هلوسات عين

في ذلِكَ الصَّباح اسْتَيْقَظْتُ، وَكُلّي غِبْطَةٌ وَانْشِراح. دائِمًا كُنْتُ عَلى هذا النَّحْو، أَوْ عَلى الْأَصَحِّ أَحْرِصُ عَلى أَنْ أَكونَ كَذلِك، خاصَّةً بَعْدَ أَنْ تَجاوَزْتُ السِّتّين. هكَذا، في غالِبِ الأَحْيانِ، إِنْ لَمْ تَكُنْ في الدَّواخِلِ غُيومٌ رُكامِيَّةٌ جاثِمَةٌ-حَدَّ الْقَهْرِ – عَلى قَلْبي، بِحَيْثُ تَعْجِزُ الشَّمْسُ الصّاعِدَةُ مِنْ وَراءِ تَلَّةِ الرّوحِ عَلى تَبْديدِ كَثافَةِ قَتامَتِها. السَّبَبُ أَيْضًا هُوَ أَنَّني أَعْتَبِرُ كُلَّ يَوْمٍ جَديدٍ في حَياتي مُعْجِزَةً صَغيرةً. أَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَمْرَ كَذلِكَ لِكُلِّ الْكائِناتِ الَّتي تُقَدِّرُ الْحَياةَ وَتُحِبُّها.
وَلِأَنَّني مُذْ وَعَيْتُ، بَعْضًا مِنْ وَهْمِ هذا الْوُجودِ، كُنْتُ مَسْكونًا حَدَّ الْخُرافَةِ بِالْماوَراء، لَيْسَ في السَّماءِ، وَما بَعْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى فَحَسْبُ، بَلْ هُنا وَالْآن، وَفي كُلِّ مَكان.
وَلِأَنَّني كَذلِكَ جالَ في الْغُرْفَةِ نَظَري بَحْثًا عَنْ دالَّةٍ أَوْ إِيماءَةٍ، كَما جالَ، عَبْرَ النّافِذَةِ، بَعيدًا في الْأُفُقِ، بَحْثًا عَنْ عَلامَة. كانَتْ عَيْنُ الْباطِنِ، كَما عَيْنُ الظّاهِرِ تَوَدُّ مِنَ الرّوح الْأَعْلى أَوِ الْكُلِّيِّ إِشارَةً، كَما لَوْ أَنَّها بِشارَةٌ، لِما أَنا فيهِ مِنْ فَرَحٍ داخِلِيٍّ.
قَريبًا مِنّي – في خِزانَةِ الْكُتُبِ – كانَتِ الرّايَةُ الْمَغْرِبِيَّةُ الصَّغيرَةُ، الَّتي اشْتَرَيْتُها مِنْ بائِعٍ جَوّالٍ، ذاتَ مُناسَبَةٍ وَطَنِيَّةٍ، تُرَفْرِفُ قَليلًا. هكَذا كَما لَوْ أَنَّها تُشارِكُني حُبوري. رُبَّما كانَ في تَحَرُّكِها اسْتِجابَةُ الْماوَراءِ لِما أَنا راغِبٌ فيه مِنْ يَقين جَذْلان. هذا الْماوَراءُ الَّذي لَيْسَ سِوى هذا الْمَجْهولِ الْغامِضِ الَّذي يُجاوِرُنا، بَلْ يُساكِنُنا في الزَّمانِ وَالْمَكانِ، وَيَخْتارُ، في بَعْضِ الْأَحْيانِ، أَنْ يَبُث رَسائِلَ مُشَفَّرَةً مِنْ خِلالِ عَلاماتٍ تَسْتَدْعي نَباهَةَ فَهْمٍ وَاسْتيعاب. هذا الْغَيْبُ السِّريُّ الْكامِنُ، كَما النّافِذَةُ، وَراءَ السِّتار، أَوْ هذا الظِّلُّ الَّذي يُلازِمُنا، وَلا يَخْتَفي بِخُروجِنا مِنَ النَّهارٍ إِلى الَّليْلِ، أَوْ مِنَ الضَّوْءِ إِلى الْعَتَمَة.
كانَتْ تِلْكَ الرّايَةُ تُرَفْرِفُ، أَوْ هكَذا بَدا لي، مَعَ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّةَ ما يَدْعو إِلى تَحَرُّكِها. هَلْ هذِهِ الرّايَةُ تَفاعَلَتْ مَعَ روحي الَّتي رَفْرَفَتْ في أَعْماقي؟ هَلْ كانَ ذلِكَ بَعْضًا مِنْ فَيْضٍ كُنْتُ فيه؟ أَمْ إِنْ هِيَ إِلّا هَلْوَسَةٌ مِنْ هَلْوَساتِ الْعَيْن؟


الكاتب : محمد بوجبيري

  

بتاريخ : 24/10/2020

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *