لم يأت إلى «الأركانة» ليغرب في ذلك الوهم الشعري الذي يشبه «أقحوانات ترتجف خلف الباب».. ذلك «الغبار» الذي سرعان ما يختفي «التارك فسحة نظيفة بشغور مقعده». لم يأت ليستظل في أرض غير مزروعة.. إنه يلتفت فقط، ويعيد تركيب نفسه على الورق. هو الذي رأى قبل أن يبتعد. رأى الحرب في مستقرها البعيد، وأدرك أنه أطل في وقت غير مناسب على نافذة العالم.. ولهذا أقام، منذ الولادة، في تلك الغيمة التي تشبه اليد التي تُقَلِّب، عن ظهر قلب، ملفات السعادة.
وديع سعادة، ليس شاعرا نما بيننا في واضحة النهار. ليس شاعرا ظلت يده الواثقة تُلَوِّح للمارة بالقصائد، لإلهاء خيبته. إنه شاعر أمسك، منذ ديوانه الأول، بالمفاتيح الخطأ التي عثر عليها في عمق أشواقه.. في عمق الفرح المدثر بالماء المتجمد.
وديع سعادة، جلس وقتا أطول مع الشعر. وفي آخر الممر، كتب لصديقه مهيار الدمشقي: «شكرًا يا أدونيس لاتصالك بي من باريس كي تسأل عني. كيف أقول لك أنا بخير وحتى الشعر الذي حسبناه تغييرًا لهذا العالم لم يكن سوى وهْم؟».
هل الشعر «مِلْحٌ يسقط الآن وحيدا وأزرق»؟ هل هو ذلك الفرو المثقل بالوثب في المنعرجات؟ هل هو ذلك الهيكل العظمي المحروق الذي يسند ركبتيه بيديه في برج بيت قديم؟ هل هو تلك الكنبة التي يخرُج منها خيط دُخان يرتطم بمرآة تعكس طفلا يزنُ أربعين كيلو مع ورقةُ وابتسامة؟
لقد كتب وديع سعادة أن «الشعر صرخة، وهذه الصرخة تحتاج الى أن تصل إلى أبعد الأقاصي، وأن تبقى موجودة في ديوان يحفظ صوتها ودويّها». هل هذا هو الشعر الذي يفور في جمجمة صاحب «قل للعابر أن يعود، نسي هنا ظلّه»؟ الصراخ أمام الإحساس العالي بالتشرد والتيه والمنافي؟
لقد صرخ الشاعر كثيرا، ورفع المياه إلى حدودها، لكن الأرض لم تغرق، وظل اليأس يعيد حياكة نفسه على ظهر كلمات تموت بتكرار متصل على الأفواه. ألم يقل إنه يملك فماً يشبه كشك جرائد، لكنه صامتٌ؟ فهل يكفي، إذن، أن يربط الشاعر عنقه بوردة ليصرخ على الملأ، ليحتج، ويرمي قلبه من شواهق الجبال؟
وديع سعادة هو كل ذلك؛ هو ذلك الكثير الذي يجتمع إليه، على سطح مشاعره تماما، المنظرون والعشاق والسكارى والأموات ليحيوا ذكرى الأرض القديمة. أليس هو القائل: «أعود أخيراً من مكان إلى مكانٍ لم أبارحْه. جُلْتُ وضِعتُ ومتُّ وعدتُ وأنا في مكاني. تحدَّثتُ مع الغيم وأنا أخرس. سمعتُ صهيلَ مجرَّاتٍ وأنا أطرش. رأيت موتي وأنا أعمى. وفي طريقي عرَّجتُ على منعطفات، وحاولتُ ترتيبها».
وديع سعادة الذي بخطوة أولى أغلق الباب على كل أحلامه، وتركها كالسمك الواجف في القلب. لا ملح، ولا مياه، ولا غرق إلا في التكرار والانتظار: «.. أتمشى يوميًا ذهابًا وإيابًا في أحد شوارع سيدني، ولا أفعل شيئًا آخر..»!.. فأين القصيدة/ الكأس التي ظل يشربها كلما زاه التنين في الصيف؟
يقول وديع: «الشاعر يسكن في وهم وطن يخترعه وهو ليس موجوداً ولن يوجد. لكن هذا الوطن الوهمي جميل، بل هو الجميل الأوحد. ولاستحالة وجوده، يخلق الشعراء وَهْمَهم ويسكنون فيه».
هل يجب أن يكون هناك طريق آخر إلى الشعر؟ القصائد ليست أقفاصا، والشعر، بمعنى ما، يوجد في قلب كل إنسان يريد للشمس أن تُثلج، وللآلام أن تبرد وأن تخرج بوجه مكشوف إلى الشوارع، وبيد تلوح بمنديل أبيض..
وديع سعادة «خيالُ ذاهبٍ وخيال عائدٍ وخيالُ مقيم»، يعيد الكراسي إلى الكواكب، ويجلس على حجر في حديقة غامضة. دائما كان يحاول «رصفَ أحجار على غيم»، ويراود الفأس التي يتركها الحطابون جاثمة على خاصرة الشجرة.
وديع سعادة فاز بالأركانة هو الذي كان «همه أن يصطاد بفكه السفلى هرة الألوهة».. هو دم الشعر النقي، الشفاف، الذي يجعلك ترى عظام المعنى.. نهار القصيدة الطيب والواضح والمختصر، الذي يترجل من قميصه النظيف على عجل، ليجعلك تسترق السمع إلى العشب. ألم يقل: اِخفض رأسك قليلا إن أردت أن ترى الأرض!».
وديع سعادة.. وقت أطول مع الشعر

الكاتب : سعيد منتسب
بتاريخ : 08/02/2019