وشم الإذلال
تعيش العديد من النساء، وإلى غاية اليوم، عنفا تختلف أشكاله وصوره، قد يكون جسديا أو نفسيا أو جنسيا أو قانونيا أو اقتصاديا أو ثقافيا …، ماديا أو معنويا. عنف قد يرافق الضحية أينما حلّت وارتحلت، قد تعيشه منذ نعومة أظافرها وهي طفلة أو يافعة ثم شابة، وقد يستمر ليصاحبها حتى بيت الزوجية ليكون عبارة عن حلقة ممتدة، وقد تجد نفسها لأول مرة تحت هذا السقف الجديد تعيش هذه التجربة المريرة غير المنتظرة.
عنف في البيت، في الشارع، في العمل، في الفضاءات التعليمية المختلفة مستوياتها، قد يكون عابرا وظرفيا، وقد يصبح ملازما و «أبديا»، يمكن لفصوله المادية أن تنتهي، بمتابعة المعتدي أو في حالات جد وخيمة بوفاة الضحية تحت التعذيب أو أن تضع هي نفسها مكرهة حدّا لحياتها، كما يمكن للأذى العضوي أن يتوقف بتدخل القانون لحماية المعنّفة لكن مع استمرار النفسي ما استمرت في الحياة.
اعتداءات مستمرة، تجعل المدافعات والمدافعين عن حق المرأة في حياة بدون عنف، يطالبون بمراجعة الترسانة التشريعية الخاصة بالنساء وبحمايتهن وإدخال تعديلات عليها تأخذ بعين الاعتبار كل المتغيرات والمستجدات التي تم الوقوف عليها وملاحظتها وتسجيلها، للقطع مع كل أشكال التمييز ضد المرأة وإحقاق الإنصاف والعدالة.
«الاتحاد الاشتراكي»، وانطلاقا من وقائع فعلية، لحالات عنف طالت مجموعة من النساء من فئات عمرية وشرائح اجتماعية مختلفة، شملت في حالات معيّنة أمهات وأطفالهن، إضافة إلى عنف استهدف طفولة بريئة، على امتداد جغرافية المملكة، قررت صياغة بعض القصص التي تحرّر ضحاياها من قيود الإيذاء العمدي، مع تعديل شخوصها وبعض من تفاصيلها، مساهمة في تسليط الضوء على واقع لا يزال الكثير من مساحاته يتحكم فيها الصمت والألم.
قصص من نوافذ غرف العنف، اكتوى داخلها ضحايا من نيران الأذى الذي اختلفت صوره، والذي يواصل البحث عن ضحايا جدد.
تنحدر نجاة من منطقة الغرب، شبّت في وسط أسرة جد متواضعة، إلى جانب أخواتها الأربع، وكانت منذ صغرها شغوفة بالدراسة والتعلم، إذ ولجت المسيد في مرحلة أولى ثم المدرسة الابتدائية فالإعدادية، بالرغم من الظروف الاجتماعية.
عاشت الطفلة القروية طفولة صعبة اجتماعيا واقتصاديا، جعلتها تكتشف وهي صغيرة أنواعا مختلفة من الأشغال بمقابل جد بسيط من أجل المساهمة في توفير دخل للأسرة، خلال نهاية الأسبوع وفي العطل البينية ثم في العطلة الصيفية، شأنها في ذلك شأن باقي أخواتها، خاصة بعد أن أصيب الأب بمرض عضال ألزمه الفراش وجعله عاجزا عن القيام بأي عمل.
وضع اجتماعي، دفع إلى إرسال نجاة عند خالتها بالمدينة، لتصبح معيلا أساسيا لأسرتها، ولتقطع صلتها بالدراسة، فقد غادرت كرسي التمدرس من المستوى الإعدادي. تردّدت اليافعة على مجموعة من الأعمال، التي انطلقت في وسطها الجديد كخادمة في المنازل لكن سرعان ما اتجهت نحو الخياطة، تتلمّس الحرفة شيئا فشيئا، وإن لم تتمكن في أن تطوّر مكتسباتها فيها وظلت عملها محدودا في أعمال بعينها.
كانت نجاة شابة جميلة، لم تنتزع منها قساوة العيش جمالها، وكأي فتاة تمنت أن تجد فارس أحلامها، وأن تبني معه عشّ الزوجية، ولأنها من وسط بسيط وبمستوى تعليمي متوسط لم تكن تحلم بزوج ميسور ومن طبقة عليا، فقط كانت تمنّي النفس بأن تجد حضنا تلوذ إليه بعد وفاة والدها، الذي التحقت به خالتها التي كانت تقيم عندها والتي كانت غير متزوجة ولا أبناء لها. حلم سيتحول إلى كابوس، بعد أن عقدت قرانها على سعيد، الذي عوض أن يجلبها لها السعادة جاء بالشقاء، فهذا الأربعيني المياوم الذي يكبرها بـ 12 سنة، كان يتعقّبها كظلها، كلما غادرت البيت نحو العمل أو في طريق عودتها، واستغل مرات عديدة مجموعة من المواقف ليبيّن لها رجولته وشهامته، ولينثر ورود الوعود في طريقها يمنة ويسارا.
تغزّل و»مطاردات» مصحوبة ببعض من ملامح القوة، كلها عوامل جعلت نجاة تقبل طلب العشيق، فهي نهاية المطاف وحيدة ولم يخطب ودّها غيره، فكان أن عقد قرانهما في حفل بسيط في الحي الشعبي الذي تقطن به، وهي ترسم في مخيلتها حياة وردية رغم صعوبات العيش، لأنها كانت عازمة على مواصلة العمل، والتكفل بمتطلبات العيش وأن تساعد زوجها على أن تستقيم أحواله ويطوي صفحة الماضي لينتقل إلى مرحلة جديدة في حياته.
متمنيات مثالية، عبّر الزوج عن استعداده لتحقيقها، لكن دون أن يجسّد ذلك عمليا، فقد كان في كل ليلة يختزل العلاقة الزوجية في ممارسات جنسية، يدّعي من خلالها تقاسم الحب مع زوجته التي يعشقها، وكانت نجاة تقوم بدور الزوجة الطبيعية، وإن كان سعيد يأتي مخمورا وفي وضعيات غير طبيعية، وذلك خشية أن يصيبها مكروه وأن يحدث ما لم تكن تنتظره يوما. قضت الزوجة مع شريكها شهرين كاملين تجرّعت خلالهما مرارة أخرى من مرارات الحياة التي لم تنته، ومع بداية الشهر الثالث توصلت بخبر يدعوها لزيارة مقر الأمن، وهناك اكتشفت بأن الزوج الذي كان مدمنا، والذي لم يقم بأي مجهود للإقلاع عن إدمانه أو للبحث عن عمل، كان يحترف السرقة، إذ تم إلقاء القبض عليه متلبسا بالسرقة باستعمال السلاح الأبيض.
توقيف فإدانة حبسية لمدة ثلاث سنوات خلف القضبان، جعلا الزوجة تتنفّس الصعداء، لكن بمرور الأيام فالأسابيع ثم الأشهر، بدأ الخوف يدب في جسدها خشية أن يغادر سعيد السجن ويعود إليها وإلى ممارساته السابقة، وبناء على نصائح من زميلات لها في العمل شرعت في إجراءات الطلاق لتخليص نفسها من قبضة الزوج الذي لم يكن اختيارها له صائبا. قبضة ستكون عنيفة لاحقا، إذ بالرغم من تحرّر نجاة من حبل الزواج إلا أن سعيد غادر السجن وعاد إليها، وهو يتنفس حقدا جراء الخطوة التي أقدمت عليها والتي اعتبرها طعنا له، فتربّص بها وهاجمها بعد عودتها من العمل يوما مقتحما البيت، وعمل على ربطها بطريقة وحشية إلى السرير، ثم شرع في تعريضها لشتى أنواع التعذيب الجسدي والجنسي والنفسي، دون أن تكون قادرة لا على الصراخ ولا الكلام، وهي تحت التهديد بالقتل.
وجدت نجاة نفسها أسيرة في بيتها، تتعرض للضرب على مستوى جسدها بأكمله، وعرضة لممارسات سادية مرضية، فقد عرَّضها طليقها لكل أشكل العنف والأذى، وجعلها تتجّرع المرّ من كأس الألم، ولم يكتف بتعنيفها يدويا وباستعمال أدوات راضّة، بل أنه أقحم قنينة خمر في دبرها وهو في حالة سكر طافح، وفي اليوم الموالي «حفر» وشما شائنا أسفل ظهرها، قبل أن يغادر إلى وجهة غير معلومة.
ظلت الضحية مقيدة إلى السرير وهي تئن ألما، بعد أن استعادت وعيها، لكن وهنها لم يمكّنها من طلب النجدة، ولم يتم اكتشاف الأمر إلا من خلال زميلة لها في العمل التي جاءت لتطمئن عليها بسبب غيابها غير المسبوق، وحين طرقت باب المنزل سمعت الآهات تنبعث من الداخل، فأخبرت بعض الجيران الذين اقتحموا البيت فوجدوها في وضعية مزرية، حتّمت الاتصال بالأمن وبالإسعاف لنقلها إلى المستشفى، الذي تلقت به العلاج، وتم أخذ أقوالها والاستماع إليها لاحقا وهي تقصّ ما عاشته من رعب، سيلازمها بكل تأكيد، كوشم الذل الذي في أسفل ظهرها، في الوقت الذي انقطع كل خبر عن المعتدي، أما هي فقد غادرت بدورها المنطقة بحثا عن حياة أخرى لعلّها تنسيها ما عاشته من آلام هناك تعددت أشكالها وصورها.