«نوافذ».. من غرف العنف (2)

إرث من ألم

 

تعيش العديد من النساء، وإلى غاية اليوم، عنفا تختلف أشكاله وصوره، قد يكون جسديا أو نفسيا أو جنسيا أو قانونيا أو اقتصاديا أو ثقافيا …، ماديا أو معنويا. عنف قد يرافق الضحية أينما حلّت وارتحلت، قد تعيشه منذ نعومة أظافرها وهي طفلة أو يافعة ثم شابة، وقد يستمر ليصاحبها حتى بيت الزوجية ليكون عبارة عن حلقة ممتدة، وقد تجد نفسها لأول مرة تحت هذا السقف الجديد تعيش هذه التجربة المريرة غير المنتظرة.
عنف في البيت، في الشارع، في العمل، في الفضاءات التعليمية المختلفة مستوياتها، قد يكون عابرا وظرفيا، وقد يصبح ملازما و «أبديا»، يمكن لفصوله المادية أن تنتهي، بمتابعة المعتدي أو في حالات جد وخيمة بوفاة الضحية تحت التعذيب أو أن تضع هي نفسها مكرهة حدّا لحياتها، كما يمكن للأذى العضوي أن يتوقف بتدخل القانون لحماية المعنّفة لكن مع استمرار النفسي ما استمرت في الحياة.
اعتداءات مستمرة، تجعل المدافعات والمدافعين عن حق المرأة في حياة بدون عنف، يطالبون بمراجعة الترسانة التشريعية الخاصة بالنساء وبحمايتهن وإدخال تعديلات عليها تأخذ بعين الاعتبار كل المتغيرات والمستجدات التي تم الوقوف عليها وملاحظتها وتسجيلها، للقطع مع كل أشكال التمييز ضد المرأة وإحقاق الإنصاف والعدالة.
«الاتحاد الاشتراكي»، وانطلاقا من وقائع فعلية، لحالات عنف طالت مجموعة من النساء من فئات عمرية وشرائح اجتماعية مختلفة، شملت في حالات معيّنة أمهات وأطفالهن، إضافة إلى عنف استهدف طفولة بريئة، على امتداد جغرافية المملكة، قررت صياغة بعض القصص التي تحرّر ضحاياها من قيود الإيذاء العمدي، مع تعديل شخوصها وبعض من تفاصيلها، مساهمة في تسليط الضوء على واقع لا يزال الكثير من مساحاته يتحكم فيها الصمت والألم.
قصص من نوافذ غرف العنف، اكتوى داخلها ضحايا من نيران الأذى الذي اختلفت صوره، والذي يواصل البحث عن ضحايا جدد.

 

رنّ جرس المؤسسة، فوضعت أغراضها في الحقيبة وقامت من مكانها، ثم توجهت نحو التلاميذ مطالبة إياهم بتسليمها ورقة الفرض المحروس لأن الوقت الزمني قد انتهى. نداء استجاب له الجميع دون كسل أو تردد، وهبّ كل تلميذ وتلميذة لتسليم ورقته وهم يبادلون أستاذتهم التحية مع عبارات الامتنان، فحجم التقدير لها كان كبيرا، وكل الأجيال التي تعاقبت على هذه الثانوية التأهيلية والتي درست مادة الاجتماعيات عند الأستاذة حياة، تعرف حجم التضحية التي تبذله هذه المربّية والمدرّسة من أجل الرفع من مدارك تلامذتها ودعمهم، فضلا عن تعاملها الأخلاقي الكبير، مما جعلها أختا كبيرا في وقت سابق وأمّا ثانية لاحقا للكثيرين.
حبّ وتقدير، لا يكنّه التلاميذ لأستاذتهم فحسب، فهي تحظى بتقدير زملائها وزميلاتها، ينضاف إلى الحب الكبير لأبنائها لها، الذين شبوا وترعرعوا ورأوا حجم الجهد والتضحيات التي تبذلها والدتهم لتربيتهم وإعالتهم، بل أنها تقوم بدور الأم والأب معا، ما دام هذا الأخير لا يهتم سوى بأموره الخاصة التي تأتي على رأس الأولويات بالنسبة له، سواء كانت أسرية أو غيرها، ولا يتوقف عن تعنيف الجميع لفظيا وجسديا في أول مناسبة وعند أبسط التفاصيل، مما جعل أطفالها غير ما مرّة يتساءلون كيف أن والدتهم ذات القلب الطيب والكبير، قد ارتبطت بشخص لا توجد عوامل مشتركة بينهما؟
سؤال ظل يتردد مرات عديدة بدون جواب، لكن في كل مرّة كانت حياة تفكر فيه حين كانت تختلي بنفسها، فهي لم تعتقد بعد مسيرة دراسية متميزة تُوّجت بشهادة جامعية، وبعد أن ولجت سلك التدريس، أن يكون هذا مآلها. تتذكر حياة ذلك بحسرة وألم، وتستحضر اللحظات السابقة لعقد قرانها بهذا الرجل الذي لم تجد في عمله ما يجعلها ترفض الزواج به، بمباركة من والديها البسيطين، بما أنها تنحدر من أسرة متواضعة. رجل كان بشوشا لا يرفع عينيه إلا لماما استحياء، كما اعتقد الجميع حينها، قبل أن تجد نفسها بمرور الأشهر ثم السنوات عرضة لممارسات سادية، ظلّت تتحملها من أجل لحمة الأسرة ووحدتها، خاصة حين أنجبت، حتى يظل الأب حاضرا ومتواجدا بين أبنائه، في علاقة بهم وبالمحيط الصغير والكبير، الذي لا ترحم ملاحظاته وكلامه يتحول إلى سهام تدمي القلب.
قرار قد يرى البعض بأنه لا يتوافق مع طبيعة المجتمع الحديث، ولا ينسجم والمستوى الثقافي والتعليمي للزوجة، لكنها كانت لها رؤيتها الخاصة، حين تزوجت في البداية بنادل مقهي، ورأت فيه آنذاك زوجا وظلا وسندا، لا دخلا ومركزا اجتماعيا، فالرجل بالنسبة لها كالفأس، كما أنه يشتغل بغضّ النظر عن طبيعة العمل، وهذا يكفي لكي تكوّن أسرة معه، يمكنها أن تكبر مع الأيام بتضامنهما، لكن مع مرور الزمن تبيّن على أنه كان مكلّفا وباهظا، ومع ذلك لم تقو على الإقدام على أية خطوة، كي لا تقوم بتشتيت الأسرة بيديها، وفقا لاقتناعها.
عادت حياة ذلك المساء إلى البيت، وشرعت في القيام ببعض الأشغال المنزلية، فعملت على تنظيف أرجائه ثم ترتيب أماكن النوم، فتصبين بعض الملابس، وبعدها أعدّت لمجة خفيفة لأطفالها، وعقب ذلك بدأت تتابعهم في إعداد واجباتهم المدرسية المختلفة وتراجع معهم بعض الحالات، وهو ما تطلّب منها وقتا طويلا، انتقلت على إثره بعد ذلك لإعداد تفاصيل الدرس الذي ستدرّسه لتلامذتها في الغد.
مهام متعددة، تكون روتينية في بعض الأحيان، ترفع من منسوب التعب الذي تحسّ به حياة، والمرأة التي تحاول التوفيق بين متطلبات البيت والعمل بشكل عام، وكان عليها في تلك الليلة إضافة تصحيح الفروض إلى كل تلك الأعمال، وهو ما تطلّب منها الانكباب على ذلك إلى غاية منتصف الليل، حين أنهكها التعب فاستسلمت للنوم. استيقظت حياة على إيقاع صراخ واحتجاج وتهشّم شيء ما، قامت مفزوعة وتوجهت نحو المطبخ، فوجدت زوجها الذي عاد من العمل يرغي ويزبد بحثا عن وجبة العشاء، فأخبرته وهي تحاول تهدئته أنها لم تتمكن من إعدادها بسبب كثرة الأشغال التي كانت مطالبة بها، خاصة وأن هناك أكلا لا يزال متوفرا من الغذاء يمكنه تناوله، وهو الجواب الذي لم يستسغه الزوج، مستنكرا أن يتناول نفس الأكل الذي تغذى به والذي تم إعداده يوم أمس.
وضعية عادية، كان من الممكن تفاديها ببساطة، لكن الزوج الذي اعتاد على المطالبة وتلبية أوامره، لم تخفت حدّة صوته ولم يهدأ، بل رفع عقيرته للسماء، مما جعل أطفاله يستيقظون مرة أخرى وهم في وضعية هلع، حتى أن أكبرهم الذي يبلغ من العمر 12 سنوات حاول تهدئته لكنه تلقى صفعة على وجهه، الأمر الذي لم تستسغه حياة فتدخلت هذه المرة وهي تصرخ معاتبة، فازداد هيجان الزوج الذي شرع في التنكيل بزوجته وهو يتلفظ بكلام ناب، أمام الأطفال القاصرين، ولم يكتف بذلك إذ جرّ والدتهم من شعرها نحو الباب ورمى بها من على الأدراج.
سقطت حياة من أعلى الدرج إلى الأرض دون أن تستطيع التحرك، وازداد صراخ الأبناء، مما جعل الجيران يغادرون بيوتهم لمعرفة ماذا يقع، فاصطدموا بالمشهد الذي كان مرعبا، مما دفع بعضهم لربط الاتصال بالإسعاف والأمن، وبالفعل بعد لحظات حضرت دورية الأمن الوطني وسيارة الوقاية المدنية، فتم إيقاف الزوج المعتدي في حين جرى نقل الضحية إلى المستشفى لتلقي العلاجات، حيث تبيّن إصابتها بكسر على مستوى جمجمة الرأس، فتم القيام بالتدخل المناسب لحالتها.
عادت حياة بعد أيام إلى بيتها، وهي تعاني من تبعات حادث التعنيف الذي تعرَّضت له، في حين كان الزوج، الذي أصبح طليقا لاحقا، يقبع في السجن بعدما تمت متابعته بالمنسوب إليه. وبعد مدّة استأنفت عملها وواصلت تدريس نساء ورجال الغد، إلى جانب التكفل بأبنائها، الذين لم يستطيعوا نسيان ما كان يحدث أمامهم ويعيشونه من لحظات تعنيف لفظي وجسدي سابقا، فضلا عن الحادث الأخير الذي كانت درجته أكبر والذي فقدت على إثره والدتهم وعيها وتم نقلها للمستشفى، وهو ما تسبب في تداعيات نفسية لطفلين من أطفالها، تطلب استفادتهما من جلسات استماع نفسية مع طبيب مختص، خلال مسيرة لم تكن بالقصيرة، ليحملا معهما بذلك إرثا من ألم…


الكاتب : وحيد مبارك

  

بتاريخ : 19/04/2022