نبضات … مراعي الخَروفِ المُعْشِبَةُ

(إلى صديقي علي بَلَّمْشيش)

1 ـ فَدَّانْ الجملْ:

أنا سنجابُ الغابةِ المتراميةِ المأهولةِ بكل جنسٍ وصنفٍ من الحيوان، والنبات، والطير، والزواحف، والحجر، والشجر. مفتش أدغالها، وآجامها، وأيْكاتها، وخمائلها. و» سَميحُها « الدَّعيُّ قاتلُ الثعبان في تلاوة المرحلة، الذي صدَّعَ الدروبَ والأزقةَ، والأحياءَ، ذات يوم، صارخا: ( قتلنا الثعبان.. قتلنا الثعبان )، بينما صديقه هو من قتله.
أنا مشَّاءُ السكة الحديدِ في الآحاد المشمسة، من جرادة إلى حاسي بْلالْ، رفقة صديقي عليّ. وأنا سليلُ السياف مسرور التاريخي، سياف هارون الرشيد. سياف أصحابي وأترابي، أتقدمهم منتفخ الصدر، كثير الهرج ـ وأنا الضئيل ـ كديكٍ رومي. أقطع أغصان الدّفلى بوحشية « البدائيين «، وأجُزُّ أغصان شجر الخرّوب والبلوط، أو أفنان الصنوبر والعرعر، جَزّاً كما تُجَزُّ رؤوسُ الشياهِ. أَبْريها وأنْحَتُها حتى تصبح سيفاً ولا أمْضى وأقطعَ؛ حساماً خشبيا ولاَ أَحدَّ وأشحذَ، يُزْري بحسام دونْ كيخوتي دي لا َمانْتْشا، سيفاً يتمثل عليا كرم الله وجهه، ومحاربي الجبال الغامضة البعيدة في الأناضول الضبابية، والفجاج الغِرْبيبَةِ الزرقاءِ الخرافية. مَنْغوليٌّ / تتريٌّ: أنا هولاكو المغربي. وكيف لا؟، وهذي غزواتي، وفتوحاتي شاهدُ صدقٍ تحكي عن شراستي وجسارتي، وبسالتي، واقتحامي الوعرَ والصعبَ، والوديان المسحورة، والغابات المجفورة. كأنني الأميرُ حمزةُ البهلوان. وكأنني الملك سيفُ بْنُ ذي يزن. هذا وجهي أكشف عنه وأعريه. وجهي الآخرُ المكبوتُ خلال الأسبوع الدراسي القامع والمقموع، المطمور خلف قناع الجد والمثابرة، والفوز بثقة الأساتذة، والأصدقاء والصديقات، وثقة أهلي. فما أن يحل يوم الأحد، أو أيام العطلة حتى أخلع عني وجهي البادي اليابس المثابر التمثالي « المصطنع «، لأضع مكانه ـ مزهواً ـ وجهي الثاني « الحقيقي»، المنطلق الهصور الذي لا يلوي على شيء، ولا يلتفت إلى شتم أونفور. أنا الرمحُ العابر للماء، والهواء والشجر والثمر؛ والصّقرُ الجارحُ مطاردُ كلِّ ضعيفةٍ، وخفيفةٍ، وخائفة.
صوتُ الغابة المحاذية يناديني، وأصواتُ أقراني تعلو وتخرق جدران منزلنا، مُلِحَّةً عليَّ في الخروج للنِّزالِ، لمقارعة الكِذْبَة بالكذبة، والضربة بالضربة، والنِّصالِ بالنّصال. وموازنة أنفالي وغنائمي بأنفالهم وغنائمهم. وكانت جُماعُ ما كَنزْناه من فاكهة ساسْنو، وبلوط،، و» بْلوقْ « (شَرْبونْ)، وما التقطناه واقتلعناه من هَنْدُباءَ، وبوبالْ، وجَرْجيرٍ. نُشكل فريقا زاعقا مزعجا، كثير الصراخ والصفير النكير، يَذْرَعُ الأزقة والدروب، مثيراً النَّقْعَ والغبارَ، عارضا سلعته على كل دار، مقايضاً نساء الأحياء، متوددا لهن، وشاكرا ناكرا أحيانا، وعلى استعداد أن يقتحم أهوال الغابة ـ مرة أخرى ـ لسلب وغَنْم ما تدَّخِرُهُ وما تختزنه من فاكهة وطير، وأعشاب ونبات كالزّعتر، وفليّو، وإكليل الجبل، ولَزَّازْ، وغيرها. فالطلب متوافر، والعرض جاهز وناجز.
كانت غابتنا مِعْطاءً. نَعْماؤها كثيرةٌ، وأفضالُها علينا شتى. من خيراتها التي لا تنضبُ عِشْنا، أقصد عشتُ، وعاش حاطبوها ومُحْتطبوها، ومُحَوّلو جذوع « البُطْم «، و» الضَّرْو « إلى فحم خشبي مطلوب. وكذلك عاش أقراني الشياطينُ، تلك العيشةَ الأخرى التي لا يمكن بحال أن تُتيحَها وتُوفرَها لنا أُسَرُنا: آباؤنا وأمهاتنا. إذْ كانت طلباتنا تزداد، ورغائبنا تشتد وتقوى في أن يكون لنا هامش آخرُ من التفسح، والتسكع، و» التَسَرّي «، ومالٌ نكسبه بعرق جبيننا، ومكرنا، وأساليب حِيَلِنا وزُلْفانا، وسيقانِنا المدربةِ على الطيران. لذلك وجدنا فيها (في الغابة)، مصدرَ غِنىً لنا وثَراءٍ، بلْسماً شافيا لأوجاعنا، وصدراً حنونا لأحزاننا، ومَهْرَبا ، ظليلا لحُمّياتِنا، وشقاواتنا، ومنبعاً ثَرّاً ، وماءً دافقا سلسبيلا لعطشنا، وَحَلاًّ دائما قائما لمشاكلنا. فيها، وبعيداً عن أوقات الشيطنة والإغارة، شربت الدروسَ شُرْباً، وحفظتها حفظا « قرآنيا» في زمن قياسي جدا. وفيها تهيأتُ لامتحان نهاية التعليم الثانوي الإعدادي، ونهاية التعليم الثانوي التأهيلي عندما أعود إلى جرادة قادما إليها من وجدةَ. وبرضاها وتقواها، حُزْتُ الدرجاتِ الرفيعةَ، وحققتُ بعضَ أمنياتي وأحلامي في أن أتَصَدَّرَ أقسامي، وأطوارَ مستويات تعليمي. سبعُ سنواتٍ في التعليم الثانوي بسلكيْه، لم تكن عِجافاً أبداً؛ على العكس كانت سِماناً، وضُروعاً لِباناً، وأَبّاً ومرْعى، ومَنّاً وسلوى. عِراكٌ مع نفسي، وعراكٌ مع الأنداد والأتراب. عراكٌ مع الأيام، والزمنِ الذي يتدحرجُ ويجري وما يدري أنَّ طفلا ـ صبياً وراءه يسري في عنادٍ واحْتِدادٍ، وتعويضِ ما فاته، وما انْسَرَبَ من بين فروج أصابعه من رملِ الأسابيع والشهور والأعوام. عراك دراسيٌّ، تعلميٌّ، معرفيٌّ، تنافسيٌّ، تصعيديٌّ، وما شئتَ من الأوصاف. ولكنه عراك سَمْحٌ، خُلُقيٌّ، إيجابيٌّ ومثمرٌ. صَبَرَ للأشواك الواخزةِ، والإبرِ الشّاكّةِ، والنتوءاتِ الجارحةِ، والجوعِ العاضِّ، والمرضِ الهادِّ. ولولاهُ، لولاَ ذاك العراكُ، ولولا أمُّهُ العظيمةُ ـ يرحمها الله ـ لَغاصَ في بطن الحوت، فإمّا عاملاً منجمياً يفوتُ، أوْ طفلاً مَصْدوراً من عِلَّةٍ وحَنَقٍ يموتُ.

2 ـ حاسي بْلالْ

لبيكَ يا حاسي بلالْ، لبيكْ. نحن قادمان إليكْ. ولم يكن القادمان غيري، وغير صديقي علي بلمشيشْ. نتحين الفرصةَ للذهاب إلى حاسي بلال، أعيْنُنا على السماء، وقلبانا على الفرحة الآتية. لم تكن نشرة الطقس قد ظهرت، ولا الهواتفُ الثقيلةُ السوداءُ المقيمةُ المركونةُ أو المرفوفةُ انتشرتْ في البيوت ما خلاَ الإداراتِ العموميةَ، والمؤسساتِ الحكوميةَ؛ فما بالُك بالهواتف المحمولة الذكية وغير الذكية. لكن، لحسن حظنا، وبختنا الجغرافي، فالتباعد بين الأحياء والجيران، لم يكن ذا شأن. والدواويرُ المحيطةُ بجرادة، كانت على مَرْمى صيحةٍ أو نداءٍ.
نَتفقُ على الموعد الغدويّ، ثم ننطلق إلى حاسي بلالْ، قاطعين حوالَى خمس كيلومترات، بل قلْ عَشْراً ذهابا وإيابا. نقطعها مَشْياً على ظهر صفائحَ مَصْفوفةٍ ومرْصوفَةٍ بين سكَّتَيْ الحديد. نقطة الانطلاق ثانوية سيدي محمد بن عبد الله، ونقطةُ الوصولِ المرسومةُ دوماً، والمشتهاةُ، منزل صديقنا ( يوسفي )، الرابضُ بين هَضْبتيْن مُعْشِبتيْنِ هناكَ.
وَكُنا تعاهدنا، وعقدنا ـ عليٌّ وأنا ـ صفقةً لا تراجعَ عنها. من بين بنودها: أنْ نتكلمَ، في غدْوِنا ورواحِنا، ذهابِنا وإيابِنا، طيلة الكيلومترات العَشْرِ: العربيةَ الفصحى، ولا شيءَ غير العربيةِ، سواءٌ عَبّرْنا عن أحاسيسنا، وعمّا نتمناه، ونرغب فيه، أو قَصَصْنا على بعضنا أخبارَ الأيام الماضية، وما درسناه وتعلمناه، بما في ذلك ما تناولناه من طعام وأكل وشراب. ومن دَرَّجَ سؤال أو جواباً، أو سردا، أو وصفاً، يدفع لصاحبه، عشرين سنتيماً من نحاس لامع وبرّاقٍ. بل حتى الأغاني التي كنا نشدو بها غادين ـ رائحين، كانت قصائدَ شعريّةً لا زَجَلاً ولا ملحونا، ولا أغانيَ عامية على رغم جمالها، وسحرها، وإمتاعها.
لذلك، كانتْ أغاني الفنان الكبير عبد الوهاب الدكالي، وغيره من الفنانين والفنانات الساحرين الكبار، رفيقا وأنيساً، تتَخَلَّل أحاديثَنا،وحوارَنا. كانت أغنية ( آخر آهْ ) زاداً وزوادة لنا، نرددها بصوت عال، عندما تعاكسنا الريح،ونشوةٍ وحُرْقةٍ أيضاً، متلذذين بأبياتها الشعرية ، وبديعِ أنغامها، ولحنِها الذي وضعه الموسيقي الفذُّ عبد السلام عامر. وهي للشاعر الرائد: محمد الخمار الكنوني:
لم يعدْ قلبي ولا فكري معكْ // لم تعد كلُّ المُنَى أَنْ أسمعكُ
ثم نُعَرّجُ على أغنية أخرى لنفس الفنان، والملحن والشاعر: ( حبيبتي عدتُ، فهل تُرى ليالينا تعود ). ونردد، ونحن نتأوه ونتحسر، أغنيةَ ( أنتِ ) للدكالي دائما، وهي من شعر البديع الرقيق: أبو القاسم الشابي، وتلحين الموسيقي الكبير المُلْهَم: عبد النبي الجراري.
كنا ـ عليّاً وأنا ـ نحفظها عن ظهر غيبٍ، ونحفظُ غيرها للكبار أمثال الموسيقار أحمد البيضاوي: ( قلْ لمن صَدَّ وخانَ ـ حبيبي تعالَ ـ أفديه إِنْ حفظ الهوى ـ ذكرى خلاصي ..)، والكبير عبد الهادي بلخياط 🙁 القمر الأحمر ـ ميعاد ـ رموش ) للشاعر المتميز الصديق عبد الرفيع جواهري، وألحان عبد السلام عامر. ولعلني لا أُخْفي / لاَ نُخْفي احتفالَنا ومَتاعَنا بالأغاني ـ القصائدِ على لسان السَّحَرةِ والعمالقة: فريد الأطرش، وأم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، ونجاة الصغيرة، وفيروز.
ولعل هذا المخزونَ الفنيَّ الغنائيَّ الرفيعَ والبديعَ، هو ما أغْنَى « ثقافتنا « الأدبية الشعرية الجمالية، ورَقَّقَها، وزَخْرَفها، وقادني بنعومة الحرير، ورهافةِ المخمل، إلى الشعر، وعوالمِ الشعراء الحالمةِ والأليمةِ حيثُ اللغةُ ترقصُ، والبَوْحُ ينسابُ ويتدفقُ، والوجدانُ يشتعلُ، والشاعر يتلَوَّى ويَتَسَهَّدُ، والقلبُ يَنْفَطِرُ ويبكي، والدُّنَى تنْطفيءُ وتتوهجُ في ومضةٍ كالشُّهْبِ العابرةِ للفضاء بجنون.
داوَمْنا على الرحلة إياها حتى بدَّلَتْنا الأقسامُ، وفرقتْ بيننا المواقيتُ، وتَناءتْ قليلاً أخبارنا إلى أنْ جمعتنا وَجْدةُ المحروسةُ بثانوية عبد المومن البهيةِ الساكنةِ سويداءَ القلبِ.
التقينا، من دون صديقِنا الأثير يوسفي البشير الذي رحل وكأنَّ جنيَّةً اختطفته، وأمَّنا غَالاَ ابتلعته..اا
فهل انطوى ذِكْرُه، وخبا نَجْمُه، وطُوَيَتْ أيامُه طَيَّ كتابٍ؟. آآاهٍ.. يا للنوستالجيا الحارقة، يا للعذابِ اا.إحـــــالات:
1 ـ فدّانْ الجّْمَلْ: هو الاسم القديم لجرادة قبل أن يُكْتَشَفَ بها الفحم الحجري. كانت المنطقة مجالا للرعي، وفضاءً غابويا متراميا تَعْمُرُه أشجارُ البلوط بخاصة، وتستفيد منه القبائل البدوية المجاورة كَ: بْني يَعْلى ـ أولادْ سيدي علي بوشنافة ـ بْني كِيلْ ـ وبْني مَطْهَرْ.

2 ـ حاسي بلالْ: بلدة عمالية مناضلة أيضا. تبعد عن جرادةَ مسافة خمس كيلومترات تقريبا. وهي توأم جرادةَ، وأخوها الصغير البار. وربما سميت كذلك، لأن أول من شَقَّ بئراً، وعثر على فحم بها، يُدْعى بلالْ.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 26/02/2021