نزهة بناني، بين التجريب والسؤال

 

قد تختلف وتتباين الرؤى استنادا لاختيارات تحددها عين المبدع من جهة، وقد تختلف من زاوية أخرى في اختيار الوجهات والمحطات التي يمر منها كذلك، على مستوى المكان والزمان. وبما أننا أمام مشروع يمتح من كل الأمكنة والأزمنة، بمجريات أحداثها، فإن هذا المشروع الإبداعي، كان خلاصة لما أفرزته الرحلات المستمرة التي قامت بها الفنانة نزهة بناني طيلة حياتها، متنقلة بين الأمكنة باختلاف مخزوناتها الثقافية والفنية، لتعيد النظر في طرح أسئلة وجودية انطلاقا من أصول تربتها ومكان نشأتها، ولهذه الغاية، تندرج هذه التجربة ضمن إبداع الرحلات من حيث أسلوب اشتغالها واهتماماتها وكذا مرجعياتها العالمة بخبايا جنس تعبيري مرئي تتحدد أدوات الاشتغال به في العناصر المؤثثة للأيقونة الفنية بكل مواردها المشهدية التي تحقق المتعة والدهشة.
إن اشتغال الفنانة نزهة بناني، كان من زوايا مبحثية ومرجعية بعين لاقطة لكل التفاصيل المحيطة بها في جولاتها، بحس دفين مرتبط بذاكرتها وجذورها العريقة، ومفتوح على مغامرة إبداعية غنية بمعطياتها، جعلها من تجربتها مشتلا لكل التوقعات اللاإرادية المنبثقة عن قدرتها الاكتشافية لمكامن القوة الجمالية في الطبيعة والوجود بسلطة العارف بخبايا الفن وتاريخه، في محاولة خلق نوع من التوازن البصري الذي جمع بين الذاكرة والفكرة.
غالبا ما تدخل الرحلة نسق التجريب نحو اكتشاف المجهول، بينما في التجربة الرحلية للفنانة نزهة بناني، نقف على خاصيتين أساسيتين تمثلان المحور المحرك لدواليب البحث في شمولية مشروعها الفني، وهما التجريب والسؤال، أي تعدد أساليب المعالجة التقنية، مع هاجس التفكير في أسئلة موضوعاتية لاكتشاف هذا المجهول، مما شكل توازنا بصريا وذهنيا معا، جعل من المتلقي جزءا عضويا من أيقوناتها التشكيلية بطريقة غير مباشرة، كانت هي الأقوى في إثبات ووجود التحفة الفنية بكيانها وتراكمها الثقافي والمرجعي النابع من ذات المبدعة.
إذن لا يمكن الحديث عن مشروعية البحث الفني للفنانة نزهة بناني إلا من خلال معرفة سابقة لمسارها الإبداعي وتسلسله الزمكاني، لذلك أخذت من منشئها كل ما احتفظت به ذاكرتها الطفولية، فكان للحرفة اليدوية حظا وقسطا من هذا المشروع، فجعلت من الثوب الشفاف بكل أنواعه وألوانه جزءا من السند، كعملية إضافية لتحرير العين من النمطية، تأكيدا على تشبثها بتقاليد تربتها الأصلية مع إضافة بعض العناصر المكملة لتكويناتها كالخيوط بتمثلاتها البصرية والذهنية لهذه العملية الحرفية أي الطرز والخياطة، مما أضفى على تجربتها عاملا تجريبيا واستدراكيا لمناحي الاشتغال بأياد متعددة.
إن ما يؤكد على هذه المغامرة الفعلية، هو إدماج ما تبقى من رحلاتها العالمية في أعمالها من بقايا أجزاء الصحف للأقطار التي زارتها ك (الصين واليابان وأمريكا الشمالية وفرنسا وإسبانيا…)، باعتبارها علامات خطية إلى جانب الخط العربي وإفراغه من المعنى للاحتفاظ بالجانب الرمزي الذي يصب في المعنى الدلالي للجمال، مما خلق تفاعلات مادية بصرية بروح احتفالية، جعلت من لوحاتها القماشية أيقونات تصاعدية Transcendante على مستوى البحث، تتوزع بين بعدين الطول/العرض، وبين البعد الثالث أي العمق، الذي أفرزته منتوجاتها الطينية والزجاجية، لتبرهن على امتلاكها ناصية الحرفة الفنية بتعدد أسندتها.
فأسلوب الفنانة نزهة بناني، يعتبر (حسب تقديري) أسلوبا غنائيا، يدخل ضمن اتجاه التعبيرية الجديدة Néo-expressionniste، لما يطرحه من قضايا لها علاقة باهتمامات هذه الفنانة، كقضية المرأة، التي شكلت من رأسها وجسدها انسيابا، بتكوينات دائرية داخل متاهات لانهائية تفضي للمجهول، لكي لا تؤطر عين المشاهد في خانة محددة، قصد تحفيزه (أي المتلقي)، على المشاركة في اكتمال اللوحة.
لم تقف هذه التجربة عند حد السرد في التعامل مع المعطيات التي أفرزتها من إمكانيات جمالية وأخرى ثقافية تغرف من الماضي وتصب في الحاضر، برؤية متقدمة بحثا عن حقيقة غائبة، بل تجاوزتها في اختيار ملون خاص (Palette) بطريقة احتفالية كما أشرت سالفا، تلك الاحتفالية الصاخبة من خلال التكوينات الدائرية والحلزونية، التي انبثقت من رحم تركيبات هلامية (Gilatineux)، لخلق فضاءات ممتدة في الزمان والمكان، بموادها ونتوءاتها الشفافة والبارزة في نفس الآن، حيث حضور الألوان بتدرجاتها الكروماتيكية، في تعاملها في ما بينها في علاقتها بمحيطها ومع الفكرة المحورية للطرح التشكيلي المنشود، فتارة تجدها ألوانا أولية (الأصفر/الأزرق/الأحمر)، وتارة أخرى يتحول السند لخليط من الألوان المتعددة بتقابلاتها بفعل النور والعتمة، وفي أحيان أخرى تذهب الفنانة نزهة بناني إلى اختزال الألوان بالاشتغال على مونوكروميات بالأسود والأبيض أو الأزرق والأبيض.

نص الكاتالوغ على هامش معرض الفنانة نزهة بناني بقاعة محمد القاسمي بفاس من 17 إلى 30 نونبر 2022.

تشكيلي/ ناقد


الكاتب : شفيق الزكاري

  

بتاريخ : 28/11/2022