«ناس الغيوان» مسار المغنى والمعنى وقفة تأملية في الذكرى 54 لتأسيس الفرقة.

1-النشأة والامتداد:
تأسست مجموعة “ناس الغيوانسنة 1970 بأربعة أعضاء هم:بوجميع، والعربي باطما، وعمر السيد، وعلال يعلى. والتحق بهم فيما بعدكل من عبد العزيز الطاهري ومحمود السعدي اللذان غادرا الفرقة بعد وفاة بوجميع..لكن قبل وفاة “دينمو” المجموعة بقليل التحق بهم عبدالرحمان باكو-الفنان البارع في النقش على خشب العرعار، والعازف المميز على الهجهوج- ليغادربدوره الفرقة سنة 1993..مبدع أطلق عليه الفنان العالمي جيمي هندريكس “طبيب الأشباح” لتماهيه المطلق مع معاني الأغاني التي كان يؤديها.. فقط قبل هذه الفترة بسنوات كانت لقاءات الأربعة المؤسسين للفرقة تتم بدار الشباب الحي المحمدي سنة 1963وما بعدها حيث صقلوا مواهبهم في التمثيل والغناء.
سياق يكشف أن المسرح كان مدخل أعضاء الفرقة الأوائل للغناء.. ولهذا السبب تحديدا حملت قصائدهم بصمة درامية؛ فالمسرح فن درامي بالأساس..ومختلف أعضاء الفرقة تربوا بداية في مسرح البساط الذي يجمع بين التشخيص والغناء كما هو واضح في مسرحية “الحراز”. بعدها سيقضون ثلاثة سنوات بالمسرح البلدي من 1967إلى 1970. ولعلها صدفة أن الطيب الصديقي فتح مقهى في خلفية المسرح البلدي حيث كان يلتقي رواد المسرح.. وكانت فرقة “الدراويش الجدد”أو “ناس الفهامة” تقدم بعض الأغاني قبل أن تغير اسمها لناس الغيوان.
ومن الأغاني التي كان تعرض في ذاك الإبان “الصينية” والقطعة الهزلية “قطة صغيرة” وغيرهما. في هذه الفترة لعبت صدف كثيرة في تعرف الجمهور المغربي على ناس الغيوان منها: أن أحد أعضائها وهو عمر السيد كان يمثل في المسلسل التلفزي “لالة غنو” فاقترح على المخرج حسن بورجيلة تسجيل قطعة “الصينية” للتلفزة الوطنية.. فلاقت استحسانا من طرف الجمهور. ومباشرة بعدها سيقطع أفراد الفرقة صلتهم بالمسرح البلدي لاعتبارات عدة منها أن تصريح الطيب الصديقي كان جارحا لكبريائهم حيث قال: “يشكل ممثلي حقل تجارب مسرحية” بالإضافة لتبعات سفريات الفرقة رفقته لفرنسا.. وفي نفس السنة، أي عام 1970 قدموا أول عرض غنائي لهم في سينما السعادة.. وبدأ مسار الفرقة في التشكل بشكل مستقل عن مسرح الصديقي.
إن نشأت الفرقة في الحي المحمدي أحد أفقر أحياء الدار البيضاء وأكثرها شعبية جعلتها تنتصر للتكتل في مجموعة؛ والجماعة تشكل عزاء رمزيا لعراء الأفراد وعيشهم حالات العوز والحاجة الجارحة..والانتساب لمجموعة في العمق هو محاولة إعادة إنتاج الاندماج الاجتماعي الذي فككه الاستعمار الفرنسي.. ولذلك تمردت الفرقة على المطرب الواحد الذي غالبا ما ارتبط بقصائد غزليةوفق النموذج التجاري المكرس.. بل إن تغني الفرقة في بداياتها بقطعة “الصينية” تحديدا هو دليل على افتقاد اللمة التي كانت تشكل تعويضا لبرودة الفردانية.. يقول بوجميع بصوته الموجوع وهو يشجب الفردانية:
“ويا ندامتي ويا ندامتي
مال كاسي تايه تينين
زاد علي الحزان
مال كاسي باكي وحده
مال كاسي نادب حظه
مال كاسي يا وعده هدا نكده
…آه يا الصينية.”
وبحكم ظروف هذه النشأة كان من الطبيعة أن تنتصر الفرقة للمعدمين والفقراء مع إدانة تكميم الأفواه وتقييد الحريات سنوات الجمر والرصاص..لتقول بصوت عال ما كان يقال سرا.. مخترقة جدار الخوف والتوجس..
تقول قصيدة “غير خدوني لله” التي يخترقها الصراخ الفني لباكو الممسرح لوجع الطبقة المسحوقة..
“الله يا بابا جاوبني
علاش أنا ضحية للصمت
واش جرى ليه جاوبني
مال سفينتك ما وصلت
بابا شكون كدر صفاك
بابا مول السيف المسلوب
بابا فين جحا والغول
بابا عينا لحجي.”

2- هوية الفرقة:

في الواقع، ترجع قوة المجموعة إلى تعدد روافد أفرادها: فإذا كانت نشأةبوجميع في درب مولاي الشريف بالحي المحمدي حيث تشبع باكرا بحلقات الذكر الصوفية وارتوى بالحكايات الشعبية في الساحات العمومية؛ الأمر الذي جعله حفاظا لكم هائل من الأهازيج والقصائد التراثية.. فضلا عن اعتماده معية العربي باطما على مرويات أمهاتهما. فإن علال يعلى من أصول صحراوية.وعمر السيد وفدا على الفرقة من خلفية أمازيغية. بينما تعود جذور العربي باطماإلى الشاوية.. وبسبب هذا المنشأ البدوي ظل الفلاح يسكنه رغم عيشه بمدينة الدار البيضاء طويلا والدليل على ذلك صوره الشعرية المادية المفتوحة على الطبيعة..وعنوان ديوانه دال على ذلك “حوض النعناع”.يقول العربي باطما نفسه في سيرته: “اسم أبي رحال وجدي رحال وجدتي حادة..أسماء تعني العنف والألم وعدم الاستقرار..هكذا كانت طفولتي رحيلا بين الدار البيضاء والقرية.”خلافا لعبد الرحمان باكو ذي الخلفية الكناوية.. وعبد العزيز الطاهري الملحوني الهوى، المراكشي المنشأ.. بهذا المعنى فالفرقة شكلت هوياتيا مجتمعا مغربيا مصغرا متعدد الروافد..وتعدد روافد الفرقة الهوياتي انعكس على المستوى الغنائي حيث استلهمت فرقة ناس الغيوان الفن الكناوي القائم على الجدبة..وفن الملحون..كما انفتحت الفرقة على العيطة وهو أمر حاضر في قطعة “الشمس الطالعة” قطعة كانت تتغنى بها “اللعبات” في الحواري أيام الاستعمار الفرنسي لشحذ همم الرجال قصد طرد العدو.. لنتأمل هذا المقطع الشعري:
“قالت ليكم قلنا ليكم
قالت ليكم بنت الغيوان
الله ياتل الزعتر
واش من يوالى يتوالى
غير ضربوا ولا هربوا
اللي تهرس را الكرارس
اللي بغا الجنة يتدنى
اللي بغا والدو يتسوخر
اللي تعمى يبقى تم.”
ومن مظاهر تعدد هوية فرقة ناس الغيوان كذلك تنويعها للقضايا المتغنى بها ومنها: القضية الفلسطينية، وقضية انتهاك الحريات، ومعاناة المغتربين، والصراع الطبقي بكل تلويناته سواء قيميا أو وجوديا أو اجتماعيا أو سياسيا. علما أن توصيف هذه المجموعة بالفرقة السياسية إفقار لها بالنظر لأفقها الإنساني الرحب.. ولعلها مفارقة أن أغلب أعضاء ناس الغيوان لم يتجاوز المستوى الاعدادي.. تواضع عوضوه بثراء خلفيتهم الموسيقية والفنية.. بل حتى أغراض قصائدهم تعددت وتوزعها الوصف، والغزل، والتصوف، وهجاء الساسة، ومدح الرسول وما إليه. دون أن ننسى تعدد آلاتهم الموسيقية ذات الحمولة الشعبية يكفي أن نذكر الهجهوج والطبل الإفريقيين والبندير والدعدوع… وكلها آلات كانت مستعملة في حضرة المجاذيب وأتباع الصوفية.
وبسبب الهوية المركبة للفرقة وجدت نفسها منفتحة على الغناء العروبي،وعبيدات الرمى، والألحان الأمازيغية، والنغم الكناوي، والعيساوي،والحمدوشي، والحوزي،والعيطة..وما إليه..
بالنتيجة يمكن القول إن فرادة فرقة “ناس الغيوان” تعود لبساطتها وصدق وعمق أشعارها..وتعلقها بالجذور والروافد المتعددة للهوية المغربية والتشبث بالثقافة الشعبية الأصيلة.. ومجيئها في لحظة دقيقة من تاريخ المغرب الحديث حيث كانت استجابة عفوية لجراح مرحلة عاشها المغرب فجر عقد السبعينات فصعودا. فرقة اختارت البعد عن الأحزاب والسلطة منتصرة لصوت الشعب وذلك بانفتاح أشعارها على معاناة الإنسان المحروم.. أفق أطروحي وجمالي جعلها تسهم في رفع الوعي بمواضيع اجتماعية وسياسية، وهذا ما يجعل تأثيرها خالدا في تاريخ الموسيقى الشعبية المغربية.

3-خصوصية أشعار ناس الغيوان:

1-رمزية القصائد:
بنبت مجمل قصائد ناس الغيوان على المعنى المفتوح على كل الاحتمالات من خلال توسلها الرمز والقناع.. فلاقت تجاوبا من شرائح اجتماعية مختلفة وبسبب ذلك احتضنها الشعب المغربي..صحيح جدا أنها عرت أحيانا الأعطاب الاجتماعية بسخرية سوداء منتقدة الظرفية الانتهازية حيث تغنت مثلا بحكم من قبيل”تبني وتعلي تمشي وتخلي” لكن مجمل القصائد مخترقة برمزية واضحة يكفي الوقوف على قصيدة”الصينية”و”غير خدوني”و “فين غادي بي خويا”و “سبحان الله صيفنا ولى شتوى”و “نرجاك أنا” و”ضايعيين ضايعيين” والقائمة طويلة.. ففي قصيدة “غير خذوني لله” وظف الحداد كرمز للخصم الطبقي حيث جاء في القصيدة على الشكل التالي:
“غير خذوني
قلبي جا بين
يدين الحداد
حداد ما يحن
ما يشفق عليه
ينزل ضربة
على ضربة
والى برد
زاد النار عليه.”
في مستوى ثان انفتحت بعض قصائد الفرقة على الرمز الصوفي كما هو واضح في قصيدة “الله يا مولانا” لنتأمل المقطع التالي:
“الله يامولانا
حالي ما يخفاك يا الواحد ربي
سبحان الحي الباقي
بك عمرت سواقي
ونحلي في نواورك مرعية
ولا تجعلني شقي
حرمة ودخيل ليك بالصوفية..”
في قصيدة “النحلة شامة” تقمصت النحلة صوت الشعب لتصرح بحجم الضرر وحدة الوجع.. والقصيدة للتهامي المدغري عميد شعر الملحون في القرن(19)وفارس الشعر السياسي المشفر وفارس العشاقيات/الغزل كما هو معلوم..

2-طقوس الانشاد والرقص على الركح:

وبالإضافة إلى تميز قصائد الفرقة برمزية واضحة بعيدا عن المباشرة اتصفت المجموعة بطقس غنائي خاص اتصف بالحركات الجسدية لأعضاء الفرقة وفن القول والإنشاد والرقص على الركح لرفع الكلفة بين المغني والمتلقي الذي اعتاد على الرزانة المزعومة للمغني التقليدي.. مستثمرين التهليل، والمناداة، والدعاء والنداء.. وهي تقنيات وافدة للفرقة من طقوس الليلة الكناوية.. إضافة لانفتاح قصائدها على أفق قاري وعالمي ويتضح ذلك في قصيدة “إفريقيا يا الدم السايل” فضلا عن حضور القضية الفلسطينية في قصيدة “صبرا وشتيلا” المتحدثة عن مذابح 1987 وغيرها كثير…

3-التشبت بالجذور والروافد المتعددة للهوية المغربي:

في مستوى ثالث ركزت الفرقة في أشعارها على إحياء العادات وطقوس العيش التراثية يكفي التوقف عند القرينة النصية من قصيدة “فين غادي بي خويا”
لنتأمل المقطع:
“أنا ما نسيت البندير، أنا مانسيت القصبة
أنا مانسيت الموسم والخيل سربة سربة
أنا ما نسيت الكور ولا مجمع الطلبة
أنا ما نسيت دواري يا بلاد القصبة
أنا ما نسيت العشرة ولا كمح الرحبة
أنا ما نسيت حياتي يا ناس المحبة
أنا ما نسيت ناسي خيت هذي نكبة.”
في هذا النموذج وغيره كثير واضح جلي تعلق فرقة ناس الغيوان بالجذور والروافد المتعددة للهوية المغربي.. والتشبث بالثقافة الشعبية الأصيلة.. بل أكاد أقول إخلاصها الصوفي لكل ما هو أصيل جعلها محتضنة من طرف شرائح كبيرة من الشعب المغربي..

4-انشاد الشعر قبل التغني به:
في مستوى رابع تميزت الفرقة بإنشاد الشعر قبل التغني به مع الفرقة والآلات الموسيقة.. بل إن بعض المواويل أحيانا والنتف الشعرية الواردة في مفتتح الأغنية لا نعاود سمعها داخل القطعة المغناة.مثل ما وقع في قصيدة”فين غادي بي خويا” وغيرها كثير.

5-استلهام صوت الحكمة:

في مستوى خامس يمكن القول إن فرقة ناس الغيوان كانت مسكونة بصوت الحكمة الشعبية ولسان المجاذيب أمثال عبدالرحمان المجذوب وسيدي بوعلام الجيلالي وهو ما صادفناه في الكثير من المقاطع الشعرية المشحونة بالحكمة.. وإن كنا نرى تعارضا بين هذين الرافدين: فالحكمة قطعية المعنى، والشعر ظني الدلالة.

6-الجهر بحالة التردي المجتمعي:

الخاصية السادسة التي ميزت تجربة فرقة ناس الغيوان هي الجهر بذم الوقت دون تهيب. تقول قصيدة مهمومة:
” خرجات الشهادة من قلوب معلومة
كيسان مكبوبة والخمر الغالي
حياني آش داني لفعايل مذمومة
عمرو الحبسات باطفال مهمومة
ماتوا الرجال برسايل ملغومة…”
تبقى الإشارة في الختام في هذه المقاربة الخاطفة لتجربة ناس الغيوان، إلى أن أعضاء الفرقة حصلت على جوائز أهمها جائزة فرسان الفنون والأدب من فرنسا.. لكن أهم جائزة في اعتقادي الخاص حازتها هي حب الناس في العالم إبان عقد السبعينات والثمانينات وصعودا..حب وثق له المخرج المغربي أحمد المعنوني بفيلم تحت عنوان”الحال”.كما ترجمه المخرج الأمريكي مارتن سكور تزي بتوظيف موسيقا الفرقة في فيلمه”الإراء الأخير للمسيح” وهو ما زاد من شهرتها حيث كان يسميها “رولين ستونز إفريقيا”.

(*)ناقد أدبي مغربي.


الكاتب : محمد رمصيص(*)

  

بتاريخ : 18/12/2024