نبضات … أطفال الحجارة

هم نحن، هم ماكُنّا، وليس غيرنا. ليسوا أطفال النضال الأسطوري، أطفال وطفلات، وشبان وشابات فلسطين الذين تصدوا لجيش الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي، بدباباته ومدرعاته وآلياته الحربية الفتاكة، بالحجارة مُصَوَّبة بالأيادي الصغيرة لكن بالقلوب الكبيرة، والإصرار العظيم؛ أو مُصَوَّبة نحو العدو الإسرائيلي بالمقاليع المفتولة. تلك الملحمة الحجرية التي شدت أنظار العالم نحو أطفال يصنعون مجد التاريخ، ويكتبون أروع الملاحم، ويعيدون لمن كان في سمعه وَقْرٌ، نشيد التحرير، وصوت الانتفاضة التي شرعت ـ آنذاك ـ في نونبر 1987، وإلى حدود 1993، تنفض عنها، عن الثورة، الكسلَ، وتنبذ الخمول والتلكؤ، والديماغوجية السياسية، والمؤتمرات / المؤامرات العربية التي لم تُبْقِ فلسطين التاريخية ، العام 1948، ولم تُرْجِعْ ما سرِق واقتلع من الشعب العظيم العام 1967، عام الذل والمهانة والنكسة التي طالت الأنظمة العربية الحاكمة، وعرَّتْها فبَدَتْ سَوءْتُها خزياً وعاراً لا زالا عالقين بأذيالها، فاضحيْن مذلتها وخنوعها.
لا، إلى غير هذا وجهة ورقتي، فهي وِجْهَةٌ سيرية، ومسار حياتيٌّ وَفْقَهُ بنينا شخصياتنا، وطورنا معاشنا الضروري والكمالي لنحقق بعضاً مِمّا رُمْناهُ، وما خُضْنا فيه، وما تغيناه من وجودنا في الأرض.
لم تكن لنا ـ نحن أطفال جرادة، على غرار أطفال البلاد في المدن والقرى في ستينيات القرن الماضي ـ ما به نُمَرِّرُ اليوم، ونستحلي دقائقه وثوانيه، أيْ ما به نُرَفّه عن أنفسنا، وما به نصيد أويقاتٍ للأفراح والمسرات من خلال لُعَبٍ « ذكورية» لنا، أو دُمَىً بأقمشة ومطاط للصغيرات والبنات. قُصارى ما كنا نلعب به هو ما يتفتق عنه « اجتهادنا «، أو ما يأتينا من « مزابل» نعرفها، ونعرف أماكنها، وزمن قدوم الشاحنة لتفريغ ما في أحشائها، واطّراح ما بأمعائها، فنهرع ونهرول فرادى وجماعات لنبش ما تستبطن، وقَلْب ما يندفن فيها حتى نعثر على ضالتنا التي كانت عبارة عن لُعَبٍ مكسورة الأطراف، تتمثل في سيارات ملونة، ودمى مختلفة الأشكال والألوان والأحجام، وخذاريف، وأكياس بيٍّ، وكرات بلاستيكية تخطف البصر، وغيرها. نفرح بها فرحا لا مزيد عليه، ونطير خِفافاً ظِرافاً كالفراش لننتبذ زوايا في الحارات والدروب من أجل معالجة كسورها، وكيِّ أطرافها بغاية تثبيتها ثانيةً حتى تعود إلى خلقتها الأولى، أقصد صنعها الأول: ( ولم تكن النار تعوزنا، فأعواد الثقاب في جيوبنا دوماً، أنيساً في طرد البرد ليلا، وفي شَيّ الطيور التي نصطاد إذا عضنا الجوع. ).
أما مزبلتنا الكبرى الأثيرة التي كانت مرمى لأنظارنا وأحلامنا، وهدفا استراتيجيا لغاراتنا، فهي مزبلة « العابَدْ «. لم نسأل أحداً، يوما، عمَّنْ يكون هذا العابدْ، يكفي أن يكرمنا « العابد» بما فَضُلَ وبقيَ وإنْ مكسوراً ومُخَرّماً من أوانٍ خزفية، ولُعَبٍ بلاستيكية، وبقايا اُكْلات « نصرانية «. فهل يكون « العابد «، هو « بابا نويل « المغربي المختفي في جلباب صوفي، والذي ما برح يطل علينا من علياء جبل « سيدي بلقاسم أزروالْ « حيث يقيم، كما تطل آلهة الأولمب على البشرية الهائمة؟
أما مصدر الكنوز تلك، فكانت منازل الميسورين من أبناء جلدتنا، ودور النصارى المتعاونين الذين كانوا من الكثرة بحيث تراهم في الابتدائي والثانوي كمدرسين؛ ومناجم الفحم الحجري كمهندسين ومديرين، وفي الإدارة، القائمة عند مدخل جرادة على مبعدة ثلاث كيلومترات أو يزيد بقليل، كمسؤولين مقررين.
كان الصراع يشتد بيننا ويسْتَعِرُ حول دمية، أو آنية خزفية، أو كرة غامزةٍ، أو كأس سليمٍ. فالسبق على قدم وساق، والكلمة الفصل للأقوياء ذوي المناكب العريضة، والعضلات المفتولة. ولم يكن ينتهي الصراع إلا بعد أن نتفق على يوم « عظيم «، وساعة « قيامية «، نلتقي فيها لنحدد مَنْ مِنّا الأقوى، ومن سيؤول إليه أمر التحكم، والقيادة، والريادة في الإغارة والهجوم، والسرقة، ودخول المزبلة دخول الفاتحين. لذلك كانت أيام الآحاد، وأيام العطل المدرسية، أياما مشهودة تقف فيها الأنفاس، وتقشعر لها الأبدان، وتتنمر لذكرها الحواس، وتصر فيها الأسنان الصفراء صريراً مسموعا تَشَبُّهاً بالضواري، ومحاكاة لها.
ولم يكن لنا من سلاح، ولا أدوات ووسائل هجوم ودفاع سوى الحجر والمقلاع، و» الجّبّادْ»، وأحيانا يقع الاشتباك جسدا بجسد في ما اصطلحنا عليه ب ( لمْعابْزَة، أو التَّعْبازْ )، أو بالسيوف الخشبية التي نكون قد بَرَيْناها وقَوَّمْناها في إطار استعدادنا وانتظارنا. وقبل الشروع في المعركة البتراء: ( أسميها كذلك إذ أننا نستنفر لها ونبدأها من دون بسملة ولا تكبيرة؟؟ )، يحتد نقاشنا حول من يكون أولى بتسمية فريقه ب « زورو «، أو ب « زومْبلا»، او « رودْيو «، أو «كيوي» ( ليس فاكهة كيوي التي لم تكن قد خلقت بعد ). وهي ألقاب كنا نستقيها، ونتبرك بها شغفا ببسالتها ومغامراتها.
وها هو اليوم الذي حددناه للقاء « التاريخي «، والذي صارت كل الأحياء، والأطفال الصغار على علم به، يصلُ. والساعة الموعودة التي عَيّنّاها تدقُّ دقات أمل ورجاء، كأنها يد الحرية الحمراء تدق على رأي أحمد شوقي. ومعلوم أن الفريق الرابح هم من سيتولى تدبير المرحلة القادمة، مرحلة الخطف والسبق إلى مصادر النِّعَم والآلاء والخيرات. على أن تتكرر المعارك في القادم من الأسابيع والشهور؛ فتصبح الأمور دُوَلاً بيننا. فيا للديموقراطية التي يراقُ على جوانبها الدمُ.
نتقدم ككتيبة شرسة مسعورة، جيوبنا ملأى بالحجارة، وأفواهنا ترسل سيلا من الشتائم، وَكَمّاً غزيراً من ألفاظ التهديد والوعيد.
يبدأ الكر والفر، ونتماطر بالحجارة التي تصب صبا، وتصفر كالصواريخ العابرة، من كل ناحية وزاوية، تشذخ رأس هذا، وتعطب يد ذلك، وتمر أخرى بمحاذاة رِجْلِ ذاك. الغبار يتطاير، والصياح يعلو، وتصفيق الطفلات والأطفال من أعلى السطوح، يزيدنا هياجا وحماسا، وهجوما كاسحا من الجانبين. الجرحى يتكاثرون، والآباء يشتمون ويتوعدون، والنساء يصرخن مُوَلْوِلاتٍ، ويتوسلن إلينا بإنهاء الجنون، والتوقف عن غَيّنا وحمقنا، والعودة إلى رشدنا ومنازلنا.
ويقترب الفر والكر والتقاذف من النهاية، عندما يقع الاختلاط والاشتباك الذي كنا نسميه ب ( التَّعْبازْ، وهي مبارزة بدنية أشبه ما تكون بمبارزة « لَمْشاوْشَة «). آنذاك، تحط الحرب أوزارها، ونرفع أيادينا إعلانا واعترافا بالنصر أو بالهزيمة. ثم نتصافح ونتعانق مُقِرّين بقوة المنتصر وشراسته، وشدة بطشه، ونُعَزّي أنفسنا بأن الحرب خدعة وغش، والأجسام لم تكن متكافئة من حيث القوة والسن والطول، والحجارة المستعملة في « القتال «، متفاوتة الحجم، ما سَهَّلَ الغلبة لهم، والمغلوبية لنا. مُعَوّلين، في القادم من الأيام، على رد الصاع صاعين، والثأر لهزيمتنا وجراحنا التي نداويها ب « الإبزار» الأحمر، وبحث التراب على مواضع الجرح، وبالبول عليه إِمّا كان جرحا في ظاهر اليد، أو على صفحة الرِّجْل، فالبول كان داءً ودواء. ولا ندري من أقنعنا بأهميته ونجاعته في علاج الجروح، ومداواة المفلوح منها.
ألسنا بهذا، نكون قد سبقنا حرب الألْتْراسْ الكروية الدموية المخربة، بنحو نصف قرن، أو نكون ـ على الأصح ـ ألهمناهم « فجورهم»، وعدوانيتهم التي استفحلت وأضحت تنشر الرعب والخراب في الشوارع والحواري والواجهات؟
هكذا، تنتهي الحرب الضروس، ونعود إلى منازلنا ودفاترنا، نعود مرغمين لأن النهار مرَّ مَرَّ السحاب، والعياء أخذ منا كل مأخذ. نعود وكلنا انتظار لِ» سلخة « الأب أو الأخ الأكبر، أو الأم. و» سلخة « المعلم والمعلمة، غداً، عندما ينادي علينا في الصف للوقوف بين يديه أو يديها، ونحن ارتجافٌ واصطكاكٌ، وتأتأةٌ، وعرقٌ باردٌ يتصبب من جباهنا.
ولكننا نعود إلى غيّنا ثانيةً وثالثةً، وما لا يحصى من المرات والمِرار، إذْ تزين لنا أوهامنا، وحداثة سننا، أن الضرب والعقاب والتأديبَ، شريعةٌ سائرة في المدارس، ومسلمات أخلاقية وتقويمية تُرَبّينا وتعلمنا أن الواحد لا يؤمن، ولا يصل إلى مبتغاه إلا بالمعاكسة والحرونة والعناد. والغد كفيلٌ بإنضاجنا وإنبائنا بما فَوَّتْناهُ وفوّتنا، وما ضاع منا وضيعناه بسبب، ربما، من ضائقةٍ عشناها، وبؤسٍ كابدناه، وفرحٍ غامرٍ ـ مع ذلك ـ اقْتَنَصْناهُ ورَكبناه.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 04/12/2020