي أسس زاويته بمنطقة دكالة منذ قرون لتصبح ملتقى للعلماء والفقهاء والطلبة وقد استطاع هذا الفضاء على مر العصور أن يُحافظ على مكانته كمعلم روحي ومزار ديني يقصده الزوار من مختلف جهات المملكة طلبًا للبركة والتبرك وعيش طقوس روحانية خاصة.
ومع توالي السنوات اكتسب الموسم طابعًا جماهيريًا واسعًا إذ أصبح يشكل ملتقى سنويًا للقبائل المغربية خصوصًا من مناطق دكالة وعبدة والشاوية وشياضمة ومناسبة لعرض الفروسية التقليدية والتعابير الشعبية والفنية وكذا الفنون المرتبطة بالصناعة التقليدية والمأكولات المغربية الأصيلة
استعدادات لوجستيكية وتنظيمية مكثفة

تُشرف السلطات الإقليمية بقيادة عامل إقليم الجديدة محمد العطفاوي وبتنسيق تام مع رئيس جماعة مولاي عبد الله مولاي مهدي الفاطمي على تنفيذ مخطط شامل يهم مختلف الجوانب التنظيمية واللوجستيكية، لضمان إنجاح الموسم، خاصة في ظل التحديات المرتبطة بالعدد الكبير من الزوار، و من بين الإجراءات المتخذة:
– تهيئة فضاءات المحرك، وتوسيعها لتستوعب عددًا أكبر من السربات والزوار.
– تعبيد المسالك الطرقية المؤدية إلى موقع الموسم، وتثبيت علامات التشوير، وتحسين الولوجيات.
– تعزيز الإنارة العمومية، خاصة في المحاور الرئيسية ونقاط تمركز الأنشطة الليلية.
– تهيئة أماكن التخييم والسكن المؤقت، بما يحفظ كرامة الزوار ويوفر شروط الراحة.
– توفير الماء الصالح للشرب والكهرباء طيلة أيام الموسم، مع مراقبة جودة الخدمات المقدمة من طرف الشركات المتدخلة.
منظومة أمنية وصحية متكاملة

أُعدت مقاربة أمنية شاملة، بتنسيق بين الدرك الملكي، القوات المساعدة، الوقاية المدنية والسلطات المحلية، تهدف إلى تأمين جميع المرافق، ومراقبة محيط المحرك، وضمان سلاسة المرور وتنظيم الفضاءات، حيث جندت السلطات الإقليمية والأمنية بإقليم الجديدة موارد بشرية ولوجيستية ضخمة لضمان نجاح هذا الحدث الشعبي الكبير وتأمينه في ظروف مثالية.. فقد عبّأت القيادة الجهوية للدرك الملكي بالجديدة، بتنسيق مع مختلف المصالح المعنية، أزيد من 2200 عنصر من الدرك الملكي والقوات المساعدة والوقاية المدنية، إضافة إلى رجال وأعوان السلطة المحلية وأطر طبية وتمريضية، ضمن خطة أمنية محكمة وشاملة.. وشملت هذه الخطة تثبيت كاميرات للمراقبة في نقاط استراتيجية داخل فضاء الموسم، إلى جانب اعتماد تقنية الطائرات المسيرة (الدرون)، التي ستُستخدم لرصد التحركات والتدخل السريع في حال وقوع شجارات أو تجمعات مشبوهة، خصوصاً في المناطق البعيدة أو ذات الكثافة العالية من الخيام.. كما تم تجنيد فرق خاصة من الكلاب المدربة، القادرة على رصد أي مواد مشبوهة أو خطيرة قد تهدد سلامة الزوار، إلى جانب توفير عدد كافٍ من سيارات الإسعاف في مواقع مختلفة لضمان الاستجابة السريعة لأي طارئ صحي.. ولتعزيز التغطية الأمنية الميدانية، تمّت إضافة عشر مقاطعات أمنية جديدة، ليرتفع العدد الإجمالي إلى 20 مقاطعة أمنية، موزعة على طول فضاء الموسم، بهدف تسهيل مهام التنظيم والتدخل عند الحاجة
تظاهرات دينية وثقافية متنوعة

شكل البعد الديني والروحي جوهر الموسم إذ تنظم الزاوية الأمغارية، بتنسيق مع المجلس العلمي المحلي، سلسلة من الأنشطة الدينية تشمل:
– قراءات جماعية للقرآن الكريم.
– جلسات الذكر والتصوف.
– ندوات علمية ودروس وعظية حول سيرة الولي الصالح ومكانة الزوايا في ترسيخ القيم الروحية والاعتدال.
التبوريدة: العرض الأبرز

لا تكتمل صورة موسم مولاي عبد الله دون عروض التبوريدة التي تستقطب مئات الخيالة من مختلف مناطق المملكة يشاهدها جمهور واسع من المهتمين بفن الفروسية التقليدية المغربية.
المحركين هذه السنة سيحتضنان أكثر من 120 سربة، تتنافس على إبراز مهاراتها في التنظيم والتناسق والانضباط، في عروض يومية تحمل عبق الأصالة وروح القبيلة.

وقد جرى تجهيز المحارم وفق مواصفات تقنية عالية لضمان سلامة الخيول والفرسان والجمهور، مع توفير المنصات والمرافق الضرورية للمشاركة والمتابعة
الصيد بالصقور: تراث نبيل تحييه قبائل القواسم

من أبرز الفقرات التي تضفي على موسم مولاي عبد الله أمغار رونقًا خاصًا ومهابة مميزة، عروض الصيد بالصقور و التي تنظمها كل سنة قبائل القواسم، باعتبارها الوريث الشرعي لهذا التراث العريق، الذي يُصنف اليوم ضمن التراث الثقافي اللامادي الإنساني.
قبائل القواسم، التي يعود أصلها إلى الأشراف الأدارسة، استقرت منذ قرون بتراب دكالة وبالضبط في مناطق أولاد افرج والبير الجديد وسيدي إسماعيل، وتمتاز بتاريخ عريق في الفروسية والصيد بالصقور وحماية القوافل والأسواق. وقد لعبت دورًا محوريًا في الحياة القبلية والسياسية بالمنطقة، وكان لها حضور بارز في حماية الطرق التجارية، بل وشاركت في مقاومة الاستعمار الفرنسي في بدايات القرن العشرين.
ويُعد الصيد بالصقور من أبرز مظاهر الفروسية النبيلة والقيادة القبلية لدى القواسم، إذ توارثته الأجيال كفن قائم بذاته، يجمع بين المهارة، والارتباط بالطبيعة، وعلاقة الإنسان بالطير المدرب.
خلال الموسم، تُنظم عروض مميزة، حيث يستعرضون مهاراتهم في تدريب الصقور، وتمريرها عبر حلقات الاستعراض، واستدعائها عن بعد، وسط تصفيقات الحضور وإعجاب المهتمين بالسياحة البيئية والتراث اللامادي.
كما تُقام خيام خاصة لشرح تاريخ الصيد بالصقور، وتقنيات تدريب الصقور، ونماذج من أدوات ومستلزمات هذا الفن، مما يضفي على الموسم بعدًا ثقافيًا إضافيًا يُثري تجربة الزائر ويعرّفه أكثر على عمق وتنوع التقاليد المغربية.
وتبقى مشاركة القواسم في موسم مولاي عبد الله ليس فقط تجسيدًا لتراث حيّ، بل أيضًا تأكيدًا على استمرار التقاليد المغربية الأصيلة في ظل التحولات العصرية، وحرص القبائل على نقل هذا الموروث للأجيال الصاعدة.
رؤية الجماعة الترابية
لموسم متجدد
في تصريح خاص لجريدتنا، أكد رئيس جماعة مولاي عبد الله مولاي مهدي الفاطمي أن الجماعة واعية بثقل الموسم ورمزيته، وتسعى إلى تطويره سنة بعد أخرى، عبر إرساء حكامة تنظيمية جديدة، وإشراك كل الفاعلين، من سلطات محلية، مصالح خارجية، مجتمع مدني، ومستثمرين.
وأشار إلى أن الموسم ليس مجرد مناسبة احتفالية، بل هو رافعة تنموية حقيقية، وفرصة للترويج السياحي والثقافي للمنطقة، كما شدد على ضرورة استثماره بطريقة تضمن استدامته واستفادة الساكنة منه على المدى الطويل
خاتمة: موسم يجمع المغاربة
على محبة التراث

يبقى موسم مولاي عبد الله أمغار محطة فريدة في الثقافة المغربية، بما يحمله من دلالات عميقة تتقاطع فيها الروحانية بالاحتفال، الأصالة بالتجديد، والهوية بالتنمية، وبين صهيل الخيول، ونفحات الذكر، وحيوية الأسواق، تتجلى صورة مغرب متنوع ومتجذر، يعتز بتراثه، وينفتح على المستقبل بروح جماعية وعزم راسخ.
(*) عضو المكتب الوطني للشبيبة الاتحادية


الكاتب : محمد أديب

  

بتاريخ : 06/08/2025