تندرج هذه المساهمة المتواضعة ضمن خانة التاريخ الراهن للمغرب، وضمنها نحاول أن نجيب عن أسئلة ظلت عالقة في هذا الصنف الجديد من التاريخ سيما وأن المدارس التاريخية؛ وبخاصة المدرسة الفرنسية، خطت خطوات كبيرة في هذا المجال عندما نادى مؤرخوها بإعطاء الأولوية لتاريخ المهمشين ضمن ما أسماه جاك لوغوفJaque Le Goofالتاريخ الجديد ؛ وفي هذا السياق تم اختيارنا لموضوع اليهود والمخزن خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر بغية تسليط الضوء عن موضوع العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين الأغلبية المسلمة والأقلية اليهودية..
صدر سنة 2013 كتاب اليهود المغاربة وحديث الذاكرة في نسخته الانجليزية (Memories of Absence How Muslims Remember Jews in Morocco)) عن منشورات جامعة ستانفورد بكاليفورنيا لصاحبه الباحث عمر بوم، وقد تمت ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية سنة 2016 على يد الباحث خالد بن الصغير استاذ التاريخ المعاصر بكلية الآداب والعلوم الانسانية محمد الخامس بالرباط، وعلى إثره نال جائزة المغرب للكتاب صنف الترجمة سنة 2016. ويقع الكتاب المترجم في حوالي 343 صفحة من الحجم المتوسط يضم بين دفتيه، بالاضافة الى توطئة ومقدمة، ستة فصول واستنتاج وخاتمة سماها «حوار الاديان»وفهارس للموضوعات والملاحق. تعتبر الترجمة العربية لهذا الكتاب إضافة نوعية للمكتبة العربية والمغربية بالخصوص سيما وأن المقاربة التي اعتمدها صاحب الكتاب هي مقاربة انتثربولوجية-اثنوغرافية صرفة اعتمدها عمر بوم للاحاطة الشمولية بخصوصيات يهود المغرب. وللاشارة فإن عمر بوم من مواليد منطقة طاطا تحصل على شهادة الدكتوراه تخصص انثربولوجيا اجتماعية وثقافية من جامعة أريزونا سنة 2006، وتدرج في سلك التدريس من أستاذ مساعد في العلاقات الدولية والدراسات الاسلامية في جامعة بورتلاند ستايت بولاية أوريكون، وفي سنة 2014 التحق لاداء نفس المهام وتدريس الدراسات الشرق أوسطية وشمال إفريقيا، والدراسات الدينية، والدراسات العبرية بجامعة أريزونا. وتتمركز جل أبحاثه حول موضوع الأقليات الدينية والعرقية في شمال إفريقيا والعالم العربي، والاسلام واليهودية والمسيحية والبهائية؛ كما نشرت له عدة أعمال حول تاريخ المغرب والشرق الأوسط .وقد حاول صاحب الكتاب أن يجيب عن عدة أسئلة ظلت عالقة من قبيل؛ العامل المسؤول عن ترسيخ تاريخ اليهود في الذاكرة المغربية، وهل يعزى ذلك إلى علاقات مشتركة بين المغاربة اليهود وجيرانهم المسلمين،أم أن الأحداث الراهنة المتولدة عن الصراع العربي الإسرائيلي هي المسؤولة عن تشكل المواقف والإيديولوجيات بشأن اليهود وعلاقتهم بالمسلمين؟
إن الكتاب الذي بين أيدينا عبارة عن فصول حررت معضمها على طاولات مقهى لوسي (luce) في مدينة توسون (Tucson) بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو ثمرة بحث استغرق من صاحبه عقد من الزمن متسلحا بأدوات المنهج الاثنوغرافي والتاريخي الرصين والمعرفة الأنثربولوجية، وقد جال لأجل هذا الغرض وحسب مايستلزم من بحث ميداني كل من انجلترا وفرنسا والمغرب. وبالاضافة إلى الوثائق؛ فإن أصالة هذا الكتاب تتمثل في كون صاحبه التقط من أفواه الرجال بعض القصص التي كانت متداولة إلى حد قريب حول العلاقات بين المسلمين وجيرانهم اليهود؛ وبخاصة أسرة النوحي ومدللا صعابه، على المستوى الإثنوغرافي، السيدين المولود والحسين، كما أن الأصل في هذا الكتاب تلك المحاضرات التي ألقاها عمر بوم في رحاب مدرجات الجامعات.
استهل الباحث كتابه بتوطئة سماها « أرييل شارون» في الصحراء للتعبير على كون ساكنة «أقا» تستحضر اسم شارون كمرادف لليهود؛ ولربما هذا راجع بالأساس الى الانطباع السيء الذي أعطاه شارون لنفسه باعتباره «مجرم حرب» ولعل توطئة عمر بوم لكتابه بهذا العنوان له أكثر من دلالة باعتبار أن الذاكرة الشعبية وحتى في المناطق النائية ماتزال تستحضر المكون اليهودي. وقبل أن يخوض عمر بوم في تفاصيل الكتاب مهد له بمقدمة نعتبرها مدخلا نظريا للبحث في تاريخ اليهود من خلال ضبط العلاقات القانونية التي تجمع المخزن باليهود من خلال ميثاق الذمة، أو تجمعهم مع شيوخ القبائل التي لاتنالها الأحكام السلطانية حيث يتولوا حمايتهم مقابل قدر مالي يسمى الجزية يمكن اليهود المغاربة من تأمين أرواحهم، وممتلكاتهم ونظرا لتهميشهم من طرف المسلمين، واكتفائهم بممارسة أنشطة معيشية كالعطارة والخرازة … فإن حاخاماتهم وحزناتهم الميسورين كانوا يشرفون على الحياة الثقافية والدينية لأخوانهم في الدين؛ غير أن معطيات تاريخية بدأت منذ الصدع الذي تعرض له جهاز المخزن المغربي سنة 1860 على إثر انهزامه في حرب تطوان أمام القوات العسكرية الإسبانية جعل العديد من اليهود يندمجون في عالم جديد بعيدا عن المغرب هو الرابطة اليهودية العالمية (AIU) هذه الأخيرة قامت بتشيد عدة مدارس بالمدن الساحلية وفيما بعد بالحواضر الداخلية، وعلى امتدا قرن من الزمن ونظرا لاعتماد المغرب سياسة التعريب فقد هاجر اليهود إما لإسرائيل أو دول اوربا الغربية والقارتين الامريكيتين تاريكين بذلك تاريخ عريق مشترك بينهم وبين المغاربة المسلمين، ويقول بوم على أن ماتبقى من اليهود اليوم في المغرب لايتجاوز 3000 شخص معظمهم مستقر باحاضرتي الرباط والدار البيضاء.
يقر صاحب الكتاب أن موضوع العلاقات بين اليهود وجيرانهم المسلمين ظل بكرا وحكرا على أقلام أجنبية، أما الانثربولوجيون المسلمون فقد اكتفوا بمقاربة الموضوع في منطقة الشرق الأوسط وهم قلة قلية إذ أن بعظهم إضطر غير باغ على عدم اقحام نفسه في مثل هذه المواضيع التي تشكل طابوها في الدول الاسلامية؛ تجعل أصحابها ينعثون بأقدح النعوث مثل: اليهودي أو المطبع المؤيد للصهيونية؛ وفي معرض حديثه عن هذه النقطة تطرق عمر بوم لأصول منشأه وخصوصياته الجغرافية وكذا الوسط الذي تربى فيه، والهرمية الاجتماعية التي كان ينتمي إليها وهي فئة الحراطين غير المالكة والتي تعمل بشكل يمكنها من سد رمق عيشها لدى الأشراف.