عندما يفسح الشعر مجالا للصورة التشكيلية تدخل العملية في إطار جدلي مبني على تفاعلات تنتج فكرة ضمن مشروع إبداعي متبادل ويصبح الجنسان مستفيدين من بعضهما البعض حسب رؤية ازدواجية هدفها رسم صورة، وفكرة إجمالية متفاعلة مع معطيات الشعر والتشكيل معا. وهذا ما نقف عليه في تجربة الشاعرة والفنانة لبابة العلج، ومن هذه الزاوية يمكن معالجة ما جاء على لسانها وفرشاتها في كتابها الموسوم ب “شعر وتشكيل”، فحين تضيق العبارة في الشعر تتسع الرؤية في التشكيل والعكس صحيح.
من النادر أن نحصل عند المبدعين هذه الخاصية، أي التعبير بقبعتين، (شعر/تشكيل)، لأنها ملكة غيبية خاضعة لطبيعة ميتافيزيقية، تختمر مع مرور الزمن داخل الذات الإبداعية، فتصبح قابلة للتماهي مع الوجود، لحصول توازن مرئي وسمعي، تخوله القدرة الجانحة على ركوب أهوال الشعر والفن عامة، لتحقيق غاية دفينة لا ترى بل تلمس حسيا فيصبح من الضروري تعقب تطوراتها.
لبابة لعلج تحاور التشكيل بشاعرية كسرت جسور العتمة بين الجنسين، إذ حولت المرئي مقروءا والعكس صحيح، ثم وهبت استقلالية العمل التشكيلي واستقلالية القصيدة في منحى متواز لا يلتقي إلا في النهاية، حيث القصيدة تبوح بأسرارها واللوحة يفوح منها عبق المغزى، فتصبح العلاقة بين شعرها وتشكيلها، علاقة حوار وجوار، بل عشق متبادل لينتهي في الأخير إلى زواج كاد أن يضيع لولا الاهتمام بهذه العلاقة.
لم تكن لبابة لعلج بعيدة عن فحوى هذا الاهتمام، لما مارسته من تجارب، قبل أن يحط بها الرحال في هذا التقاطع بين القصيدة، بصوت صارخ مكتوم لا يمكن الإنصات إليه إلا عبر تجربتها الطويلة في ممارسة الكتابة، لمكاشفة هذه الكتابة عبر التشكيل، حيث تغيب في تجربتها التشكيلية القصيدة مشهديا وتصبح حاضرة في اللوحة بشكل مبطن تدعو المتلقي للمشاهدة من داخل العمل الفني.
إن القدرة على تشكيل القصيدة في غياب النص المكتوب، كانت من بين التجارب القليلة، سواء في المغرب أو خارجه كما كان عليه الحال كمثال حصري في تجربة المرحوم عبد الإلاه بوعود، في معرضه الموسوم ب “أحد عشرة كوكبا” مستلهما من ديوان للشاعر الراحل محمود درويش، حيث غياب النص الشعري وحضور الصورة المتخيلة، بعد خروج آخر أمير بني الأحمر من الأندلس.
كلما انتهت الفنانة والشاعرة لبابة لعلج من عملها في مشتلها الفني، استكانت لكتابة الشعر وكأنها تبحث عن حلقة مفقودة وسط كومة من الإبر المتناثرة مثل الذي يبحث عن النار في الثقافة الإغريقية لإدراك المعرفة والحقيقة.
لم تتوان لبابة لعلج في خوض غمار تجربتها حول الشعر والتشكيل باعتمادها على حاستها المرهفة، إذ جعلت بين هذين الجنسين حوارا وجوارا بالإنصات لكليهما بعمق بداهة إبداعية كشاعرة وتشكيلية في نفس الآن، بصمت المتكلم كما جاء في قصيدتها في (ص) 48 من ديوانها الأخير، إذ تقول “الشعر والتشكيل في حاجة كي يتحابا في الصمت/ كي يتبادلا النظر لفترة طويلة بأعين اللقاء الأول”.
وهنا تحاول الشاعرة/ الفنانة تبرير هذا التواشج بإلحاح على ضرورة التواصل بين الكلمة والصورة ليكتمل المشهد الإبداعي في حلته الشمولية.
تحت عنوان “التكامل الجمالي بين النص والرسم” يقول الفنان العراقي ضياء العزاوي ما يلي: “النص المرافق للرسم، هو محاولة لتوسيع المساحة المقروءة، هو شكل مادي لرؤية مكتوبة، هو مغادرة الكلمات لواقعها اللغوي والانتقال إلى بنية بصرية يلعب فيها اللون دوراً أساسياً هو بحث مستمر لعلاقة الكلمة بالفراغ المحيط بها تلك الملاحظة التي تتصاعد مع بناء النص، محققة تواجداً متفاعلاً لبنية شعرية أوسع”. عن المجلة الإلكترونية (الرافد).
بمعنى أن انفتاح النص على ما هو بصري، يعتبر سفرا ذهنيا لما يحتويه هذا النص من صور بلاغية ومخيالية تساعد المبدع على اجتياز أنفاق التواصل لترجمة الكلمة للصورة، بآليات تختلف في تحقيقها للهدف المنشود، وحين تتحول القصيدة من المقروء للمشاهد، تنتقل من ضفاف الكتب لأيقونات تحتويها الأسندة وتفرض وجودها اليومي على المشاهد، عوض أن تبقى قابعة في رفوف المكتبات، بمعنى آخر، فإنه يتم إحياء القصيدة ضمن امتدادات زمنية، تجعلها راسخة في ذهن المتلقي استنادا لمداومة المشاهدة، وهذا ما حصل في تجربة الفنانة والشاعرة لبابة لعلج، إيمانا منها بضرورة الانفتاح على الأجناس الأخرى كالتشكيل.
ما يميز هذه التجربة، هو التفاعل العفوي المرغوب فيه، لما يكتنف من قضايا في بعده الحسي والغيبي المرتبط بدوافن الروح المبدعة، ليحس المشاهد بعدم وجود حاجز أو ستار يحجب رؤيته المتحررة من القيود الأكاديمية، التي تثقل كاهله، لتكون هذه المشاهدة صادقة في بعدها الميتافيزيقي، لذلك كانت أعمال هذه الفنانة مباشرة كأنها ملون (Palette) في حد ذاته، بطبيعتها الجنينية.