“إن الثقافة لا تمنع أحدا من أن يكون سافلا” مقولة للفيلسوف الفرنسي لوك فيري أثبتت صحتها اليوم لأن المعرفة لا تُورّث، بالضرورة، الأخلاق.
هذا الاستحضار يُذْكيه ويزَكّيه ما تبدّى اليوم من بشاعة وقبح الوجه الحقيقي لمثقفي وفلاسفة الغرب ممن اختاروا موقف الصمت أو الاصطفاف مع نظرية “الدفاع عن النفس” الإسرائيلية ضد الآخر الفلسطيني “الإرهابي” وضد “حماس”.
لقد أبانت حرب غزة عن أزمة أخلاقية عميقة في الغرب، خاصة في شقها الفكري، ما جعل هذا الفكر في مأزق أخلاقي، ولو أن الأمر ليس جديدا البتة، إلا أن درجته تزداد حدة ، مع استثناءات قليلة، كلما تعلق الآمر بالآخر غير الأوربي، وتحديدا الآخر العربي وهي أزمة أبانت، في تجليها الأكثر واقعية، عن صعوبة الفصل بين السياسي والفكري حينما يتعلق الأمر بـ”المسألة اليهودية” والحق الفلسطيني، هذا الحق الذي التف حوله الرأي العام الغربي الذي اكتشف زيف شعارات حكوماته ومؤسساته الرسمية ، منحازا الى القيمة الكبرى: الإنسانية.
إن هذا السقوط الأخلاقي لمفكري الغرب، الذي لا يمكن قبوله واستساغته، يزداد حدة حين ينبري للدفاع عن الأطروحة الصهيونية وسرديتها، مفكرون وفلاسفة طالما نظّروا لـ”خطاب السلوك الأخلاقي” وفلسفة التعايش ، مثلما فعل أحد أهم منظري مدرسة فرانكفورت النقدية، خاصة جيلها الثالث، يورغن هابرماس الذي ظل لعقود مدافعا عن الحداثة والقيم الكونية في الفلسفة الألمانية والفكر السياسي المعاصر في أوربا، وهي الفلسفة التي انبنت على قيم التعايش والاعتراف بالآخر.
فأن يوقع هابرماس بيان “مبادئ التضامن: موقف”، بمعية كلاوس غونتر وراينر فورست ونيكول ديتلهوف، تضامنا مع” إسرائيل واليهود واليهوديات في ألمانيا”، ويعتبر أن “الوضع في غزة تسببت فيه وحشية الهجوم غير المسبوق الذي شنته حماس” ، وأن” المذبحة التي ارتكبتها حماس بهدف معلن هو تدمير الحياة اليهودية بشكل عام، هو ما دفع إسرائيل إلى الانتقام وتنفيذ الهجوم المضاد الذي يبقى مبررا من حيث المبدأ”، وأن يرى صاحب “العقل التواصلي”، الذي يبدو أن إسرائيل احتلته كما احتلت الأرض الفلسطينية، أن “تصرفات إسرائيل لا تبرر بأي حال من الأحوال، ردود الفعل المعادية للسامية وخاصة في ألمانيا “، وينبغي لهذه الردود “استحضار الجرائم الجماعية التي ارتكبت سابقا في الحقبة النازية”، واعتبار “الحياة اليهودية وحق اسرائيل في الوجود عنصرين أساسيين يستحقان حماية خاصة”، وتحديدا من “أولئك الذين يقيمون في بلادنا والذين بثوا فيها المشاعر والقناعات المعادية للسامية باعتماد شتى الذرائع”، والذين عليهم الالتزام بهذه المبادئ “التي لا يجب أن تكون محل خلاف”، أن يتذكر هابرماس كل هذا ويشدد عليه ، ويتناسى في المقابل حصار غزة لعقدين ويتجاهل السياق الذي وقعت فيه أحداث 7 أكتوبر، وواقع الاحتلال لأكثر من 75 سنة، فهذا انحياز واضح للرواية الإسرائيلية، وتجاهل لحقائق التاريخ الذي يبتدئ عنده بعد السابع من أكتوبر، وتسطير تاريخ على المقاس تكتبه نزعة مغرقة في المركزية الغربية، وتتحكم في سيرورته ومآلاته، بعيدا عن التنظيرات والأخلاقيات الفلسفية للآخر التي تنتج للاستهلاك فقط ، وتسقط أوهامها عند اجتياز اختبار السياسة ومواجهة وقائعها المادية، أي أن احترام المغايرة، نظريا، لا يتحقق دون ترجمته في الواقع الملموس.
سقطة أخطر سقط فيها هابرماس وصحبه،إذ وهو يعتبر إدانة إسرائيل على جرائمها، خطابا معاديا للسامية، فإنه يروج لخطاب عنصري تجاه المهاجرين بألمانيا ممن سماهم “أولئك الذين يقيمون في بلادنا “نازعا عنهم صفة المواطنة والحقوق المخولة لهم في إطارها وأولها حرية التعبير.
إن هذا المأزق الأخلاقي الذين وضعت حرب غزة الكثيرين أمامه، سياسيين ومثقفين، ظهر من قبل مع مفكرين وفلاسفة كبار من داخل اليسار الغربي من قبيل سارتر وسيمون دي بوفوار وليفيناس في موقفهم من القضية الفلسطينية التي ظلت مواقفهم منها إما متذبذبة أو مناصرة للصهيونية، حين ذهب ليفيناس مثلا إلى اختصار تاريخ البشرية في أصلين اثنين: التوراة والإغريق، واعتبر ما عداهما «موسيقى راقصة»، وحين رفض إدانة مجازر صبرا وشاتيلا، ولما أقصى الفلسطيني من» آخَرِهِ» واعتبره عدوا.
تتطلب ازدواجية المعايير الأخلاقية هاته، وأمام هذا السقوط الأخلاقي المدوي للفكر الغربي الذي طالما استهلكناه بغير قليل من الانبهار والقداسة، أن نعيد النظر في علاقتنا بهذا الفكر. إعادة نظر لا تقطع معه، باعتباره فكرا إنسانيا، لكنها تعمل على نقده من داخله بالنظر إلى شروط إنتاجه وسياقاته الايديولوجية والسياسية.