وزير الثقافة الفلسطينية السابق والروائي عاطف أبو سيف لـ «للملحق الثقافي»:

الحرب الحقيقية اليوم تخاض ضد الرواية
والسردية الفلسطينية والذاكرة
التعاطف الغربي يتم اليوم مع الضحية وليس مع القضية
ما يتم هدمه وتدميره اليوم من تراث في غزة
هو جزء من ذاكرة العالم

من «ظلال الذاكرة» تنثال الحياة «حياة معلقة» بين النكبة والنكسة، ومثل « كرة الثلج « يذوب الوقت والزمن في حياة الفلسطيني فيما يظل مصرا من داخل المأساة على البحث عن «وقت مستقطع للنجاة» قبل أن يعبر الجسر خفيفا بقارب يعاند الموج. وحده الفلسطيني من خبِر كيف يهرب من الموت إلى الموت باحثا عن خلاص. حرب على المكان والزمن والأجساد وهي تعبر «ممرات هشة» نحو الحياة في رحلة مؤقتة، يولد فيها الفلسطيني في الحرب، يعيش ويموت فيها حيث تحدث الحياة صدفة في غزة وفي كل التراب الفلسطيني، وحيث تغدو الكتابة دليل نجاة ودليل حياة، دليلا قادرا على أن يكون نقيضا لكل ما يجري.
عن يوميات الحرب على غزة، والتي لقيت متابعة عالمية وترجمت لـ11 لغة والتي كتبها أبو سيف طيلة ثلاثة أشهر حين وجدته حرب 7 أكتوبر 2023 في زيارة لعائلته هناك للمشاركة في إحياء يوم التراث بخان يونس، عن الترحال والحياة المؤقتة، عن محو الذاكرة والتراث، عن الكتابة من داخل المحرقة، عن انتظار الموت بهدوء، كان لنا هذا الحوار مع وزير الثقافة الفلسطيني في السلطة الفلسطينية السابق عاطف أبو سيف ، الوزير والروائي الذي وصلت روايتاه»حياة معلقة» للقائمة القصيرة للبوكر و»الحاجة كريستينا» للقائمة الطويلة وذلك خلال زيارته للمعرض الدولي للكتاب في دورته 29 بالرباط.
ويعتبر وزير الثّقافة عاطف أبو سيف كاتبا روائيا وإعلاميا وسياسيا بارزا وناطقا باسم حركة فتح وهو حاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية والاجتماعية من جامعة فلورنسا في إيطاليا، وهو أستاذ أكاديمي ورئيس التحرير لمجلة «سياسات» الصادرة عن معهد السياسات العامة برام الله.

 

p الحديث عن الكتابة في زمن الحرب يدفعنا إلى التساؤل: أي سردية يمكنها أن تستوعب ما حدث ويحدث من إبادة شعب وهوية؟

n الكتابة تبدو دائما عاجزة عن التعبير بشكل حقيقي عما يجري، وربما الكتابة بحد ذاتها «خيانة» لما يجري .فلاشيء يمكنه أن يعبر عن المأساة كما تحدث وتعاش. كل مقارباتنا للاقتراب من تخوم البشاعة ومن مجاورة قسوة ما يجري لن تفي ما يقع، حقه. ومع ذلك تبقى الكتابة أكثر قدرة على نقل حياة الناس، بمعنى أنه حين نكتب عما يجري، فنحن نقرر أن ما يحدث شيء يمكن مجاراته وهذا ليس صحيحا، لكن في نفس الوقت قد لا يظل أثر للمكان وللآخرين إلا هذه الكلمات والتي تصف وتتحدث عما جرى.
لا يتعلق الأمر بأدب حرب ولا صراع آلهة بالمعنى الإغريقي، ولا بأدب مقاومة. الأدب الفلسطيني في مجمله أدب مقاومة حتى تفاصيل الحياة اليومية هي مقاومة لأن العدو يريد أساسا محو أي أثر لنا، والكتابة عن حياتنا هي مقاومة ضد سياسات المحو والهدم والردم والطمس، كما أنها خلال الإبادة نوع من النجاة.

p وأنتم تتحدثون عن النجاة، رصدتم في كتابكم الأخير «وقت مستقطع للنجاة» يوميات العدوان الذي انطلق في 7 أكتوبر 2023 وقد عايشت ما حدث يوما بيوم، بما يجعله وثيقة تاريخية وثقافية واجتماعية. هل تترك الحرب حقا وقتا للنجاة ولو بالكتابة؟

n كنت أكتب لأنجو لأنني، لحظتها، كنت أريد دليلا ماديا على أنني مازلت حيا. كنت كمن يقف على رأس الهضبة ليرى نفسه في الوادي. كنت أبتعد من خلال الكتابة لأكتب عن نفسي، ثم أقرأ ما كتبته لأكتشف أنني ما زلت حيا ومازلت أتنفس، وأنني قابلت أمس صديقا وجالست أختي ولاعبت طفلة في المخيم. الكتابة كانت دليل نجاة ولم تكن مجرد وصف لما يجري فقط لأنها في المجمل تنزع باتجاه الحديث عما يجري. لم أكن أقصد في مرحلة معينة أن أسجل وأدون يومياتي خلال حرب 7 أكتوبر . كنت أكتب لأقاوم الموت الذي يلاحقني كل دقيقة.كنت فقط أقاوم الموت الذي يريد أن يسرق حياتي وحياة من حولي، وبالتالي فالكتابة بالنسبة لي لم تكن طوق نجاة بل فعل نجاة ، فعلا قادرا على أن يكون نقيضا لكل ما يجري.فعندما أقرأ عن نفسي، فلكي أتأكد بأنني حي.
أما بخصوص أن الكتابة وقت مستقطع للنجاة، فإن كل ما نعيشه كفلسطينيين هو وقت مستقطع للنجاة. نحن نعيش في فم الموت، يطبق علينا ثم نقاوم، فيرتخي ثم نقاوم فيطبق أكثر ، ولأن السياق الطبيعي في فلسطين هو أننا نعيش في حرب مستمرة، الموت فيها يلاحقك في كل الزوايا، وهذا ليس من باب المجاز. فخلال الحرب كنت أشتم رائحة الموت وأشعر في لحظات معينة بمخالبه تنغرس في ظهري. وحين أصبت في ساقي في القصف ، أحسست أن الموت أمسك بي لكنني أفلت صدفةً.
نحن لا نموت في غزة صدفة، لكننا نحيا صدفة. نحن نولد في الحرب ونموت في الحرب واللحظات القليلة التي نعيشها، رغم طولها حيث أحيانا قد تصل الى 70 سنة، فهي تظل وقتا مستقطعا لا تشعر فيه بالاستقرار، وهذا ما يجعل عملية الكتابة عملية مناهضة للموت، هي التي وجدت للخلود وتخليد حكايات الناس.
في لحظة معينة أصبحت الكتابة بالنسبة لي مهمة وعبئا، وكثيرة هي اللحظات التي قررت فيها التوقف عن الكتابة لأن الأمر كان مؤلما ومرهقا نفسيا بالنسبة لي لكنني أحسست بنوع من المسؤولية تجاه الآخرين، خاصة أن هذه اليوميات كانت مقروءة في كل العالم، حيث تمت ترجمتها الى 11 لغة.
الكتابة عملية معقدة ومتشابكة، بدءا من الحديث عن مفارقة حدوث الحرب والرغبة في التدوين، ثم الشعور بالواجب بعد ذلك الإصرار على النجاة من خلال الكتابة ومن ثم الإحساس بالمسؤولية. وهذا بشكل أو بآخر ربما يعكس طبيعة الحياة في غزة خلال الحرب. بعد انتقالي من بيتي في شارع الصفطاوي بجباليا إلى بيت العائلة قبل قصفه، عبرت وادي غزة إلى جنوب باتجاه خان يونس مع النازحين ثم أخيرا انتقلت للعيش في خيمة.
هذه الذبذبات في الحياة تنعكس لا شك على الذبذبات الكتابية، وهذا ما يجعل عملية الكتابة غير مستقرة وإلا فستصبح تسجيلا سطحيا.

p في روايتكم «ممرات هشة « إرهاص ربما بالممرات الهشة إلى الحياة اليوم بهشاشتها ولا يقينية أشيائها، حيث يصبح الموت وسيلة للنجاة من الحياة. كيف يكتب عاطف أبو سيف الحياة من داخل الموت؟

n في روايتي «حياة معلقة» ولد نعيم في الحرب ومات أيضا في الحرب. وكما قلت سابقا نحن نولد في الحرب ونعيش ونموت فيها. وحين نعيش، فهذا لا يعني أننا نجونا بل نحن في انتظار موت مؤجل فقط، أي أننا نراوغ الموت. بالنسبة لي منذ ولدت في مخيم للاجئين لعائلة هُجِّرت من مدينة يافا هو مخيم جباليا. ولم أفهم منذ يومها كيف تكون الحياة مؤقتة دائما؟ وكيف تبني بيتا في حياة منذورة للموت والدمار؟
هذا الشعور بالحياة المؤقتة ينتج نوعا من الهشاشة التي تجعل الخطو في الطريق مجازفة. أكثر ما كان يؤرقني في صغري، أنني لم أكن أستطيع التخطيط للمستقبل . الغد دائما كان في حكم المؤجل المجهول. وهذه الهشاشة هي في الأساس هشاشة الحياة وهي ما يدفعنا باتجاه الشك واللايقين والسؤال والبحث عن الأفضل. فنحن نخدع أنفسنا عندما نظن أننا نسير في طريق صلب ثابت،وأظن أن التجربة الإنسانية قائمة على هشاشة من نوع مختلف.
«الممرات الهشة» هي ممرات إجبارية تدفعنا باتجاهات متناقضة: أحيانا للتأمل، وثانيا نحو خوف وثالثا قد تدفعنا إلى البحث عن الخلاص والرغبة في الموت. عايشت لحظات كنت أريد فيها أن ينتهي كل شيء حينما تصبح الحياة عذابا، لكننا في خضم الهروب من الموت نذهب إليه وفي خضم الذهاب إليه، نحن نهرب منه. وأظن أنني خبرت الكثير من هذه المشاعر في كتابي الأخير «وقت مستقطع للنجاة». كنت أفكر بالموت لينتهي كل شيء، لكنني اكتشفت أنني احفر عميقا في الحياة وعندما كنت أفكر في الهروب من الموت، لم أكن افعل شيئا سوى أن أذهب إليه.

p بعيدا عن الأثر الإبداعي، وباعتبار تحملكم مسؤولية وزارة الثقافة وقت اندلاع الحرب، فإنه إلى جانب الحرب على الأرواح والمكان والزمن، تم تدمير قصف وتدمير العديد من المؤسسات الثقافية والمآثر بغزة من أجل طمس الهوية ومحو الذاكرة. كيف تقف الهيئات الدولية الموكول لها صيانة هذا التراث دون رد فعل يذكر؟

n للأسف، المجتمع الدولي والمؤسسات الوصية على حماية التراث (اليونسكو، الهلال الأحمر) مقصرة في التحرك بهدف الحفاظ على التراث المادي للفلسطينيين. وما لا تستوعبه هذه المؤسسات هو أن ما يتم هدمه وتدميره اليوم من مآثر بغزة هو جزء من ذاكرة العالم أولا. فحين تقوم إسرائيل بقصف أقدم كنيسة في العالم «كنيسة القديس بيرفيريوس»، وحين تهدم مسجد هاشم المدفون فيه جد الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، فهي تعتدي على ذاكرة العالم وكل هذا أمام صمت العالم والجهات المفروض فيها حماية هذا التراث. ففي متحف الثوب برفح مثلا بعد هدمه ، توجد تحت الركام 350 قطعة قديمة، أصغر قطعة فيها عمرها ضعف عمر دولة الاحتلال، وهو تراث مسجل ضمن التراث العالمي باليونسكو. في هذا الإطار سبق أن بعثت رسالة إلى مديرة اليونيسكو لم أطالب فيها بحماية تراثنا كفلسطينيين، بل بحماية ذاكرة العالم لأن إسرائيل منذ بداية مشروعها الاستيطاني في نهاية القرن 19، كانت تشن حربا على الهوية الوطنية الفلسطينية لأنها تعي أن الهوية هي ما يمنح للمكان شكله ويربط الفرد بمكانه،وهي ما يخلق الحكايات عن هذا المكان وعن هؤلاء الأفراد، وبالتالي فان إسرائيل تشن حربا شرسة على السردية والهوية الفلسطينية من أجل:
– محو المكان الفلسطيني
– سرقة ما يمكن سرقته ونسبه إليها
قطع الصلة بين الأثر والإنسان الفلسطيني
فما لا يمكن سرقته تهدمه، وإذا ما تعذر ذلك تلجأ إلى نفي الصلة بين المواطن وتاريخه، وكل ذلك من أجل عبرنة وتهويد التراث الفلسطيني.
الغرباء دائما يسرقون ما ليس لهم، لأنهم لا يشبهون البلاد ويبحثون عما يشبع إحساسهم بالانتماء.
وهنا يظهر أن حرب الرواية حرب هدامة من أجل محو الهوية الفلسطينية، الحرب الحقيقية اليوم تخاض ضد الرواية والسردية الفلسطينية والذاكرة ومن هنا يأتي استهداف الآثار. واستهداف 207 مبان تاريخية في غزة تشمل القلاع والبيوت التراثية والأسواق والحمامات والمساجد، كل هذا يعيدنا إلى المربع الأول: استهداف المكان الفلسطيني.

p يعيش الفلسطيني ترحاله وجدانيا وهوياتيا وحتى إبداعيا في المنافي. كيف يمكن للكتابة أن تفي لقضيتها وهي على مسافة من تربتها الأصلية؟

n حياة الفلسطيني في مجملها ترحال وانتقال، كما أن فكرة المكان عند الفلسطيني مرتبطة بالنوستالجيا والحنين وبالذاكرة.فالفلسطينيون من أكثر الشعوب التي يكبر أطفالها على حكايات الذاكرة. نحن نورث أبناءنا حكاياتنا عن «أيام البلاد» التي تعني للفلسطيني ما قبل النكبة وكأنه بعد النكبة، لم تعد هناك بلاد. الارتباط بالمكان وبالحكاية عن المكان أمر معقد وهلامي شيئا ما.
كل حكايات الفلسطيني هي عن أماكنه، وهنا دور الكتابة داخل هذا الصراع.فإذا كان الصراع من أجل الحفاظ على هذه الذاكرة ودور التوثيق في ذلك، فإن الكتابة أيضا لها دور هام. وكلما كتبنا أكثر، كلما دعمنا السردية الفلسطينية ووفرنا مراجع لدعم القضية في وقت تشن إسرائيل حربا شرسة أيضا على المحتوى الرقمي الفلسطيني من طرف مؤسسات إسرائيلية تتلاعب بالبيانات عن فلسطين لتزور الهوية والتاريخ، وقد اشتغلت شخصيا من موقعي الوزاري على إنشاء قسم خاص لتتبع هذه الاختراقات داخل وسائل التواصل الاجتماعي وعلى المنصات المعرفية(ويكيبيديا مثلا).

p بعد عدوان 7 أكتوبر استعادت القضية الفلسطينية مركزيتها ضمن القضايا الإنسانية العادلة، عربيا ودوليا، بعد أن كادت تنزوي إلى الظل بفعل الانشغالات المحلية والقطرية والدولية. كيف تقرأون هذا الزخم الذي اكتسبته القضية اليوم حتى داخل معاقل الصهيوينة في الغرب؟

n الإنسان الحقيقي ينحاز للإنسانية، وهذا الوعي هو تراكم داخل أوروبا، وعي بالقضية خصوصا في أوساط النخبة الأوربية وقد انطلق منذ الستينات وهو ما أسماه خالد الحسن، لحظتها، بديبلوماسية المواجهة، أي الصراع داخل الوعي. صحيح أن هناك هيمنة للرواية الصهيونية في الوعي الغربي، لكن اليوم هناك تنام في تداول المعلومة، كما أن وسائل التواصل الاجتماعي اليوم تساهم في تفكيك ودحض هذه الرواية، فلم تعد إسرائيل ذلك المجرم المختبئ بل تكشفت للجميع صورة ذلك المجرم الذي يشاهد العالم جرائمه بكل وضوح. إن الوقاحة التي تقابل بها إسرائيل الرأي العام العالمي هي ما أفرز هذا الزخم الكبير من التعاطف، وهو ما جعل كل ردات الفعل العنيفة بالجامعات الأمريكية ومع ذلك لا يجب أن نغفل عن قضية مهمة وهي أن التعاطف يتم اليوم مع الضحية وليس مع القضية ، ومن الضروري هنا أن يتم تحويل هذا التضامن نحو القضية. فهم غاضبون فقط من بشاعة ممارسات إسرائيل لكنهم ليسوا مع حقوقنا الوطنية ومع إعادة تصويب مسار التاريخ من خلال تصويب مسار النكبة، لذا فإننا نلاحظ أن مجمل المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في أوربا وأمريكا تطالب بوقف عمليات الإبادة والتقتيل فقط، مع أهمية هذا المطلب وهو خطوة أساسية ويحملنا مسؤولية كبيرة خاصة على عاتق جاليتنا بأوربا لتذكير الناس بأن ما يحدث في غزة يحدث في حيفا. المهم والأساسي في هذا الانتقال هو أن تفكير الناس استوعب أن ما يحدث في غزة يحدث في كامل التراب الفلسطيني وليس حادثا معزولا، كما أنه ذكّر العالم بأن أساس القضية ليس 7 أكتوبر 2023 بل النكبة أي منذ 1948. لهذا من الضروري تحويل هذا التعاطف إلى تعاطف مع القضية.
اليوم، أيضا، ومع هذا الزخم التضامني، لم نعد بحاجة إلى صور قديمة لنستدل على النكبة فما توفره السوشل ميديا عزز ويعزز روايتنا بكثير من المعلومات والأخبار والبيانات، ويحفزنا على المزيد من التصدي والمقاومة من أجل استرجاع المكان والإنسان.


الكاتب : أجرت الحوار: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 17/05/2024