لم تكن الرؤيا المبشرة بقدر السيدة وجلالها وشفاعتها، وكرامتها المباركة التي ستحل على الفقراء الدراويش والعائلة البائسة، محض وسيلة لإنقاذ هؤلاء الأشقياء من وضعهم المتردّي، لكنها كانت علامة وراثة، وإعلان قداسة يمنح للسيدة منذ لحظة الميلاد التي ستغدو لحظة أسطورية خارقة، كما هي دوما في العديد من سير القديسين الأولياء والأنبياء، والأبطال .. الخ.
ولعله يجدر بنا أن نتوقف عند بعض الروايات اللافتة التي محتنا إياها سيرة رابعة المروية المتخيلة حول كيفية تعاملها مع مسألة الغنى والفقر، وطبيعة صياغتها لوضعية الافتقار المطلق للحق وحده دون سواه.
يقول العطار راويا :
إنه في إحدى المرات أتى رابعة رجلا بأربعين دينار، وقال لها: تستعينين بها على بعض حوائجك، فبكت ثم رفعت رأسها إلى السماء، وقالت: هو يعلم أنّي أستحي منه أن أسأله الدنيا، وهو يملكها، فكيف أنا أريد أن أخذها ممن لا يملكها !! وفي رواية على لسان الحسن البصري، أنه قال: “ذهبت يوما إلى رابعة في مرضها، فرأيت تاجرا يبكى، فسألته ما يبكيك؟ فأجاب: أتيت إلى رابعة بهذا الكيس من الذهب، وأخشى ألا تقبله، فاذهب أنت واطلب منها أن تقبله لعلها تفعل. فدخلت على رابعة، ولم أكد أخبرها بما حدث، حتى قالت لي: إنك أيها الحسن تعرف تماما أن الله تعالى يعطي الطعام لمن لا يركعون له، فكيف لا يعطيه من يغلي قلبه حبّا لجلاله… وأنا منذ عرفت الله صرفت وجهي عن كل مخلوق، والآن كيف أقبل المال من إنسان، ونحن لا نعلم أهو حلال أو حرام؟! ثم قالت: ذات يوم وضع في المصباح زيت من بيت السلطان، ورفوت ثوبي الممزق على ضوء هذا المصباح، فظل قلبي طوال أيام مغمورا بالظلمة، ولم يضئ إلا حينما شققت الثوب الذي رفوته، فاعتذر لهذا التاجر، ودعه يذهب “.
إن ما يثير انتباهنا في هذه الروايات ليس هو الزهد الراقي للسيدة، ولا تأبّيها وترفعها أو طبيعتها القوية في مواجهة مباهج الدنيا ومشهياتها وملذاتها، ولا صرامة استغنائها الحاسم عن كل ما سوى الله، ولا ذلك الورع التقيّ في توخّي الحلال الصافي كسابقها ابن أدهم، فكل هذه الأمور متوقعة وواردة في سير العباد والزهاد، في تلك المرحلة. لكن ما يثير الانتباه حقا هو ذلك التحول القيمي لهذه الفتاة التي نشأت فقيرة بائسة مستعبدة مستباحة، فلم تسع لتعويض هذا الشقاء بنقيضه المنطقي المعتاد، وفي الوقت نفسه، لم تستسلم لوضعية الفقر بوصفها قدرا مأساويا، وحالة ميلودرامية تلقى على حياتها ظلال الحسرة والمرارة والغضب والأسى، وتجعلها تنقم على المجتمع وأغنيائه وسادته الذكور الظالمين وتسعى للانتقام منهم.. الخ. بل على العكس من ذلك تماما، ستبدع رابعة سيرة خلاقة تمنح قيمة الفقر طابعا ايجابيا ثريا، يحررها من حمولتها السلبية، ودلالتها المؤسية، فتغدو فتاة الأمس المسكينة الفقيرة المجردة من كافة أشكال الحماية الاجتماعية، والمساندة المادية والمعنوية، هي سيدة اليوم، جليلة القدر، ذات الخدر الخاص، المستورة بستر الإخلاص، الصافية الصفية، فيما يصفها العطار. إن رابعة، ومن خلال هذه الروايات العطارية، تمتلك قيمة نادرة، لا يطاولها فيها أكبر الزهاد، الحسن البصري، سيد التابعين والزاهد الأعظم. وتتجلى هذه القيمة في كون السيدة تمارس فقرها بدعة واسترخاء طبيعيّ، ودون بذل جهد، أو صراع مع ذاتها. أو بعبارة أخرى، فقد أضحى الفقر سمتا فطريا، وبديهة حياتية من بديهيات السيدة، فهي تتخايل بفقرها الشريف الذي يمنحها أرومة متعالية ذات نسب سماويّ، ويجعل وجودها في هذه الدنيا كطيف خيال عابر يمر بها مرور الكرام.
يروى عن السيدة، أن أحد علماء البصرة كان يزورها، ويقال أنه كان الحسن البصري، وأخذ يتحدث عن شرور هذه الدنيا، فقالت رابعة ” آه ! لا بدّ أنك تحبّ هذه الدنيا، فإن من أحبّ شيئا أكثر ذكره، فلو أنك تجرّدت تماما عن هذه الدنيا، فماذا يهمك من خيراتها أو شرورها ؟
وسئلت رابعة “من أين أتيت؟ فقالت : من العالم الآخر – فسئلت ثانية: وماذا تفعلين في هذه الدنيا؟ فقالت: أعبث بها.. فسئلت أخيرا: وكيف تعبثين بها؟ فقالت: آكل من خبزها، وأعمل عمل الآخرة !!
ولا يغيب عنا في هذا السياق تلك الإشارة المختزلة في الروايات سالفة الذكر لموقف رابعة من السلطان، الذي رفت ثوبها الممزق يوما على ضوء مصباح وضع فيه زيت من بيت السلطان، فأظلم قلبها أياما، ولم يضئ إلا حين شقت ثوبها ويا لها من إدانة قاسية المغزى والدلالة !!