مُولاي حَسن بن المهدي أَورِيدوالبَوْحُ «الدِّبلُوماسِي» مَبعثُ اليأس ونَبْعُ الأمل… (1-3)

«… لك الله والنبي… آمولاي حسن بن مولاي المهدي بن علي… لو لم تكن منحوتا من صخر تافيلالت، ولو لم ترتو من نبعها، لطار عقلك، وجنّ جنونك. «للجغرافية ميسمها الذي يطبع ذهنية أصحابها».

 

-1
… «لا شيء يعجبني…. حتى نفسي لم تعد تعجبني… كما قال «الحاج» حسن أوريد… نهاية النهايات…لكاتب ومفكر جاء من الهامش فوجد نفسه في قلب المركز… وجرّب كل المواقع، وخَبر السياسة وخبرته، فانتهى به التطواف إلى الحيرة والتيه فاليأس، فلا هو استمر في المركز، ولا هو عاد إلى الهامش… «يأسُ» الخاتمة… أم صفاء البدايات… اعترافات رَواء مكة… ذلك موضوع لحديث آخر… «تلك كانت نهاية المقالة السابقة التي وسمتها، بـ «حسن أوريد…والحق في اليأس…». وهي المقالة التي نشرتها جريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ (19/12/2020) تفاعلت فيها مع مقالة حسن أوريد وقد عنونها: «لا شيء يعجبني»، ونشرها في جريدة القدس العربي يوم 15 دجنبر 2020، بتزامن مع اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية الصحراء الجنوبية، واستئناف العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل (10 دجنبر 2020). وهي المقالة التي تناولت مجموعة من القضاياالحارقة والمخترقة لمختلف مؤلفاته وحواراته وتواصله الإعلامي، الساكنة في خلاياه، العابرة لجل ما يكتب، فكرا وإبداعا، كانت وراء الإحباط الذي أصاب مولاي حسن أوريد حتى بلغ حد اليأس، وصار لا يعجبه شيء، من موقع رجل الدولة وتبعاته الجسام، وصاحب قلم حادجريء، لم يجد لهما دواء سوى في سيرة: رَواء مكة:
قضيةالانتماء العروبي، من حدثغزو أمريكا للعراق (2003)(ص 29 /51 من الرواء، ورباط المتنبي، ص56، ص130 من مرآة الغرب المنكسرة)،وجرح المآل الفلسطيني(ص 61/158 من الرواء، وص56 من رباط المتنبي) …وهزائم العرب، وسراب العروبة، وبداية ضياع يسري في أوصال مصر الأفق المجهض (ص63 من الرواء…).
قضيةالانتماء المغاربي،من خلال واقع الجفاء بين المغرب والجزائر(ص 62 من الرواء، وص56 من رباط المتنبي)، وتداعيات ذلك على حلم وحدة مغاربية بدت بعيدة المنال، نواتها المغرب والجزائر…(ص36 من الرواء)
قضية سؤاللسان الأم الأمازيغية، وما تناسل عنها من أسئلة وأجوبة، وبدْلٍ ونضال، وما ترتب عن كل ذلك من اتهامات ومؤامرات، وآلام وجروح…(ص34-35 من الرواء) …
قضيةانتكاسة «الربيع» العربيوالحمل الكاذب. أمل مخنوق، رغم تفاؤل المناضل النزيه محمد الساسي، ورغم النهل من رواء مكة، ونفض الأغلال، والخلاص «من أسباب الشرك وضروب الأوثان»(ص209-210 من الرواء). لم ينزح الإصر… حملٌ كاذب…إهانة الأصحاب وغدر الأصدقاء(ص32)، واستبداد الملكيات/ المخزن ومنظومته ومؤامراته وتبدلاته السياسة ودسائس القصور.نَفْسٌ جريحة. وهْمُ الانتماء إلى منظومة…(71 من الرواء). الزمن التاريخي غير… والزمن السياسي والصحافي غير … قناعة كانت مترسخة فيما تكتبون…النصيحة أولى بصاحبها.
قضية العودة إلى نبع الإسلام، وظلال القرآن. عودة إلى البيت الأول بعد فراق طويل. الطفل أب الرجل(ص89 من الرواء).»عودة إلى الأمام»، رواء في مكة، وقطيعة مع الماضي…
تلك هيّ أهمالقضايا التي استأثرت بسيرة رواء مكة، وبجُل مؤلفات حسن أوريد، واستبدت بفكره، كاتبا ومفكرا. وهي التي كانت وراء صرخته المُدوية:لاشيء يعجبني. إنها الأسئلة المؤرقة، والوقائع الدامغة التيأوصلته إلى حد تكسير الأقلام، والتهديد بالإقلاع عن الكتابة، حيث لا صدى،بل وعزلته عن ذاته حد»وأدِ» النّفس واقفة (حتى نفسي لم تعد تعجبني). تلك قمة اليأس ومبلغه، وهو الصحراوي القُح من أشراف المنطقة بوضعهم الاعتباري،الممزوج بإباء الأمازيغ الأحرار، وبرّا بالأم والأخوال، وبمرارة أُفق الأبناء،وقدرفضالقَبول «بالحشفة وسوء الكيلة». كان ذلك من خلاياه الأولى (Son génome)، وكانت في العمق، سر معاناته.
-2
… كان بإمكان مولاي حسن أوريد أن يسير كما سار السائرون، في طريق معبدة كما كان الأمر ثاني مرة، وقد انتقل من هامش عنيد، وفّر له براءة النشأة وفطرتها، وطوقه بصفاء النبع، وإشراق الإيمان،وطهارة القلوب، في جِنان مدغرة، وواحة بوتالمين في بلدة قصر السوق، وجوارها الممتد في ميدلت.يأكل الكسكس/ «الطّْعَام»، بيده، ويشرب الحريرة من صنع محلي محفوظ، ويتلمظ بَلحا ورُطباوتمْرا، ويرتوي بماء رقاق زلل، فيطير في سبع سماوات وأراض… إلى مركز أعند، فتح له أبوابا مشرعة لرغد العيش، ومعتق النبيذ، وبريق السلطة والجاه والألقاب، و»راتب مريح وامتيازات»(ص205 من الرواء)، تحت رقابة منظومة تتقلب كالزمن، «بمسحة براقة، وجوهر عتيق»، لها قواعدهاالمرعية، وأصنامها المعبودة… لا تؤمن سوى بمنطق: إما…وإما…اختيار صعب، وامتحان عسير، وقرار مصيري، ومعادلة معقدة، ومفارقات فاقعة، وتجربة مضنية…آ مولاي حسن؟! عروبة… واشتراكية… وأمازيغية… وإسلام نبع بعد فراق…ومن موقع مثقف «ملتزم» على هدي الطود الشامخ لحسن اليوسي؛ وباحث في العلوم السياسية وخبير بها، لا عيب فيه سوى أنه من صحراء قصر السوق، وواحد من «شرفائها» العلويين،من أمّ أمازيغية أصيلة خلوق. دخل القصر الملكي،وتخرّج من المدرسة المولوية،رفقة رأس الدولة اليوم، وصار رجلا من رجالاتها بهيبة وجاه وسلطة ورمزية، وخرج منها مكلوما ومضيوما ومنخورا، بعدما استعاد صفاءه، وشجاعته، وباح هذه المرة، وأشار وهو يحوم حول الحِمى، لعله يتطهر فيستريح؟ !
ذلك ما تحكيه سيرته الروائية، رَواء مكة(2017)، وتعرِضُ له، بألم كبير، وأمل دافق، وبكثير من المرارة،وقوةفي النقد، وشجاعة «محسوبة» في المراجعة، والبَوح المُربجرعات»دبلوماسي»…ورجل دولة…

-3
طبعا، لست هنا بصدد رصد القيمة الفنية والجمالية للسيرة الروائية لرواء مكة، ولا قِبلتي البحث في شروط الكتابة التخييلية والواقعية، الروائية أو السيرية أو هما معا،واستيفاؤهما، ولا غايتيتناول طبيعتها اللغوية، وخصوصياتهاالأسلوبية، أو تتبع تقاطع الواقعي بالمتخيل في السيرة، ولا وجهتي اقتفاء من أساءاستغلالبوح صاحبها، ووظف اعترافاتهببشاعة وسوء نية، لحسابات مذهبية وحزبية وأيديولوجية، وادعاءات مدخولة، وافتراءاتسمجة، ومبالغات فجة، وتأويلات مغرضة غير مسنودة، وبحيثيات دعوية، أَنْسنته وقائع في السيرة، وغيبت عنه أسرار محنة الرجل وجراحاته، وتقلباته بين اليأس والرجاء، وصدق معاناته ومكابدته في مربع ألغام (المقرئ أبو زيد الإدريسي)، كما أنني لن أقفو طريق «مزايدات» سار فيها بعض السائرين من موقع مضاد للمنحى الدعوي وخلفياته الحزبية، ممن شيْطنُوا بَوح البائح، بهَمزات لُمّزَة فطيرة؛ ولكن سأركز في هذه المقالة، إيفاء بوعد قطعته على نفسي كما ذكرت أعلاه، على رصد بعضالأسباب، التي أدعي أنها كانت وراء يأس مولاي حسن أوريد، فيما صرح به في مقالته: «لا شيء يعجبني»، فالتفاعل معها قصد فهم حيثيات تحول الرجل وحقه في اليأس، وحقه في الأمل، على أساس الاعترافات الواردة في رواء مكة، وتجربة الحجوامتداداتهافيكتب المؤلف قبل الحج أو بعده.

أولا- حسن أوريد قبل رواء مكة: سؤال اليأس وأسبابه
توطئة:

من ميزات الحكي في تاريخ الإنسان قدرته على استعادة معنى الحياة، من خلال إعادة بناء الأحداث، وانتقاء الوقائع، ووصف الأشياء والكائنات، وتعيين الأحاسيس والوجدان في وضعيات وسيرورات تشكل الذات ومدار الكتابة. ذلك من أجل الهروب من زمنية راهنة تستعصي على الترويض فتُوكَل إلى الحكي ليروضها، سواء ما جرى بالفعل، إن جرى حقا، وما نريده أن يجري، ونتوق إليه، وهو في علم المستقبل، وعندهايُسكِنها اللغة، بانسيابها، طلبا للاستشفاء أو التطهير. ذلك ما يحدث عبر إعادة ترتيب أوراق حياة جديدة، وعلى أساس رؤى جديدة. وسيرة رواء مكةلمولاي حسن أوريد، وبتقنياتها السردية،ليست محصلة ما قاله الكاتب أو كشفعنه أو باح به مما كانه في مساره الذاتي السابق بقصر السوق، والمدرسة المولوية، وما تلاهما بعد التخرج،وتقلد المسؤوليات، بل هي كذلك ما لم يكُنه مولاي حسن أوريد، وما يتوق إليه بعد برودة التجربة، وإحصاء الحصيلة،نستخرجه منصمت فواصل السيرة، وبياضها، منغيابات الذاكرة ومقالبها، فنعيد ترتيبها ترتيبا مخصوصا، يمنحنا الحق في الانتماء إلى الحياة بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، الوطنية والقومية والعالمية، سواء معالأسرة وتأثيراتها، أو الكُتّاب وأجوائه، أو المدرسة وتفاعلاتها، أو الزاوية وانطباعاتها، أو أحداث المنطقة وتداعياتها، سواء مع حياة «جديدة» في المدرسة المولوية، ووشمها في الذاكرة والجسد، والعقل والوجدان، ومخرجاتها في صلة مع الخارج والداخل، من خلال التفاعل مع الغرب والعرب، والمغرب والجزائر، والعراق وفلسطين…أو عبر الوطن والمخزن،والسلطة والمال، والقوة والضعف، والصدق والكذب، والكرامة والمهانة، والحب والكراهية، واليأس والأمل، والكشف والتزكية، والسُّكْر واليقظة، والفرح والحزن،في مكة والحانة، أو في الزاوية أو الصحراء، أو الروح والمادة، في السر والعلن، في الوصل والفصل، في الانتماء والإعفاء، في الزهد والرغد، في الرّواء وقبل الرّواء… كما هو مبثوث ومبسوط في سيرة رواء مكة، وموازياتها من مؤلفات الكاتب، الأدبية والفكرية، على حد سواء.

مولاي حسن أوريد
والانتماء العروبي:

في البدء كانت اللغة العربية جسر الانتماء العروبي عند مولاي حسن أوريد، بل وسبب إيمانه بقيمها وآلامها ومآلها(ص66 من الرواء). ولذلك نذر نفسه لها، وانتصر لقضاياها. يغضب منها، ويبكي لها (ص 308 من رباط المتنبي).
لقد رضع مولاي حسن أوريد حليب العربيةوالعروبة، مذ كان صبيا حتى بلغ أشده. حدث هذا معوالده مولاي المهدي أولا، وكان مدرسا للغة العربية، وحافظا للقرآن الكريم، من طينة مسالمة قنُوعة؛ وصارت مع أستاذه محمد بن العزيز بواحة زيز، واجبا وطنيا، تمثّل عبرها القيم الوطنية والعروبية الأثيلة، وأحب العربية والعرب، في مدارس قصر السوق، لترقى في المدرسة المولوية إلى معشوقته الأبدية. ولا عجب في ذلك،فقد ورث هذا العِشق حد الوله على يدي جهابذة اللغة العربية، في مقدمتهم الحاج امحمد باحنيني، بهواه الأندلسي، ووهجه العروبي( ص53/56)، وكذلك كان مع محمد شفيق،على الرغم من أمازيغيته الراسخة، وشبهة تخرجه من كوليج أزرو، معحرصه على تعلم اللغة العربية، واستعادة ذاكرتها الوطنية والقومية، فاطلع على ذخائرها، وحفظ متون شعرائها الكبار.عنهورث مولاي حسن أوريد حب شعر المتنبي وورطه فيه حتى صار مسكونا به، وبعوالمه، وتجربته مع السلطة والجاه. هكذا درس على حد تعبيره، «اللغة العربية على رجال شداد، غلاظ إن اجترأ عليها فلثم بناءها وشان جمالها، أو لم يحترم قواعدها»(ص58من الرواء، وص109 من رباط المتنبي).
غير أن هذا «الأمازيغي» اللسان، الولهان باللسان العربي في شموخه ومجده، سرعان ما أصابه إحباط لما سمع، على حد تعبير، «نسل بني كلاب، وذرية بني ضبة» يتكلمون عربية ركيكة، وقد تحولت على ألسنتهم، وعبر مجامعهم، إلى «امرأة مسنة، أثقلها الشحم والخمول، وزادت على ذلك لباسا ثقيلا، من المجوهرات والمحسنات، ومن الطبيعي أن ينفر عنها من يريد أن يرتبط بالحياة»(ص113 من رباط المتنبي، وص 65 من الرَّواء). صارت اللغة العربية لغةالرعاع( ص252 من رباط المتنبي)، ولم تعد تسمن وتغني من جوع، إلى حد أنها صارت عبئا، تخفف عنه اللغة الفرنسية أو الإنجليزية(ص23/24 من رباط المتنبي، كل إنسان بلسان)، بعدما ضاعت القضية والمشروع، وتفتت الرقعة، وتلاشت الفكرة، ولم يعد أحد يأخذ اللغة العربية «والعرب أنفسهم مأخذ الجد، بعدما لم يعودوا يهتمون بشيء سوى الغناء وشراء السلاح، أو خردة السلاح يقتنونها، ولا تصلح لشيء سوى أن يقتتلوا بينهم ويتناحروا فيما بينهم»(ص124، رباط المتنبي). الدليل على ذلك، بداية خروج العرب من التاريخ، كما في العراق وفلسطين، وغيرهما.

العراق جرح لا يندمل:
أمريكا وراء الباب…

يقول مولاي حسن أوريد في رواء مكة:»خطبة مُملة تتوالى في قاعة المؤتمرات بكوالالمبور لمؤتمر عدم الانحياز، فبراير سنة 2003، وأمريكا مكشرة أنيابها لضرب العراق…أسمع للعرب الأقحاح خُطبهم وهم يلحنون، بل يخطئون حتى في تلاوة القرآن الكريم، حتى العرب الحداثيون من القوميين، وهم يسعون أن يستشهدوا بالقرآن يخطئون»(ص51).وضعاللغة العربية من وضع أهلها، ومستقبلها من مستقبلهم، خاصة في الشرق الأوسط الذي يعتبر في نظر الغرب، وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية، «سُرة العالم، ولعنته من وضعه».(ص20 من عالم بلا معالم).
لقد كان الغرب ممثلا في أمريكا، البيت الأثير عند مولاي حسن أوريد، بمنظومته الفكرية، القائمة على إعمال العقل ومطرقة النقد، وبفلسفته السياسية والوجودية، بمنحاها العلماني، والإقبال علىالحياة بمتعها ولذاتها، والرغبة في إتقان لغاته فالتباهي بها؛ لذلك قرر ذات زمان أن ينتقم لأبناء الشعب من البداة، وأبناء التعليم العمومي (258 من رباط المتنبي)، بهزم الولايات المتحدة الأمريكية في عقر دارها. كانت التجربة قاسية، وحصيلتها أقسى وأمرّ. فقد هزمته أمريكا أقسى هزيمة…بمتعها وبطاقة ائتمانها…أمريكا وراء الباب…هزمته شر هزيمة، بمجرد ما شنت أمريكا أو الغرب لا فرق، يوم 13 مارس 2003 الحرب على العراق، بدعوى امتلاك أدوات التدمير الشامل، وإسقاط الديكتاتورية(نظام صدام حسين) وزرع الديمقراطية ونظام السوق(ص145 من مرآة الغرب). كذب وافتراء، وإخراج سينمائي عدمي. أضغاث أحلام. ذلك ما بسطه الباحث في العلوم السياسية، وهو يرسم معالم عالم بلا معالم، في قوله:» كان مشروع ضرب العراق جاهزا منذ كلينتون قبل أن تقع أحداث 11 سبتمبر، فيما كان يسمى مشروع القرن الأمريكي سنة 1998» (ص42 من عالم بلا معالم). الشيء الذي أدى إلى تشويه صورة أمريكا، بقياداتها حينها. انهيار «دار الإسلام»، وانتعاش الطائفية، وبزوغ داعش، وانتشار الفوضى والفساد، وانتهاك حقوق الإنسان في الفلوجة وأبو غريب…
لقد كانت حرب أمريكا الغاشمة والظالمة على العراق، ومآلاتها المأسوية، ومفارقاتها الصارخة، منعطفا حاسما فيحياة مولاي حسن أوريد ومسيرته، وبداية تمرده على نفسه ومحيطه القريب والبعيد، وثورته على قيم العقلانية والعلمانية والحداثة. حديث وشجن. يقول صاحب الرَّواء، بمرارة وأسى، «كانت حرب الخليج أو عاصفة الخليج تحولاً في حياتي…ضربت أمريكا العراق شرّ ضربة وتلفّعت بمبادئ القانون الدولي، ووظفت ميثاق الأمم المتحدة. ولكن الحقيقة شيء آخر، فلم تكن الحرب إلا من أجل البترول، ولم يكن القانون الدولي إلا غطاء، والمبادئ الأخلاقية إلا ذريعة… وفارت شوارع العالم العربي ثم سكنت. وآليت على نفسي ألا أنسى»(ص29 من الرّواء، وص 308 من رباط المتنبي).
… لم ينس بالفعل…مولاي حسن بن المهدي بن علي… لن ينسى أبدا…» الواقع أصدق أنباء من المزاعم»(ص308 من عالم بلا معالم). ظل الجرح مفتوحا، والحزن مقيما.الجذور مقلوعة، والسراب غرور…والطواحين هواء… خراب ودمار، وظلم وافتراء، وتجبر وتكبر… أمريكا هي الطاعون، والطاعون أمريكا…لا شيء يعجب مولاي حسن أوريد…لاشيء…الغرب وراء الباب…
مؤشر تحول، أمإعلان قطيعة؟ «أغضب من العرب، وأبكي لهم». انتماء راسخ، عربية وعروبية، تاريخا ومصيرا. ألم يبح مولاي حسن أوريد، متسائلا:»لولا الحرب على العراق(عام 2003) هل كنت أقْدِم على مناسك الحج؟ الهجمة التي تعرضت لها «دار الإسلام» أجّجَت وعيي بالانتماء…ومهامه الحياة وسراديبها قادتني إلى حيث أنا. ولأيٍّ أن يرى فيه تخاذلا أو انكسارا. الغرب سراب، والمغتربون أعجاز نخل خاوية يحبون الدنيا ومفاتنها ولا يقوون على شيء…»(ص101 من الرَّواء).
كانت العراق، أولا، جرحا لا يندمل في ذاكرة مولاي حسن، ووجدانه…وصارت فلسطين عنده، ثانيا،جرحا غائرا ما يزال ينزف دمعا ودما…

القضية الفلسطينية
والجرح الوجودي

لم يكن مولاي حسن أوريد منتميا للعراق وحسب، بثقافتها وحضارتها ومصيرها فحسب، بل كان مخلصا لانتمائه إلى القضية الفلسطينية. جرح غائر آخر كان وراءه الغرب، أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا… لم ينتظر كاتب الرّواء تعيينه واليا على جهة مكناس تافيلالت للانتماء إلى القضية الفلسطينية ومساعدة شعبها(يونيو 2006)، والإحساس بمأساة أهلها، والبكاء على أطفالها، خاصة وقد تضاعف برحاؤه بسبب خطأ طبي، ظل يعاني منه في صمت، وقد استبد به حتى غلب عليه الأسى، وران عليه الحزن(ص15 بتصرف من الرواء). كما لم ينتظر ذهابه إلى الحج للدعاء لإخوانه في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان(ص106 من الرواء)، لا رقَّ لما يتلظى به الفلسطينيون(ص158من الرواء). فقد رضع مولاي حسن بن المهدي حليب الانتماء إلى القضية الفلسطينية مذ كان تلميذا في مدارس قصر السوق، وهو يترنم نشيد نصرة فلسطين (ص61 من الرواء):
أخي جاوز الظالمون المدى
فحق الجهاد وحق الفدا
أنتركهم يغصبون فلسطين
مجد العروبة والسؤددا.
لم تكن فلسطين، شأنها في ذلك شأن العراق وغير العراق من البلاد العربية، غائبة عن الهم المغربي والانتماء إليه. فهي حاضرة بقوة في تفاصيل حياة المغاربة، بمن فيهم مولاي حسن أوريد، حتى في المدرسة المولوية وما بعدها، حاضرة فيالكوفية وحنظلة، والشعر والرواية والسياسة. بل كانت وسيلة من وسائل مقاومة كل أشكال الظلم و»الحْكْرة»، وكل مظاهر الرجعية والاستبداد من الرباط إلى الرياض. وربما لذلك، صارت قضية وطنية في الوجدان المغربي، أملا في وطن يسع الجميع، بلا جمر ولا رصاص، ولا قمع ولا استغلال. هكذا، صارت فلسطين رمزا لكل من يناضل من أجل أرضه المشروعة، ويطلب عيشا كريما، وينقد جهرا تجبر الولايات المتحدة الأمريكية؛ وهي الفاعل الوحيد على الساحة الدولية وانتصارها المستغرق لإسرائيل محتلة للأرض الفلسطينية، وظالمة للإنسان الفلسطيني، خاصة بعد أحداث 11شتنبر 2001 واستراتيجية ضرب العراق، وإرجاعه إلى العصور الحجرية، وإعلان القدس عاصمة للكيان المغتصب.
ذلك، بعض ما بسطه الأستاذ حسن أوريد من موقع الباحث في العلوم السياسية في كتابه الأخير: عالم بلا معالم. يضرب (ترامب) قواعد القانوني الدولي، ويُقر لإسرائيل على ضمها للجولان، وينقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس، ويعترف بسيادة إسرائيل على المستوطنات في الضفة الغربية وضم غور الأردن»(ص65 من عالم بلامعالم). كيف يحدث هذا، وكان الغرب، مجسدا في أمريكا، يدعو لحقوق الإنسان ويغتالها… يطالب بالحرية ويمالئ الاستبداد، يدعو لحكم القانون ويغتني بالاستغلال»(ص29). مفارقة صارخة، وازدواجية فاقعة(ص28 من مرآة الغرب المكسرة)، وقد كان مولاي حسن أوريد، «بنتاج الغرب يقارع الأكوان»(ص45 من الرواء). كان من الطبيعي والحال هذا، أن يتعجب صاحب الرّواء، وقد عاش في الغرب وغرف من علمه وقيمه ومنظوماته الفكرية والسياسية والأخلاقية وغيرها. الغرب يخون نفسه (مرآة الغرب المنكسرة، ص5).
لقد أدرك أستاذ العلوم السياسية، وهو يرصد عالم لا معالم له، أن الغرب، وبخاصة أمريكا، إنما مطلبها البترول، وعقدتها التاريخ، ومجالها الجغرافية، وخصمها الإسلام السياسي(ص170). فقد خان الغرب قيمه، وباعت أمريكا قيمها لاسيما وأنها تدعي رعاية مسلسل السلام، وقدمت نفسها وسيطا نزيها، واحتضنت معاهدة أوسلو(13 سبتمبر 1993) التي تقوم على معادلة الأرض مقابل السلام»(192 /217/ 33 من عالم بلا معالم). لاشيء حدث من هذا…لا شيء يعجب مولاي حسن أوريد، والأفق مظلم. إنه أحق باليأس من غيره. سراب وأشباح. فقدت القضية الفلسطينية ألقها عند الأنظمة العربية الحاكمة، وتشرذم العرب وتمزقوا، خاصة وأن العالم العربي كان «يتيح لإسرائيل إجراء ما تراه في صالحها دون أن تكترث بفلسطين ولا للعرب ولا لمنطق الأشياء»(ص194).
كانت المحصلة، وبعد عقود من الصراع، والوعود والمناورات، بداية التطبيع مع دول عربية في الشرق الأوسط، سُرة العالم، ونبع البترول، وبدأ استئناف العلاقات مع بعضها الآخر في بلاد المغارب، مع المغرب، وإن تواقتت باعتراف أمريكا بمغربية الصحراء الغربية… وظلت قضية فلسطين معلقة، ومخنوقة… لاشيء يعجب مولاي حسن أوريد، وقد خبر الغرب، وعاش في أمريكا وعاد منها خالي الوفاض مهزوما ومجروحا، وهي التي عمقت الجرح بعدما نفضت يديها من القضية الفلسطينية، وتحللت من التزاماتها في خرق سافر لمقتضيات القانون الدولي»(ص216-217 عالم بلا معالم)…أمريكا وراء الباب… أيقظتنا الطائرات وصوت أمريكا…أمريكا هي الطاعون..وصفقة القرن شهادة على حال تمزقنا وشتاتنا… فكيف لا ييأس مولاي حسن؟ ربما لذلك أسرع في قيءأمريكا بجبـروتها، وسعى إلى الشفاء من إمامتها للغرب، وهرول نحو القطع معزيغ المال، وبطش الرأسمال وتبعاته…(ص48/49 /146من مرآة الغرب).
لم يجد مولاي حسن أوريد حِمى سوى في شعرأبي الطيب المتنبي، شموخ العرب، ورمزهم الأبدي (ص 108 -111-112من رباط المتنبي)، وكبرياؤهم المجروح، وواقعهم المقسوم، وإن ظل المتنبي، في نظر عبد الله القصيمي، ومواطنه عبد الله الغذامي،مجرد شاعر مداح وهجاء، ومشاء هماز،وكذوب أفاق…في مضمر شعره ونسقه،ومساهم كبير في صناعة الطغاة، وتكريس الاستبداد… شعر فحولة مخصي… !!؟
غثاء وثغاء و»إسهال»…
اختار العرب البترول وأبراجهم ونخيلهم على ضفاف الخليج، وبنايات فارهة في الفجيرة على شط الخليج، أو فجورهم في ماربيا ولاكوت دازور»(ص61 من الرواء)، ففرطوا في لغتهم، وباعوا متنبيهم في سوق النخاسة، وقد عرى جبنهم وخذلانهم… عرب وأطاعوا رومهم… عرب وباعواروحهم… عرب وماتوا… سقط القناع عن القناع ….
(يتبع)


الكاتب : إدريس جبـري

  

بتاريخ : 06/03/2021