نبضات : عباس بن فرناسْ يحط بحاضرة فاس

إلى: عبد الهادي خيرات، رشيدة بنمسعود، أنور المرتجي، عبد الله بوشتاوي، وعبد الرحمان غندور

يا فاسُ.. يا مُسْتَراحاً حين أقصده /// أُلْفي على بابه الإيناسَ منتظرا
تحيتي لكِ لا َما يدَّعي قـَـــلَــــــمٌ /// مَهْما تفنَّنَ في الإبداع وابْتَكـــَرا
بلْ ما يَجيشُ بلبِّ الروح مُكْتَتِما /// وما يُصَفِّقُ في الأعماقِ مُسْتَتِرا
الشاعر التونسي: أحمد اللغماني

أفقنا ـ في اليوم الموالي لحلولنا بفاس، واحتلالنا لغرفٍ نَزَفْنا عرقاً من أجل الفوز بها، واحتيازها، باكرا. لم نغمض أعيننا في الحقيقة. اجتمع الرهط الجرادي في غرفة أحدنا، وسلخنا ساعات الليل في الثرثرة والكلام، ولم نكفَّ عن نسج الأحلام. الساحة الواسعة شرعت تتثاءب، والمماشي غاصة مكتظة بالذاهبين والآيبين، الماشين نحو هدف، والذاهلين الذارعين للأمكنة والأفضية بين انخطاف واندهاش، وفغور وجحوظ كأنهم بدوٌ أعرابٌ في بولْفاراتْ نيويورك القيامية العملاقة، وقبالة مَحالٍّ تجارية متلألئة، وأسواق ممتازة مبهرة تشع نورا ونيونا يغمز كل الوقت، ويكشط بحزم وتصميم دُكْنة الأركان والزوايا والخلفيات الخفية. وكنا في عداد هؤلاء، أجزاء منهم، وأبعاضا من طينتهم وصلصالهم وسجاياهم. السماء زرقاء، والشمس ضاحكة، والمكان يومئ لنا بالغمز واللمز البليغين. فلْنَنْزِلْ إلى المقصف لتناول الفطور، واختبار جودته من رداءته، ريثما نبتاع تذاكر الوجبات الثلاث التي ستصاحبنا طيلة إقامتنا بالحي الجامعي، والتي ستيسر لنا الكل بمقابل زهيد على كل حال لخواء جيوبنا، وقلة مذخورنا. جلسنا إلى الموائد المصفوفة، وكانت فيروز تصدح بصوتها الملائكي الرقراق: الله.. الله اا فيروز في الصباح، سيكون النهار عذبا رائقا، وسنحقق فيه ما عولنا عليه، وما برمجناه، وخططنا له مثل زيارة الجامعة ركنا ركنا، ومدرجا.. مدرجا، وإدارة، ومكتب منح، وساحات بأسمائها « الحركية «، ومثل النزول إلى الملاّح، والبطحاء، وبوجلود. لكن حدث ما جعلنا نضرب عما أزمعنا القيام به. حدث ما حدسناه إذْ تناهى إلى أسماعنا، نقاش سياسي حاد أخرس كل الأصوات، بين فصيلين: فصيل الاتحاد الوطني (الاتحاد الاشتراكي في ما بعد)، وفصيلي: 23 مارس، وإلى الأمام. وكانا فصيلين غاضبين مشتعلين يتوعدان « المنحرفين» ( التحريفيون الجدد) في نظرهم، ويعدان بالقطوف الدانية لأحلام تبرعمت ونضجت. وهما التياران اللذان خرجا، لأسباب ذاتية وموضوعية، من بطين حزب القوات الشعبية، والحزب الشيوعي المغربي ( حزب التقدم والاشتراكية في ما بعد ). اعتنقا، جهارا نهاراً، الاشتراكية العلمية، ودعَوَا بكل أريحية وحماس منقطع النظير، إلى التصدي للبورجوازية الهجينة التي تسمي نفسها ب» الوطنية»، وإلى الأوليغارشيا، والكومبرادور، بل إلى النظام. فهذه المصطلحات الاقتصادية والسوسيولوجية والإيديولوجية، كانت سائبة متاحةً تسيل على الألسنة كما تسيل الميازيب على الأفاريز والسطوح؛ وترصع الخطابات الإيديولوجية، والحلقات النقاشية، والسجالات السياسية، في ساحة هوشي منه، وساحة فلسطين، وفي جل الغرف الطلابية ليلا ونهارا. ومن لم يتخذها « دستورا «، ولغة وأسلوبا في نقد وتشريح الدولة والنظام، والطبقات المتغولة، فهو ـ في ملتها واعتقادها ـ قاصر الفهم، متخلف، وبالإمكان عَدُّهُ عنصراً مشبوها، وشخصا خطيرا ومناوئاً يحمل أفكار البورجوازية الصغيرة، ويتموقف في الوسط: بندولاً يتأرجح ذات اليمين وذات الشمال لأن من خصائص البورجوازية الصغيرة في الأدبيات الماركسية عموماً، اللاَّ استقرار، وسهولة تزحلقها في اتجاه النظام، واتجاه الرجعية، وخدمة كل ما من شأنه أن يطغى ويتجبر، ويطحن الطبقات الفقيرة وفي مقدمتها: العمال والفلاحون، والطلبة، في أسوأ الأحوال والاشتراطات، وفي خدمتهم وفقا للظروف وميزان القوى في أحسنها.
أعجبني شخصيا كلام وطرح عبد الهادي الإيديولوجي والمعرفي، الذي وجدته مقنعا من حيث تماسكه وصلابته وواقعيته. تدخلت بزادي الإيديولوجي الزهيد في « المعركة الكلامية « في الكلامولوجيا، ما جعل المناضل الاتحادي ينتبه إليّ، وكان مؤطرا حزبيا ناجحاً، على خُلُق ونضج وتواضع وبِشارة. شُغْلُه اليومي وانشغاله الذي انقطع إليه، هو استقطاب الطلبة والطالبات الجدد، وتوسيع كيان الشبيبة الاتحادية بما هي رافد للحزب، ومكون قادم بالإثمار غداً وبعد غد، وطابوقة أساس ترفع صرحه الإيديولوجي والسياسي والتنظيمي.
هكذا، نشأت بيني وبين عبد الهادي، وأنور الذي خرج للتو من السجن، ورشيدة ، وغندور، وعروج، وبوشتاوي، وآخرين يضيق المقام / المقال عن ذكرهم، صلة الصداقة المتينة، والنضال والانخراط في حزب الاتحاد. وما رَغَّبَني في الانضمام إلى الحزب، وكنت على بينة من أمر السياسة والسياسيين، اختلافي المتكرر إلى مقر الحزب الكائن بزنقة أحمد أمين، ولقائي بالمناضلين والمناضلات، وأساتذة اتحاديين أجلاء أُكِنُّ لهم الحب والاحترام والتقدير كالناقد العميد أحمد اليابوري، والروائي الناقد محمد برادة، والشاعر أحمد المجاطي، والمفكر محمد عابد الجابري، وغيرهم من الأدباء والكتاب والشعراء، والمفكرين في طول الوطن وعرضه، الذين كانوا نجوما مشعة في سماء حزب الاتحاد الاشتراكي في العام 1975 الذي انطلق قويا متميزا ومتفردا في مؤتمره الاستثنائي بقاعة الأفراح بالدار البيضاء، وساطعا على المستوى الفكري والسياسي والفلسفي، بالتقرير الإيديولوجي الذي صاغه وكتبه، بعد لملمة أطروحة ومرجعية وخلفية، وأفق الحزب، وما يتغياه ويبتغيه من أجل إنهاض وتقدم الوطن، المفكر الكبير محمد عابد الجابري، والقائد الشهيد عمر بنجلون.
كل هذا وغيره، كان لي سندا، ومعطىً ثريا بما لا يقاس، وحافزا عقليا وقلبيا واعيا للانخراط والانضمام والتصدي والتشغيب على الخصوم الإيديولوجيين المختلفين، وكانوا عددا وفيراً ونهرا هادرا. بل فزت بعضوية مجلس تعاضدية الكلية في وقت كان الإجهاز على الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، يجري على قدم وساق، بدعوى أن النظام « وقف « على خطورة التنظيم الطلابي الذي شرع يستفحل ويتغلغل في اوساط التلاميذ بالثانويات، وفئات معتبرة من أبناء الشعب، و» يتجاوز « حده النقابي والمطلبي. والحق أن المنظمة الطلابية صارت شرسة تسدد « طلقاتها « المخيفة» في اتجاهين اثنين: اتجاه النظام بقضه وقضيضه، واتجاه الأحزاب التي أضحت في تقديرها، تقليدية ومتجاوزة، وإصلاحية. ولذا استمرت مجالس التعاضدية تشتغل، فكانت بذلك تعويضا عن الخسارة المَهُولَة، والغياب الفادح لمنظمة طلابية وطنية أشعلت الجامعات الموجودة فترتئذ، وقدمتها إلى الرأي العام الداخلي والخارجي، على طليعيتها، وانصهارها في أتون المطالب الشعبية المشروعة في العدالة والديموقراطية، والعيش الكريم التي كانت مطلبا جماهيريا حَرَّكَه وتبناه حزب الاتحاد الوطني، وحزب التحرر والاشتراكية على عهد القائد المرحوم علي يعتة، وباقي الفصائل اليسارية المناضلة التي عانت الاضطهاد والنفي والسجن، والاختطاف، بما في ذلك الموت. كما عانى ذلك مناضلو ومناضلات الاتحاد الوطني / الاشتراكي للقوات الشعبية زمن ما اصطلح عليه بسنوات الرصاص، سواء بسواء.

( يتبع )


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 01/10/2021