هي مظاهر ومشاهد إما عشناها أو واكبنها كأحداث ، منها ما يدخل في إطار نوسطالجيا جمعتنا ومنها ما هو حديث مازلنا نعيشه ، في هذه السلسلة نحاول إعادة قراءة وصياغة كل ما ذكرنها من زاوية مختلفة ، غير المنظور الآني في حينه لتلك المظاهر والمشاهد والتي يطبعها في الكثير من الأحوال رد الفعل والأحكام المتسرعة ، وهي مناسبة أيضا للتذكير ببعض الجوانب من حياتنا ، وببعض الوقائع التي مرت علينا مرور الكرام بدون تمحيص قي ثناياها…
في محاربتها للعربات المجرورة بواسطة الدواب في مختلف المدن المغربية الكبرى، أعلنت السلطات والجماعات أن الحملة تدخل في إطار حذف مظاهر «البَدْوَنَة» ! كلما كان هذا المصطلح يطرق مسامعي، كنت أشعر ببعض الانزعاج، ويزداد هذا الشعور حين أرى ملامح الوجوه التي تتفوه به باستعلاء أو نكران للأصل الذي اشتُق منه – البادية، نعم، البادية – أُمُّنا جميعًا ومؤسسة حضورنا ووجودنا، وهي الأساس الذي يُخرِج هذا الحضر الذي نعيش منه زُبَد الحياة اليومية. يبدو وكأن من ينطق هذا المصطلح يحتقرها. كم هي عنيفة توصيفاتنا، وكم تبدو إدارتنا نَسَّاية…؟
كان على صُنَّاع اللغة ابتكار مفردات أكثر رحمة وتوزيعها على الإدارة، لتستخدمها وهي تتحدث عن «البَدْوَنَة»، بدلًا من أن تشير إلى السير والجولان بواسطة «الكَرْوِيلَة» و»الكَارُّو» و»الكَرُّوسَة». فبالنسبة لنا نحن المخضرمين، علاقتنا بهذه الوسائل علاقة مختلفة تمامًا.
عندما كانت مظاهر الفساد تعم المدينة في فترات معينة، وكانت أساطيل “الطُّوبِيسَات» مهترئة دون أن يحاسبها أحد، والخطوط مقتصرة على أحياء دون غيرها، وكان التاكسي لا يركبه إلا الرابحون في بورصة الاغتناء من فوضى المدينة، كانت هذه العربات هي التي تسدّ الفراغ وتوصلنا حيث نشاء، وتُبَلِّغ آلاف العاملات إلى «مانوفاكتورات» الخياطة و»التِّيكْسْتِيل»، المترامية في أحياء مبنية في الخلاء. هناك، كانت بناتنا في صراع يومي مع اللصوص وقطاع الطرق، بينما كان جزء من البورجوازية «المتعفنة» يراكم الملايير من عرقهن ومجازفاتهن مقابل 60 ريالا في الساعة. في تلك الفترة، لم تصف الإدارة تلك الطبقة المحظوظة، التي لم توفر حتى ظروف السلامة لعمالها، بأي صفة قدحية أو تصغيرية، بل تُركت لتعتلي مناصب حساسة. وهي ذات الطبقة التي أصبحت لاحقا ممسكة بقطاع التعليم الخصوصي والكلينيكات، وتبيع المساكن القريبة من القفار للسكان.
كانت «الْكَرْوِيلَةْ» بحوافر دوابها تاكسي الطبقات الفقيرة الواسعة، وكانت تربط أطراف المدينة بالناس، وتبني جسور التواصل بينهم، أما «الْكَرُّوسَةْ» المجرورة بالدابة، فكانت تجمع أزبال المدينة وتحملها إلى الخلاء البعيد عن أنوفهم، وكأنها كانت عليمة بمخاطر التلوث قبل ظهور شركات المناولة، التي عرفت كيف تحلب ميزانيات المدن، مستغلة سذاجة صاحب الدّابة مدشّن محاربة التلوث، مستعملة في الآونة الأولى، شاحنات تترك في الشوارع أطنانا من عصير الأزبال تفوق حجم ما تحمله، مخلفة «عطورا» من العفن، لا يستبعد أنه كان سببا في انتشار داء السل في أحياء عديدة…
أما منصة «الْكَارُّو» وما أدراك ما «الْكَارُّو»، فهي العربات المجرورة بواسطة البغال والخيول، والتي حملت ونقلت الناس إلى فضاءات النْزَاهَةْ خلال أيام الربيع، ونقلت البضائع والسلع، واستعان بها صاحب الأثاث واستعملها سابقا من أراد أن يرحل من هنا إلى هناك، واستعمل «الْكَارُّو» أيضا لحمل جثث الموتى إلى المقابر البعيدة قبل اكتشاف «لَابِيلَانَصْ». و «الْكَارُّو» كان وسيلة نقل الشباب إلى البحر في غياب «الطُّوبِيسْ وَفْلُوسْ الطُّوبِيسْ».
هي وسائل نقل بدوية حقيقية تُعَدُّ تراثًا غير مادي يستحق التكريم، لكنها كانت فعلا مهندسة طرق كل المدن الكبرى. فعلى هدي دوابها، اهتدى المهندسون المتحضرون والوكالة الحضرية نفسها. وعلى وقع حوافرها، رُسمت مخططات التعمير، بمعنى أصح: «عْلَى رْوَايْضْ الْكَارُّو تْبْنَاتْ لْمْدِينَةْ».
عندما تطورنا وظهرت كل هذه الوسائل الحديثة المهمة، كان على اصطلاحاتنا في نعت تلك الوسائل أن تكون أقل جفافا وأكثر امتنانا لخدمتها. ومن المؤكد أن عددا من الولاة والوزراء ورؤساء الجماعات استفادوا من ركوب تلك «البدونة»…فرأفة بها ونحن نتحدث عنها، ولنتركها تنسحب بشرف، دون أن ندوس بلا رحمة على ما قدمته من خدمات .
ما فعله «الْكَارُّو» في النّاس لن يقوى على فعله أحد، لا وزارة ولا ولاية ولا عمالة، في أوقات سابقة كان الناس يخشون حتى المرور من أمام هذه المؤسسات، وكانت حين يذكرها أحدهم في جلسة ما، يأتي الجواب سريعا من أحد الأفواه المعقبة : « ذْكَرْنَا السّْمَنْ وَالَعْسَلْ»، في تنبيه موجه إلى من جرؤ على ذكرها بأن هذه الجلسة الحميمية لن تتحمل ثقل هذه الأسماء، ولا هول ما تحيل عليه هذه البنايات في ذاكرة المغاربة من فزع وعقاب وخلعة تسكن القلوب والأجساد…
أتعجب كثيرا، وأنا الفقير في اللغة إلى ما دون الدارجة التي أعشقها لوضوحها، كيف لصنّاع التوصيف اللغوي أن يكيلوا مثل هذه النعوت والصفات كما يشاؤون ولمن يشاؤون، وكيف يكونون قساة في تصغير وتقزيم ما يريدون، في حين يستوفون ويزيدون عند الإشارة إلى أمور أخرى، فلماذا لا يجرؤون على قول مثلا «عْمِيمِيلَة»،و»وْزِيزِيرَة»، و»جْمِيمِيعَة»… وما شابه. وما دام الأمر لغويا محضا، فلماذا هذه الانتقائية؟