واش حنا هوما حنا.. 08- «الطالون»

هي مظاهر ومشاهد إما عشناها أو واكبنها كأحداث ، منها ما يدخل في إطار نوسطالجيا جمعتنا ومنها ما هو حديث مازلنا نعيشه ، في هذه السلسلة نحاول إعادة قراءة وصياغة كل ما ذكرنها من زاوية مختلفة ، غير المنظور الآني في حينه لتلك المظاهر والمشاهد والتي يطبعها في الكثير من الأحوال رد الفعل والأحكام المتسرعة ، وهي مناسبة أيضا للتذكير ببعض الجوانب من حياتنا ، وببعض الوقائع التي مرت علينا مرور الكرام بدون تمحيص قي ثناياها…

 

الطالون كان له دائما مقام خاص بيننا، فالحذاء أصلا قبل انتشاره كتسبيطة رسمية، سبقته في دروبنا وحاراتنا أحذية بلاستيكية وبلاغي وأحيانا حتى «البوط»، وفي جيلنا كان سباط النشاط، الأكثر كساء لأرجل العديد منا.
الحذاء، عند انتشاره، كان عبارة عن نوع من ترجمة التمدن، ظهوره بقوة سينمي حرفة الخرازة حيث باتت «لكياطن» الصغيرة تنتشر في الشوارع والركينات، متربصة بأي سباط تآكلت «سوميلته» أو ثقب جلده أو طار «طالونه»، فالحذاء حقيقة عانى معنا كثيرا، لأن الأرض في المدينة إذاك لم تكن كما هي عليه الآن، الأتربة في كل «قنت» ولحفاري والضايات تتراقص في كل الأنحاء، اعترافا بمعاناته أصبح مضربا للمثل، كأن يقال « حفيت سباطي باش لقيت هاد العنوان»، لقد ناب عن «الطوبيس» و»الطاكسي» في حياتنا كثيرا، لم يكن في الوهلة الأولى موضوعا رهن إشارتنا من أجل التزيين والتفاخر، ولكن «للكرينتي» والصبر في قطع المسافات، حين التصق به الطالون أضحى شيئا آخر، ففي الطالون يظهر المعنى ويظهر مقام المنتعل، قبل الخوض في أهمية «الطالون»، لابد أن نعرج على كرة القدم لنوفيه حقه، ففي الدروب والأحياء كان الشاب الذي يجيد التمريرات ب»الطالون» يضرب له ألف حساب ويدخل في خانة «لمعلمية»، لأن معلمية كرة القدم أنواع بينهم من يجيد المراوغة ومنهم من يتقن الضربات الرأسية أو يجيد القذف من بعيد ومنهم من يتفنن في البيض، أي تمرير الكرة حين المراوغة بين رجلي خصمه وما إلى ذلك، لكن من كان يسجل بالكعب يرتفع إلى مقام «الرقايقي»، وهي أعلى مرتبة في التوصيف ولا يفهمها جيدا إلا صفوة حرايفية كرة القدم. وهكذا هو «الطالون» في المتخيل الشبابي، على الأقل، في تلك الفترة، لذلك كان محط تتبع أكثر من السباط، فبسبب «الطالون» سيتشقلب معنى «سباط الكرفي» إلى «سباط النخوة»، أولا ستتطور حرفة الإسكافي ولم يعد يقتصر على «كيطون» صغير، إذ ستظهر آلات ستدفعه للبحث عن محل، ليتفنن في إصلاح السباط الذي أفسدته الطرق، ولأن السباط ارتفع من مقام إلى مقام، كان من الواجب تلميعه من الغبار وبقايا «الغيس»، ومسحه بخرقة مرقدة في الماء، كان يقتلع جلد تغليفته ويترك الأخاديد بارزة على مظهره وتصبح رجلك شبيهة وهي تمشي في طوار منمق كراعي للشقوق، لذلك فالسباط كان له الفضل الأول في ظهور «السيراج»، فانتعشت المصانع المفبركة لهذه المادة وتحركت بواخر الاستيراد والتصدير ونشطت الحركة التجارية، هذه المادة لم تكن تجدها إلا عند الاسكافي العصري، أما الإسكافي مول «الكيطون» فقد تجده يابسا في جنبات «الحك « وتلزمه «نغزة» ريق من «قرجوطة» الاسكافي كي يخلخل ما بداخل المادة لتفي بالغرض فوق سباطك، وفي المنازل كان «السيراج» يدخل في مظاهر الترف وليس مادة إلزامية، لذلك لن تجده إلا في بيوت من يعملون في إدارات رسمية، عند الكثير من الشباب كانت رائحة «السيراج» تستهويه أكثر من مشموم الأقحوان وماء الزهر، رائحته كانت تخرج الواقع عن طوعه وتسرح بالخيال إلى فضاءات النشوة والاسترخاء والسباحة في عوالم «التكركير»، من خلال التجوال في رحاب أرض وشخوص وكأنها من مجلة «كيخ كيخ» أو رسوم الترفيه الغربية الموجهة للأطفال، بذلك أصبح «السيراج» لا يصلح السباط فقط ولكنه يقضي مآرب أخرى، هكذا بدأ يتراكم في الجيوب صحبة فردة «تقشيرة»، وظهر «بزنازة» جدد في هذا العالم، لا يهمهم السباط وإنما الأنوف الآدمية التي تتفنن في الشم ولها ذوق خاص لا يشبه سائر الأذواق، من هنا انطلقت أولى «التبويقات» عند الشباب، لأن الكيف كان محتكرا من طرف الشباب والكهول والحشيش لم يظهر بعد، لذلك كان «السيراج» ثم «السيلسيون» المادتين المدخل إلى عالم «التفنفين» العقلي … هذا هو «الطالون» عند التصاقه بالحذاء أخرج لنا كل هذا وغيره، وكما أشرت آنفا لقد كان هو المعجم الذي يفسر من أنت، فإذا كان «الطالون» مستقيما ومستقبلا لفصالة السروال، فأنت أمام شخص بدأ يغرق في التمدن ويعمل في مجال يتيح له الاعتناء بمظهره وملابسه، وإذا كان «الطالون» الماثل أمامك، محتكا جنبه سواء جهة اليمين أو اليسار، فاعلم أن صاحبه شخص يطاول الحياة بغير حسام، لكنه على الأقل يكابد من أجل التطلع لحياة أرقى، وإذا ما رأيت «الطالون» محتكا من كل الجوانب حتى من جهة البطن، فاعلم أن الرجل يحاول أن يتشبث بأهداب التمدن لكنها تتملص منه، فارحمه في تلك الساعة على الأقل وانقص من ضوء عينيك الخبيثتين، فقد يكون علو كعبه ليس في طالون «ألفيس بريسلي» ولكن في تفاصيل مخه !


الكاتب : العربي رياض

  

بتاريخ : 10/03/2025