تثبت المخرجة المغربية السعيدي الكاميرا في المقبرة دون أن تغادرها طيلة 87 دقيقة، محولة فضاء يوحي عادة بالعزلة والنسيان الى مكان تكريم للذاكرة واستمرار للحياة بصيغ أخرى.
من وحي التجربة الشخصية لألم فقدان الأم، تحاول المخرجة في فيلم «من يراقبون» الالتفاف على الألم الانساني الناجم عن الغياب المادي للأحبة من خلال إعادة بناء روابط روحية بين الأحياء والموتى، حيث الوقوف على القبور يصبح موعد مناجاة وإنصات الى الأصوات السرية المنبعثة من تحت التراب وبعث مبهج للذكريات الحميمة.
تستعيد المخرجة، في تقديمها للفيلم الوثائقي المبرمج في إطار بانوراما السينما المغربية للدورة 22 للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش، تلك الوصية الموحية لوالدتها على فراش الموت بدفنها في مقبرة بالعاصمة البلجيكية بدل نقل جثمانها الى وطنها الأصلي، المغرب. كانت تخشى أن يتناساها الأبناء في متاهات الحياة وفضلت أن تظل قريبة من سكناهم كي تتواصل الصلة من خلال زيارات منتظمة.
بالفعل، رصدت السعيدي كيف أصبحت هذه المقبرة في بروكسيل، التي تتميز بأنها متعددة الديانات، مجالا للمشاطرة وتجمعا عمرانيا تتجدد فيه قيم الجوار الهادئ والتضامن الانساني والتعاون على حداد بألم أقل. يتأمل المشاهد بعين الكاميرا كيف يوحد الموت الشرط الانساني، في انتقالها بين مراسيم الدفن والزيارة لدى المسلمين واليهود والمسيحيين الأرثدوكس.
ورود منثورة هنا، صور تتصدر الشواهد هناك، آيات قرآنية على الشاهد في ركن، شموع وتماثيل في آخر… تتعدد الطقوس والشعائر في حضرة الشعور المتوحد بهشاشة الحياة، يتخلله تصميم على اغتنام فرصة من قلب الفقد لصيانة الذاكرة وتصفية النفوس من أنانيات صغيرة.
تعرف المخرجة كيف توسع أفق المكان بما يحول دون السقوط في الرتابة. من زوار المقبرة الذين ينحدرون من جنسيات وثقافات مهاجرة مختلفة الى صور الموتى أنفسهم التي تنطق بهويات متخيلة من قبل المشاهد وصولا الى زاوية نظر من يعيش في ظلال الموت يوميا: حفار القبور الذي يقيس على جسده العرض المطلوب في اللحد باعتياد روتيني، ومدير المقبرة الذي يتفقد اصطفاف القبور كمهندس معماري يتوخى انسجام المساحات.
التفكير في الموت يصبح تفكيرا في الحياة. يتوافد الأحياء يوميا على إدارة المقبرة لحجز مكان للإقامة النهائية. ينزل الموت من رهبته الميتافيزيقية الى بداهة وجودية ينبغي استيعابها والتطبيع معها.
يذكر أن كريمة السعيدي مخرجة سينمائية تستكشف في أعمالها موضوعي المنفى والذاكرة من خلال رؤية فنية تجمع بين التأمل والحميمية. تخرجت من المعهد الوطني العالي لفنون العرض وتقنيات النشر والتوزيع في بروكسل، حيث تخصصت في المونتاج، كما درست الكتابة السينمائية في جامعة بروكسيل الحرة.
وثائقي «من يراقبون» لكريمة السعيدي.. المقبرة فضاء ذاكرة وحياة
بتاريخ : 05/12/2025

