هذه الحكاية، حكايتي، أصبحت أيضا حكاية جماعية، عامة ديموقراطية، جمهورية وسياسية، حكاية فرنسية لأنني وزيرة في الجمهورية، وأنني حملت كلمة بلادي، وفي بعض الأحيان تتمثل هذه البلاد في وجهي، لا هي حكاية جميلة ولا سيئة، فقط هي حكاية حقيقية.
بالنسبة لي قبل 39 سنة، الحياة رحلة بدأت في بني شيكر بالمغرب، ولا أعرف تماما كيف هو مسارها، أو بالأحرى أحاول ألا أعرف … بالمقابل، أعرف جيدا لصالح من أعمل كل صباح، كل مساء، في كل مرة أركب الطائرة، أغيب عن عائلتي، أعتذر عن حضور احتفال بنهاية السنة، أو عندما تتصل بي والدتي لتقول لي إنها لم تعد تراني، مؤاخذات حنونة، إنه شيء فظيع.
واليوم لا أعتقد أنه بإمكاني أن أتوقف هنا، أن أقول بأنني كنت ناطقة باسم الحكومة، وزيرة لحقوق النساء، وزيرة للمدينة، للشباب والرياضة، ووزيرة للتعليم العالي والبحث العلمي، بأنني وضعت قوانين ووقعت مراسيم، تلقيت ضربات، تكلمت في البرلمان.. ضحكت من صوري من هفواتي، وبالأخص استمتعت وسط هذا الصخب، وأيضا كوني كنت محبوبة، ولي أصدقاء في كل الظروف، كل هذا صحيح ومثير وقاس، لكن هذه ليست فكرة هذا الكتاب. الفكرة هي أن أتحدث عن فرنسا، عن فرنسا بلدي، فرنسا بلدنا…
وأخيرا حصلت على الباكالوريا صنف «الاقتصاد والاجتماع»، مسترشدة بأختي الكبرى التي كانت تتابع دراساتها في الحقوق وكان ذلك سنة 1995، كان عمري حينها 18 سنة، و كنت مزهوة كثيرا بسبب ذلك، لأن الحدود غير المرئية كانت لا تزال موجودة ، لكنني كنت أعتقد أنني أعرفها وأنني تجاوزتها من خلال الذهاب إلى أحياء أخرى وكذا من خلال تجوالي في مدينة اميان وشوارعها وأزقتها وساحاتها وبناياتها الإدارية، لقد تحولت الحدود وأصبحت خادعة، لأن الأمر يتعلق فقط بالمعرفة وبالولوج إلى المعلومة، ولكن يجب قول الأشياء كما هي، خاصة عندما تكون منتخب الجمهورية، فالتلاميذ الذين يتحذرون من أوساط اجتماعية بسيطة حتى وإن كانوا يمتلكون مواهب خاصة، لا يحصلون بالشكل المناسب على المعلومات بخصوص المسالك المفتوحة أمامهم مقارنة مع الآخرين، وهذا العمل التوجيهي من الممكن أن يكون من فعل أي شخص، في بعض الأحيان، فقد يكون … صديقا، جارة، أستاذا، مستشارا في التوجيه، تدريبا صيفيا، وبعدها كل شيء يتضح ويتغير، ولكن في الغالب لا يوجد شيء، ومن ثمة لا نجرؤ على الاستفسار والسؤال ، فنحن نشعر بأننا إرادويون ولكننا لا نحسن التصرف، كما نشعر بأننا أقل تجربة من الآخرين وبالتالي نخطئ الطريق، وأحد تحدياتنا نحن، سواء كنا آباء أو مدرسين أو مسيري شركات أو مسؤولين سياسيين، ليس هو معرفة كل الشعب ولا اتخاذ القرار مكان الصغار، بل إعطائهم أفقا.
بالنسبة لي، وبشكل متناقض، فقد كنت محظوظة أنني عشت داخل محيط مغلق تقريبا، كما قلت سابقا، في دائرة بدون موارد مالية كبيرة، ولو أن والدي لم يتوقف عن العمل، لكنه كان جديا ومنتبها، لا أجرؤ على نعته بالمثالي، أما أختي الكبرى فقد كانت مثالية وصارمة أيضا، لقد رسمت لنا أسلوب العمل ثم العمل ووضع هدف أعلى.
بعد الباكالوريا سجلت في كلية الحقوق حيث بقيت حوالي ثلاث سنوات، آنذاك كنت أجهل وجود شعبة العلوم السياسية، لكن وذات يوم تقدمت بنوع من التردد إلى مركز الإرشاد والتوجيه، وأنا أبحث عثرت على مطوية معلومات عن معاهد الدراسات السياسية تصف الشروط والمشروع ومحتوى الدراسات، لقد أغراني على الفور البعد العام للدراسات، وبمعنى آخر التكوين على الحياة.
قدمت تسجيلي لامتحان الولوج وحيدة، بعيدا عن « حظائر» الإعداد والثانويات الكبرى، هيأت وأعددت نفسي بشكل عفوي، مدرسي، ولكن بطاقة ورغبة قويتين.
عندما أخبرت والداي بأنني أتهيأ لامتحان باريسي كان رد فعلهم الأول هو القلق، فبعد أختي الكبرى هاهي بنت أخرى ترحل إلى باريس؟ مدينة كل المخاطر، ليست المدينة الشيطانية، ولا بابل الفاسدة ولكنها المدينة الكبيرة جدا التي يمكن أن يتيه فيها الإنسان بالمعنى الحقيقي والمجازي، تصوروا أنني لم أزرها أبدا. أما بالنسبة لوالداي، فقد انتُزعا من قريتهما الصغيرة، كما حكيت من قبل.
عندما أعيد التفكير في هذه اللحظات أشعر بتأثر كبير، أحاول أن أتخيل نفسي وعمري 20 سنة، جدية، إرادوية. لكن دون تجربة في الحياة، ونظرة على العالم مستمدة أساسا من كتب الجغرافيا. ومن عطلاتي الصيفية الثلاث التي قضيتها في المغرب، وقد احتفظت بما يلي: فرنسية وفي فرنسا سأكون حرة في اختيار أصدقائي، خطيبي، كتبي، رحلاتي، طفلي، عملي، طريقي في الحياة.
كان يوم الامتحان هو اليوم الكبير الذي لن أنساه، رافقني والدي من البداية حتى النهاية، غادرنا المنزل حوالي الرابعة صباحا، بعد أن أعدَّت لنا أمي فطورا، وبعض الزاد للرحلة الكبرى، ثم قبلتني كما لو أنني كنت مفقودة، كان الجو لا يزال باردا، أخذنا الحافلة حتى محطة قطار أميان ثم ركبنا القطار حتى محطة الشمال بباريس، ثم ركبنا خط القطار الجهوي حتى دار الامتحانات بأركاي، انتظرني والدي طيلة اليوم في مقهى غير بعيد، عدنا إلى البيت منهكين تماما، لم أكن أغذي أوهاما حول الامتحان، لكن المغامرة بدت لي جريئة ومرحة، لقد اكتشفت مدرسة تغريني، أعتقد أنني أنجزت الخطوة الأصعب: إقناع والداي، والتسجيل في الامتحان، رغم أن حظوظي كانت تبدو لي ضعيفة، ثم تجاوز الحدود الرمزية والجغرافيا، وزيارة باريس بالمترو. صحيح، لكن بسرعة……