هوامش الجثة

تمنح المسلسلات التلفزيونية والأفلام حيزا هاما للجسد الميت، بالشكل الذي يدعونا إلى التساؤل عن هذه «الجثمنة المفرطة أو التظافرية»، هل يجب أن نرى فيها تعبيرا عن الهوس التقليدي بالموتى الذين لا قبور تواريهم، الموتى الجوالين التائهين، الزومبي من كل نوع؟،ألا يمكن القول بأنه بقدر ما تتطور المجتمعات ويسود التقدم العلمي، وسيرورة العلمنة، بقدر ما يتعاظم الطلب على المعرفة الأسرارية الهرمسية، والقيامية، أي المعرفة الأخروية، التي تعوض الإيمان القديم بالتطور الذي مضى، وكأن الإنسان عمليا، فقد الثقة في التنوير الذي يتضمنه العلم في صيغته الأمبيريقية؟ مهما كان فالفلاسفة والمنشغلين بمعرفة الموت وتفكيكها، والخبراء في الثناتولوجيا، يطرحون الجسد كـ «صورة للحقيقة». هكذا يصير مستودع الأموات، المكان الروائي التخييلي بامتياز، الذي لا يمكن مداراته، حيث تنتجز الوقائع المقلقة للطقوس المرتبطة بتشريح الجثث ضمن ميكانيزمات وطقوس الطب الشرعي، يشيد الطبيب الشرعي صورة بطولية جديدة، قوية جدا عبر المعرفة التقنية للموت، لكنها في الأوان ذاته، تظل عاجزة وقابلة للتأثير أمام لغز النهايات الأخيرة الذي لا يمكن النفاذ إلى كنهه. كل جثة رسالة سرية وصامتة تعبر سريا حدود الموت، والجسد، في حد ذاته الذي خفت صخبه اللجب، يحكي تاريخ الكائن الإنساني الذي كأنه منذ قليل، لذا يهيمن الصمت على مستودعات الأموات، وعلى المقابر.
الالتباس القوي الذي يحكم مجابهتنا للجسد الميت، لجسد الميت، يتلبس صورتين أدبيتين تتضمنان معلومات غنية جدا، هناك من جهة الانبهار المنرعب بالشيء-الجثة، (هناك سرديات تخييلية عديدة حول الأشباح، الزومبي، الفامبيرات، تجسد نوعا من الصياغة النصية الناهضة على الفانتازم)، وهناك من جهة أخرى تحول النفور من الجثة إلى نوع من التعبير عن الامتنان لها.
حين تصير الجثة البشعة مجددا، صورة تأويلية أساس، مثقلة بحقيقة ما، نتلقاها دون مقاومة كانت هناك صور لأطباء منذورين بصدق لعملهم، كما حضرت (الصور) عند زولا، بلزاك، ويلز، وغيرهم، لكن هناك صور ونماذج أخرى غامضة ذات بعد شيطاني، تحضر كظلال مقلقة الغرابة، كما عند الدكتور مابوز، لفريتز لانغ، هناك الجانب المضيء والجانب المظلم the dark side .هؤلاء الأطباء المثيرون للقلق كانوا أشباه علماء، مسكونين بهوس جنائزي، لكن منذ سنوات، ويمكن هنا التفكير في Necropolis، لهربرت ليبرمان سنة1977، كأصل مقبول للظاهرة، هيمنت صورة الطبيب الشرعي، صديق الجثث المتحللة، والأسانة والذباب اللاحم. هل يجب أن نرى في هذا الانبجاس، وهذه الهيمنة مؤشرا على تحول في حساسيتنا لا مرد له؟ هل تركتنا العلمنة التي طالت مجتمعاتنا إلى هذا الحد عزلا بلا وسائل، أمام الجثة المتحللة، حتى أننا نلقي على عاتق الطبيب الشرعي، صديق الأموات، كل الهذيان والانبهار الذي كان في ما سبق، مخصصا لرجال الدين؟،(أفكر مثلا في سلسلة شاهدتها منذ سنوات عنوانها Bones، أبطالها أطباء شرعيون في مختبر). إن تفاقم أعداد المسلسلات الناجحة جماهيريا، والتي تحدث وقائعها كليا أو جزئيا في مستودع الأموات، أو في شركات الدفن والتي تعرض على القنوات والمنصات، ترسل لنا أمارات وعلامات دالة، فمؤسسات الطب الشرعي هي الإطار التخييلي الذي يجعل المرء يحلم ويرتعش من الرعب.
لنفكر اجتماعيا وأنثربولوجيا، بأننا لا نكون بحضور الموتى إلا نادرا، الموتى يوجدون بكثرة في المسلسلات والأفلام والقنوات الإخبارية التي تبث على مدار الساعة وبالمباشر أخبار الدم والموت، كما أننا نادرا ما يكون لنا تواصل معهم. الكثيرون لم يعودوا يموتون في بيوتهم بل في غرف العمليات أو العناية المركزة في مصحات خاصة بعد ما طال الجشع الميركانتيلي النيوليبيرالي قطاع الصحة والتطبيب، الطقوس الجنائزية صارت سريعة وموجزة مثل الفاست فوود، بل هناك شركات للأموات خاصة بال VIP، كما أن الرعاية الطبية المفرطة للمرضى المحتضرين تفصلهم تماما عن جماعة الأحياء، كما لو أن الأمر يتعلق بشعار: [أخفوا هذا الاحتضار الذي لا يمكن رؤيته]. هناك غواية مذهلة تمارسها الجثث، مما حول التعامل معها إلى نوع من الكرنفال المسكون بنفاق اجتماعي شبيه بمرض عضال، وبقدر ما ينشغل الأحياء بالموتى ولو مؤقتا، بقدر ما يكون الميت هو الوحيد الذي لا يعرف بأنه ميت، وسواء كان هؤلاء المتدخلين أطباء شرعيين أو منشغلين بطقوس الموت، فقد تجاوز هؤلاء منذ أمد بعيد، المرحلة العادية حيث يسود الرعب، والنفور والإحساس بالغثيان من الجثث.
لم يكن أبدا سهلا تجاوز صفة الممنوع l’interdit، التي تطال جسد الميت، للمرور إلى تشريحه. يذكرنا المؤرخ غريغوار شامايو بذلك بوضوح، وهو يشير، بصـدد عملية التجريب عــموما، إلى المبـدأ الـذي تبناه بعض الأطــباء الشرعييــن، أي..: facere experimentum in corpore vili .يمكن أن نضيف: لأن هذا النوع من الأجساد هو الممكن الحصول عليه بسهولة، لنتذكر فيلم (إيقاف العنف) للمخرج البريطاني جون جيلينغ (1957)،حيث يقوم أشخاص عنيفون وساديون، بجلب جثث حديثة الموت، لبروفسور في الطب، بدون أدنى تأنيب ضمير، هذه المسألة، أي تهريب الجثث والمتاجرة فيها، التي غالبا ما تتحول إلى استغلال اجتماعي يتم إخفاؤه بشكل سيء، حيث تستغل جثث البروليتاريا الرثة من الفقراء والمعوزين والمقصيين من دورة الإنتاج، (المتسولون، عاملات الجنس، المجانين، أو المحكومون يشكلون الحشد الضروري من الأجساد الرثة المطلوبة).
تتساوق هذه المسألة اليوم، والدعوة الدائمة للاحترام الواجب للموتى، وللحميمية الخاصة بين الطبيب الشرعي وجثت»ه»، والأخذ بعين الاعتبار للعلاقة الخاصة بين جسد الميت وذاك أو تلك الذي سيقوم بتشريحه، وتفكيك مكوناته اللحمية يذهب الطبيب الشرعي أحيانا بعيدا ،حتى أنه يتخيل نفسه مكان الميت، جاء في رواية بوليسية:[اخترقت فجأة ذهنها فكرة هذيانية مفادها، أنها ترى جسدها ممددا على طاولة التشريح، وأنها تحضر تشريح جسدها..].
انبنى وصف عملية التشريح دائما على نفس الخطاطة: الاشمئزاز من المدنس، برودة ردود أفعال الطبيب الشرعي، الشكوى من الحالة الكارثية للجثة، ضبط الحركات والعمليات، الروائح المقرفة، ثم في النهاية تقرير يبين هشاشة الشرط الإنساني، اشمئزازها من اللحم المتعفن أو من جمود الجثة وتخشبها ومن الحشرات المحيطة بها، والتي تسكنها بسرعة، صورته بوضوح الأفلام حول الزومبي، التي تستجيب فعلا لجمالية التحلل والتفسخ والبشاعة، هذه، والتي هي بالنسبة لها أسلوب في الكتابة الفيلمية، كتصوير للمستحيل وللمتعذر احتماله. فالزومبي يسيرون، يتحركون، وهم يتفككون ويتحللون أمام أعيننا، إنهم يجمعون بين شيئين أو بين رعبين، رعب ناجم عن الجسد البلا قبر الذي يتجول بين الأحياء، والذي يعرض اشتغال النتانة عليه، ثم رعب الشراسة المفترضة في الموتى تجاه أقاربهم القدامى، والتي صاروا مجرد صور مخيفة لهم. صورت هذه الأفلام منطقة الما-بين، وبينت أن الموت لا تأتي دفعة واحدة ،أظهرت اشتغال الموت le travail de la mort، فالموتى لا يموتون، وبالتالي فالكثير من الأجساد والحيوات لا تنتظر لحظة الموت لتموت. الكثير من الأعمال السينمائية الراهنة أو القديمة، تؤكد ما نذهب إليه: مثل أفلام جورج روميرو عن الزومبي، وآخرين، دون الرجوع إلى الفيلم الذي يعتبر بمثابة براديغم سنة 1968،وهو Nuit des morts-vivants،الذي بدأ به روميرو مسيرته، والذي أرعب ثلثي سكان الأرض، جثث يائسة، آكلة للحم البشر، وبدون عواطف، تمثل هذه الجثث الجانب المظلم من الروح البشرية، رنو الإنسان إلى نوع من القيامة الباردة، المحايدة والمقرفة، لكن كيف يمكن تفسير اشمئزاز المتفرج من حكايات الزومبي. يشير الزومبي إلى نوع من الحياة التي طالها التغيير، من بعد، بعد فحص وتمحيص استعادي للحياة المعيشة، ووظيفة هذا التمثل السينمائي جعل الحياة مجددا حاضرة لكن شرط القيام بتقييم راديكالي لها. هنا بالذات تنلعب، وتنتسج ماهية علاقتنا بجسد الميت، فنحن محرومون من التعالي الذي طالها سابقا، لكننا نظل مرعوبين أمام ما لا اسم له ولا لغة تقاربه، هذا هو الرهان بالذات، كيف يمكن تحويل الجثة إلى عامل لإنتاج الحقيقة؟. ينبغي القول إن السينما انبهرت بالجثة وبعرضها أيما انبهار، وذلك لتستجيب لرغبة التلصص لدى المتفرجين، وتسايرها، كما نجد في فيلم Anamorph، لصاحبه H. Miller، سنة2007، وهو تريلر(فيلم بوليسي) مرعب تبدو فيه أجساد الضحايا كما في لوحة لفرانسيس بيكون، دون الحديث عن فيلم Seven، للمخرج ديفيد فنشر، الفيلم، الغامض والمرعب. حس النيكروفيليا ليس بعيدا عن هذه الأفلام، وهو يتغيا التعبير عن المهاوي والعوالم الملتبسة التي تطال الإنسان، وعن تلك الرغبة المسكوت عنها في رؤية البشاعة والتلذذ بذلك. جيفري داهمر القاتل بالتسلسل في مدينة Milwaukee، لم يكن يكتفي بقتل ضحاياه بل يأكل لحمهم، وفي تريلر آخر يقوم المفترس الجنسي بتحنيط أجساد ضحاياه قبل اغتصابها، هذه «الحوادث»، بالمعنى الفلسفي، التي تطال البحث عن الحقيقة، سواء كانت بوليسية بسيطة أو ميتافيزيقية، تعيد الاعتبار لجسد الميت، وتدمجه في الحكي الفيلمي، كمشارك مقلق ومحرج، قد لا يعمل سوى على خلق توتر داخل الحكاية، ليظل مركز السيرورة، المتحكم الصامت و الأليم في تطورها البطيء، اللغز الذي يجب تفكيك شفرته بالتحليل الصبور والعارف.
هكذا تتكلم الجثة داخل هذه الحكايات، سواء كانت فيلمية أو روائية، بالرغم من إلحاح الكثيرين على علاقة البرودة الضرورية بين الطبيب الشرعي والجسد المطلوب تشريحه، وهي البرودة التي تستعيد الفصل الأنثروبولوجي الذي ينظم العلاقة بين عالم الموتى وعالم الأحياء، فالإنسان الذي يتم تشريحه يكون فاقدا لشخصيته وينظر إليه كمادة خام، جامدة، ينبغي تفكيك مكوناتها، تقسيمها، تحويلها إلى قطع قد تساعد في الكشف عن حقيقتها، حقيقة الجثة أعني، ويحضر بالتالي كأداة للتعلم، هكذا يترك الإحساس والشعور بعيدا، ويحافظ على مسافة الحياد معه. لا مجال هنا للعواطف السائلة والجياشة، نعثر على أصداء هذه اللاشخصنة في العديد من الروايات، وذلك ليتم سريعا دحض هذا الحياد واللاشخصنة، والتأكيد على أنه حتى الأطباء الشرعيون ذوو التجربة الطويلة، تغمرهم الأحاسيس وتستبد بهم المشاعر، إذ هناك دائما في الجثة المشرحة ما قد يذيب قوقعة البرودة والحياد تلك، ويمنح الأحاسيس فرصة للظهور.
إن الاحتفال بمن ذهبوا نحو الجانب الآخر الغامض من الحياة، the dark side of the moon،،كما يغني البينك فلويد، يسمح ببروز هذه البنية التحتية القائمة على تفكيك الأفعال الإجرامية، وعلى اشتغالها انطلاقا من أبهتها وإستطيقيتها الباردة والمحايدة. إن التحليلية العملية التي تطال الموت تنتشر وتهيمن، ويبدو أنها تشتغل وفق المنطق الهيجلي للإزالة أو الاقتطاع Aufhebung ، حيث يتعلق الأمر أولا بإزالة شيء ما، وهو هنا الشكل الإنساني، كلية الجسد، اقتطاع كينونته التامة، إلخ، وذلك لإعادة ترميمه لاحقا، تجميع أجزائه ورتقها، ليصير مسالما، بعدما أظهر حقيقته المتميزة، كشف سره، وأحيانا الطريقة التي اتبعت في قتله والقضاء عليه، أي التوقيع الخاص للقاتل. هكذا يكتسي الجسد طبيعة أخرى مغايرة لتلك التي كان عليها قبل عملية التشريح، إنه هو نفسه، لكن في حالة أحسن مما كان عليها، بعد عبور ليل المعنى، بعد التغير الذي طال نمط وجوده الأولي. هكذا نلتقي بتحليل الفيلسوف ميشيل فوكو Foucault، في كتابه:Naissance de la clinique، الصادر سنة 1963،حيث يقول:[داخل جرأة الحركة التي لا تمارس الخرق إلا لتظهر وتبين في وضح النهار، تصير الجثة أكثر اللحظات وضوحا داخل صور الحقيقة]، (الصفحة..126). إن مستودع الأموات دون شك هو الفضاء الغامض والمتناقض، لأعلى درجات التقنية أو التقانة (بكسر التاء)، ولأقصى درجات هشاشتنا، يعتبر الإنسان داخله ملكا وشحاذا في الأوان ذاته.


الكاتب : مصطفى الحسناوي

  

بتاريخ : 27/09/2024