وصم، معاناة وبحث عن الدواء وأشياء أخرى … الوجه الآخر للأسر المصابة بالكوفيد ومتحوراته

إذا كان شوط التعرف على الإصابة بفيروس كوفيد 19 أو أحد متحوراته أمرا لا يكون هيّنا وتعتريه العديد من الصعوبات على مستوى التشخيص، ووقعه قد يكون صعبا إن لم نقل صادما بالنسبة لبعض المرضى ومحيطهم الأسري، فإن ما مرحلة بعد التأكد من الإصابة والدخول الفعلي في المرض تعتبر هي الأخرى جد صعبة بل وقاسية، ولا يعلم الكثير من الناس تفاصيلها وأشكال الألم المادي والمعنوي الذي يعيشه المرضى، وهو ما نبشت «الاتحاد الاشتراكي» في بعض ملامحه، خلال تواجدها ببعض مستشفيات المملكة خلال الأيام الأخيرة، من خلال شهادات لمرضى  كشفوا من خلالها للجريدة الوجه الآخر للمعاناة مع كوفيد وتبعاته.
الإصابة بالعدوى اليوم، ليست هي الإصابة بها في الأمس، فالوضع مختلف، والمريض بفيروس كوفيد ما قبل الحجر الصحي وما قبل 2021 ليس هو مريض اليوم، والفوارق كثيرة وكبيرة وصارخة، فإذا كان المصاب بالداء في موجته الأولى قد وجد سريرا للاستشفاء، وكان بإمكانه الولوج إلى مصلحة العناية المركزة والإنعاش دون قيود، وحظي بالمتابعة الطبية وبالعناية الكاملة، ولم يعش معاناة مع الأكل، وتوفر له الدواء بأكمله بعد تشخيص سلس لا تعتريه صعوبات، ثم غادر المستشفى وسط أجواء احتفالية، فإن الشخص الذي طالته العدوى اليوم وجد نفسه محروما من كل ما استفاد منه سابقوه، وفُرض عليه أن يدفع ضريبة قاسية للمرض، سواء أساهم في إصابته بفعل تراخيه، أم طاله الداء في غفلة منه، رغم التدابير الوقائية التي كان حريصا على تطبيقها.

حجر بدون شروط

لم تستوعب الطبيبة وهي تسلم سناء وصفة طبية كي تقتني من الصيدلية الدواء الخاص بعلاج كوفيد 19، سرّ الضحكة التي قابلتها بها وهي تطلّع على ما كُتب فيها، فهذه السيدة التي علمت قبل لحظات بأنها مصابة بالفيروس وكانت أقرب إلى الانهيار، عادت للضحك في مشهد جعل الطبيبة تستغرب، ولا تجد تفسيرا لذلك السلوك.
ردّ فعل دفعنا إلى الاقتراب من سناء، التي أخذنا نتجاذب معها أطراف الحديث بعد أن عرّفناها بأنفسنا، وتمنينا لها الشفاء، وهي الكلمات التي تلقتها بصدر رحب وابتسامة لا تخفي الألم الذي تحسّ به، ووجّهت لنا بدورها سؤالا عن الدافع لتواجدنا في مكان يعتبر خطرا علينا، فكان أن أجبنا بأنها ضريبة مهنة المتاعب وبأننا هنا لننقل بعض التفاصيل التي تقع، والتي تغيب عن إدراك الكثيرين، وهو ما يفسر الأرقام الصاروخية للإصابات اليومية التي بات يتم الإعلان عنها كل مساء من طرف وزارة الصحة.
جواب جعل هذه المريضة تدعو لنا بالحفظ من الداء، ثم شرعت تكشف لنا سر ضحكتها التي لم تكن إلا عنوانا على ألم بتفاصيل متعددة، قائلة «مطلوب مني في الوصفة الطبية البقاء في البيت والانعزال عن المحيط»، مضيفة» أنا بالفعل أعيش لوحدي بعيدا عن مسقط رأسي وعن أسرتي التي تتواجد في مدينة أخرى، ولا أصدقاء لي»، والسؤال الذي أطرحه على نفسي «من سيرعاني ويهتم بي؟ فإلى جانب ألم المرض، الذي تتعدد أعراضه ما بين الحمى والصداع الرهيب في الرأس والآلام المختلفة في سائر الجسم، يجب أن أعدّ الأكل لابنتي الصغيرة ولوالدتي المريضة أصلا والمقعدة، ولن يكون بمقدوري أن أطلب هذا من الجيران الذين إذا ما علموا بمرضي فسأصبح منبوذة، كما أنني أشتغل كخادمة للبيوت، ولا أتوفر على عمل قار، وتعلمون جيدا صعوبة الحياة وقساوتها، وأبسط مثال، أنني تسلمت وصفة بدون دواء، وعليّ أن أقتنيه من الصيدلية»؟
كلام خرج ثقيلا من فم سناء، وبكل تأكيد لا يمكن لكل محرّر وصفة طبية أن يستحضر كل هذه المعاناة التي تتجاوز المرض، فالمريض الواقف أمامه ليس مجرد شخص أصيب بفيروس إبان جائحة وبائية، وليس الجميع لهم نفس شروط العيش، فإذا كان البعض سيجد من يرعاه فإن آخرين لن يجدوه، وسيعانون صحيا واقتصاديا واجتماعيا ونفسيا.

 دواء بلا طبيب

وضع سناء لم يختلف كثيرا عن حالة رشيد، الذي أصيب بالفيروس وأصيبت زوجته التي تعاني من مرض الربو إلى جانب والدته المسنة والتي تعاني أصلا من مرض القلب، فهو الآخر وجد نفسه في قلب معاناة لم يكن يتوقعها. مستجد مرضي لم يكن في الحسبان أصاب هذه الأسرة في ظرف أسبوع بالتمام والكمال، رغم عزل رشيد لنفسه، الذي أكد بأن المرحاض المشترك هو بدون شكّ الذي جعل العدوى  تنتقل للجميع، ووقع ما كان يخشاه؟
شدّد رشيد في تصريحه لـ «الاتحاد الاشتراكي»، على أن بوادر المرض ظهرت عليه هو الأول، وتوزعت ما بين حمى وصداع في الرأس ثم فقدان لحاسة الشم، مما جعله يتوجه إلى مختبر خاص، بناء على نصيحة الطبيب، وبالفعل جاءت نتيجة الاختبار إيجابية، فعاد عند طبيب الأسرة الذي عرض عليه نفسه صباح نفس اليوم، مخبرا إياه بالخبر غير السار، وطلب منه وصفة طبية لكي يقتني الدواء ويشرع في العلاج، لكن الطبيب الذي كان يتحدث مع المريض من خلال مساعدته وبتباعد كبير، رفض ذلك، وأخبره بأنه عليه أن يتوجه إلى المستشفى العمومي، الأمر الذي لم يتقبله رشيد، مؤكدا على أن أطباء بالقطاع الخاص فحصوا العديد من المواطنين الذين تأكدت إصابتهم لاحقا وسلموهم وصفات طبية، مشددا على أنه لا يريد أن يتردد على فضاءات مزدحمة وأن ينقل العدوى إلى الغير، لكن  طلبه لم تتم تلبيته من الطبيب الذي أصرّ على موقفه، فما كان من المريض إلا أن توجه إلى الصيدلية التي يقتني منها الدواء على الدوام، واقتنى البروتوكول الخاص بعلاج كوفيد، بعيدا عن الطبيب وعن وصفته التي لم يتم تحريرها.
أكد رشيد لـ «الاتحاد الاشتراكي»، أنه بعد إصابته تأكدت إصابة والدته وزوجته، وكان تعبهما أكبر من تعبه، لأن التلقيح خفّف عليه نوعا ما وقع المرض، خلافا لوالدته التي رفضت تلقيح نفسها ولزوجته التي بالكاد استفادت من الجرعة الأولى في اليوم الثاني من إحساسه بأعراض المرض. وأبرز المتحدث أنه وجد نفسه يقوم بأعمال البيت ويطبخ باعتماد قفازين اثنين وكمامتين، خوفا على إصابة طفله وطفلته بالعدوى، مشددا على أن أيام المرض كانت قاسية، ما بين الخوف على مصير والدته ومآل زوجته، والإنهاك الذي عاشه وهو يتكفل بأسرته المريضة.

وصم وازدراء

ارتفاع أعداد المصابين بفيروس كوفيد 19 خلال فترة عيد الأضحى، جعل كل منزل يعيش قصة أو قصصا متعددة، قد تختلف تفاصيلها من منزل لآخر، لكنها كانت كلها بطعم الألم، ومنها قصة خالد وسعاد، زوجان أصيبا بالفيروس بشكل متفاوت، الزوج اكتشف مرضه يوم الاثنين على بعد يومين من العيد والزوجة يوم الخميس.
جلس خالد، وهو صديق لنا، يسرد علينا قصته عبر الهاتف بعد أن علمنا بمرضه، مؤكدا على أن احترام الحجر المنزلي هو أمر جد مستبعد، وبأن ليس كل من يتجول في الشارع يرغب في نقل المرض لغيره ولكن الظروف قد تكون فرضت عليه التواجد فيه. شرح خالد كيف وجد نفسه مطالبا بالبحث عن الدواء الذي تضمنته الوصفة الطبية في عدد من الصيدليات متنقلا عبر سيارته الخاصة من صيدلية إلى أخرى، ولم يجد ضالته إلا بصعوبة شديدة بعد أن طاف بست صيدليات.
اعتقد خالد أن الحجر بعيدا عن أسرته الصغيرة سيحمي زوجته وأطفاله، لكن رفيقة دربه، بدأت تئن بفعل ارتفاع درجات حرارة الجسم والصداع يتحكم في رأسها، وهي التي كانت قد أشرفت على عملية الذبح وما تلتها من أشغال ثم تقسيم أجزاء الخروف، بسبب مرض الزوج، معتقدة أنها تلك الآلام كانت نتيجة للتعب، لكن الزوج اضطر إلى اصطحاب زوجته نحو المختبر لإجراء اختبار الكشف، وبالموازاة مع ذلك رافقها إلى مصحة لكي تخضع لفحص بجهاز السكانير، فالفيروس المتحور أكثر ضراوة وانتشارا، وقد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، خاصة وأن الزوجة لم تتلقح بعد حينها.
جاءت نتيجة الاختبار إيجابية، ومرة أخرى طاف الزوج بين الصيدليات لاقتناء الدواء لزوجته، وهو الأمر الذي لم يكن سهلا، وفقا لتأكيده، وأشار إلى نقطة اعتبرها أساسية، «في الصيدلية الأولى اقتنيت الدواء، وعندما هممت بتسليم الصيدلانية النقود، طلبت منها أن تعقّمها وأن تعقّم يديها، فارتبكت يداها ورمقتني بنظرة وكأنني الطاعون واقف على قدميه، قائلة ( فيك كوفيد )»؟ فأجبتها «أنا نصحتك ولك كامل الصلاحية تعقمي أو لا تعقمي»، وبالفعل «وضعت النقود جانبا وعقّمتها بمحلول معقم وسلمتني كيس الدواء بطرفي أصابعها».
شدّد خالد على أن الصيدلانية كان من الممكن أن تتعامل بشكل عادٍ مع عشرات المرضى المصابين في اليوم الواحد دون أن يفصحوا عن ذلك أو يطلب منها أي واحد تعقيم يدها، لكن ردّ فعلها حين نبّهها والنظرة الذي رمقته بها، جعلته يتألم، مشددا على أن نفس رد الفعل لقيه وهو يقتني لاحقا الدواء لطفلته الصغيرة التي شعرت هي الأخرى بالحمى وبصداع في الرأس بعد استشارة مع طبيبها بصيدلية أخرى، ووحدها مستخدمة التي كان جوابها عبارة عن متمنيات بالشفاء. مشهد تكرر مرة أخرى عند اقتناء الفواكه وماء وغيرها، فالفترة كانت فترة عيد، ولم تكن هناك إمكانية للطبخ، فكان الملاذ نحو الماء والفواكه للاستعانة بها مع الدواء إلى حين، وكان الجواب هذه المرة ابتسامة كلها سخرية واستخفاف!

أجهزة للتنفس

إذا كان عدد من المرضى لم يجدوا من يطبخ لهم طعاما ويطعمهم، ولم يجدوا من يقتني الدواء ويسلمه لهم، وكان لزاما عليهم قضاء أغراضهم بأيديهم، مع الحرص على محاولة عدم إيذاء الغير ونقل العدوى إليهم ما أمكن، علما بأنه ليس هذا ما يوصى به فالتوصيات تكون في كثير من الحالات بعيدة عن الواقع وإكراهاته، فإن أسرا أخرى عاشت معاناة من شكل آخر، كما هو الحال بالنسبة لأسرة سعيد، الذي عاش التعاسة بعد أن أصيب بالفيروس، خاصة وأنه كان يرفض تلقيح نفسه رغم أنه متقدم في السن، بناء على نصائح ابنه الشاب، الذي أصيب بالداء ونقل العدوى إلى والده، فوجد نفسه بسبب ذلك طريح فراش بمصلحة إنعاش وعناية مركزة بأحد المستشفيات العمومية بالعاصمة الاقتصادية.
وضعية طارئة ألمّت بالأسرة قبل عيد الأضحى، ووجدت الزوجة نفسها تجري ذات اليمين وذات الشمال، وتطرق الأبواب بحثا عمن يسعف زوجها، وبعد أن تم بالفعل الاحتفاظ به في مصلحة للإنعاش والعناية المركزة، بدأت فصول معاناة من وجه آخر، فقد طُلب منها إجراء اختبارات دم لفائدة زوجها خارج المستشفى، وبعدها قيل لها أن تقتني قناعا للأوكسجين، ثم دواء تبلغ قيمته 9 آلاف درهم، وهي مصاريف جاءت صادمة ولم تكن متوقعة.
تدبرت الزوجة الأمر بصعوبة ولسان حالها يقول أنقذوا زوجي وليكن ما يكن لاحقا، واعتقدت بعد أن جلبت ما طلب منها بأن رحلة المصاريف هاته ستنتهي خاصة وأن الأخبار الواردة من داخل المستشفى كانت مطمئنة، إلا أن طُلب منها قبل أيام بضرورة إخراج الزوج إلى المنزل، بدعوى استقرار وضعيته الصحية، لكن مع ضرورة كراء جهاز للأوكسجين وربطه به، لأنه لم يعد ممكنا الاحتفاظ به في مصلحة الإنعاش والعناية المركزة التي ارتفع الطلب عليها من طرف مرضى يوجدون في وضعيات جد صعبة وهم بين الحياة والموت.
طلب، جعل الزوجة تبدأ رحلة أخرى بحثا عن الشركة المختصة والجهاز المطلوب، مع توفير المصاريف المتعلقة بالكراء وبالاستعانة بسيارة إسعاف متخصصة لنقل الزوج من المستشفى إلى المنزل، وبالفعل غادر المريض المصلحة نحو البيت، وهناك يعيش فصلا آخر من فصول حياته مع زوجته، بتفاصيل يجهلها الكثير من المواطنين والمواطنات غير المصابين أو المتراخين والمستهترين، ونفس الأمر بالنسبة للعديد من المسؤولين، الذين لا علم لهم بها، لأن أحدا منهم لم يعش ما عاشته أسرة سعيد، ولا خالد وزوجته سعاد، ولا رشيد وأسرته، ولا سناء ووالدتها وصغيرتها، والكثير من الأسر الذين اختلفت معاناتهم مع كوفيد 19، وعاشوا أوجها أخرى للمرض، لم تفصح عنها القصاصات الخبرية، لم تكشفها الوصلات الإشهارية الرسمية وبلاغات وزارة الصحة وغيرها، لأن حروفها وكلماتها، ومضمونها بشكل عام، يبقى جافا وبعيدا عما يحسه ويعيشه الكثير من المواطنين اليوم في مواجهة الجائحة الوبائية.

أطفال في زمن الجائحة

إذا كان الكبار قد مرضوا مرضا عضويا بعد إصابتهم بفيروس كوفيد 19 خلال الأيام الأخيرة وعانوا من تبعاته المختلفة، فإن العديد من الأطفال وجدوا أنفسهم يعانون نفسيا ويعيشون وسط دوامة من الرعب، فالمرض الذي طالما تتبعوا أخباره على شاشة التلفاز، ورأوا المصابين به وهم في وضعية تنفس اصطناعي في مصالح الإنعاش والعناية المركزة، والذي قتل الكثير من الأشخاص في مختلف البلدان، والذي كان موضوع تنبيهات من الآباء والأمهات حول سبل الوقاية منهم، دخل إلى منازلهم دون استئذان، وأصاب أعز ما لديهم، والديهم والجدة أو الجدة، وجعل الجميع ينعزل عنهم، وأصبح أقرب أقاربهم بعيدين عنهم وإن كانوا بقربهم داخل نفس السكن.
وضعية ليست بالهينة على الصغار، الذين منهم من تحمّل المسؤولية وأصبح يعد الأكل ويكنس وينظف، ويتتبع الوضع الصحي للأبوين، وارتفاع الحرارة من عدمها، وينصت لسعالهما بمنتهى الألم وغيرها من التفاصيل، التي تجعل هؤلاء الأطفال في حاجة إلى من يتابعهم نفسيا، ومن يستمع إليهم ويتكلم معهم ويخفف عنهم. براعم وزهرات، عوض أن ينطلقوا في عطلة الصيف ويلعبوا ويمرحوا، وجدوا أنفسهم سجناء أزمة صحية فرضت نفسها عليهم، دون أن يحظوا بالاهتمام من طرف السلطات الصحية التي تتوفر على معلومات المرضى، وبعيدا عن رادار الجمعيات المختصة، التي قد تقدم أرقاما وقراءات في لحظات زمنية، لكنها في مثل هذه المواقف يغيب أثرها على من هم في حاجة إليها؟


الكاتب : وحيد مبارك

  

بتاريخ : 02/08/2021