يدفنون غرباء بلا مراسيم دفن ولا طقوس رثاء

الاستاذة حكيمة لعلا: كيف يعيش المغاربة حدادهم دون عزاء في زمن كورونا؟

الاستاذة حكيمة لعلا

مآسي كورونا متعددة وقاسية، ولكن أقساها هو الموت في هذا الزمن الموبوء، هو أن لا نستطيع وداع وتشييع جثامين موتانا بحضورنا وبطقوسنا وباحتمائنا ببعضنا ، أن يدفن المصابون بكورونا مجهولون بلا طقوس دفن، و يشيع غير المصابين فرادى كالغرباء.
حكيمة لعلا ، الاستاذة والباحثة في علم الاجتماع بجامعة الحسن الثاني بالمحمدية، تجيب من خلال مقاربة اجتماعية عن سؤال العبور من طقس الحياة إلى طقس الموت، دون القيام بكل الممارسات الثقافية والدينية والاجتماعية الخاصة بالموت؟

 

o في زمن الجائحة ، اصبحنا ندفن موتانا غرباء، ونعيش حدادنا منفردين، كيف يعيش المغاربة اليوم عجزهم عن ممارسة طقوس العزاء لموتاهم؟
n سؤال يطرح نفسه بحدة، وتتولد عنه اسئلة كثيرة، كيف يعيش المجتمع المغربي مواجهته للفقدان في زمن كورونا، أو الموت بسبب فيروس كورونا؟ كيف يدبر المغاربة حدادهم؟ كيف يدبرون عزاءهم؟ كيف يتم العبور من طقس الحياة إلى طقس الموت ومن طقس الموت إلى طقس الحياة بدون القيام بكل الممارسات الثقافية والدينية والاجتماعية الخاصة بالموت؟ إن كنا نتحدث عن التغيير الذي من الممكن حدوثه أثناء وبعد كورونا، فأول تغيير قد يمس البنية الاجتماعية والدينية والثقافية قد يكون هو تدبير الموت.
إن المجتمع المغربي يقف عاجزا أمام عدم قدرته على تدبير الفقدان الفيزيقي والمعنوي، إن هذا العجز يتجلى من جهة في عجزه على الاحتماء من المرض أو الموت بفيروس الكورونا ومن جهة آخري في استحالة ممارسته لطقوس الموت، إذ هو خاضع لاضطرارية قهرية تفرض عليه حالة تباعد مع الآخر وان كانت حالة موت تعنيه أو تعني احد أفراد عائلته أو شخص قريب منه. إن هذا الأمر صعب جدا، لأن المجتمع المغربي ليس من عاداته خلق مسافة جسدية مع الآخر في مراسيم الموت أو حتى في الزمن العادي. فالتواصل الجسدي له تعابير ومعاني لا يستطيع التعبير عليها بالكلام، انه نوع من الانصهار في الآخر للشعور بالفرح أو بالفقدان.
للمجتمع المغربي ثقافته الضاربة في القدم ،فخطاطاته الشعائرية جد مقننة اجتماعيا والانضباط إليها شبه مقدس. البنيات الاجتماعية تخلق من كل حدث سعيد أو حزين فرصة لتثمين الروابط الاجتماعية أو لاختبارها، إنها مرحلة حاسمة لوضع الفكر في محك قدرته الاجتماعية وانضباطه للضمير الجمعي. فالموت في المجتمع المغربي ليس فقط رحيل شخص عن عائلته بل هو تجمع للأهل والأحباب والأصحاب والجيران، هو خبر تتوقف عنده الحياة الشخصية والعملية لكل المعنيين بالأمر، إن كانوا من الحلقة الضيقة للمفقود أو من الحلقة البعيدة، فتقديم العزاء يتقدم كل الواجبات وكل المهام. يسافر المغاربة ألاف الكيلومترات للعزاء، ومن لم يستطع ذاك اليوم يقدم التعازي ويؤكد الحضور لاحقا، إن العزاء في المجتمع المغربي يوطد العلاقات عند القيام به وينهي العلاقات في عدمه. كثير من العلاقات تتفكك في غياب القيام بواجب العزاء، ويظل اللوم قائما مدى الحياة إن لم يتم طلب الاعتذار والسماح.
المغاربة يعتبرون عدم حضور احد الأشخاص لمواساتهم في تلك الفاجعة استهزاء بالمفقود وبهم وعدم احترام الميت وتبخيس الفقدان. الموت في المجتمع المغربي ليس فقط تجمع شبيه بكل التجمعات، بل هو طقوس ضاربة في القدم، طقوس ومراسيم لا يحاد عنها ولا يجدد فيها وان تجدد الشكل فالمضمون قائم، وأي إخلال بهاته الطقوس تعرض المعنيين للانتقادات لاذعة. فمراسيم الموت في بلادنا لاتخضع حتما للبعد أو الطقس الديني وان كانت الركائز الدينية قائمة فيه، فقد ظلت قائمة ورافضة للتعاليم السلفية التي غزت المغرب وغيرت من ملامحه الكثير، بل إن أغلبية المغاربة رفضوا الطقوس السلفية التأبينية و الأنكى من ذلك إن الذين حاولوا الانضباط للمراسيم الدخيلة جوبهوا بالرفض من الأغلبية الساحقة من المغاربة، وهناك من أكد المراسيم الدخيلة في قوله وتخلى عنها في فعله أثناء الفقدان، إما تحت ضغط المجتمع أو لأنه لم يجد فيها معنى أو تطابقا مع ما تسكنه من أحاسيس أو من آليات التعبير عن مصابه أو انه أحس بأن تلك المراسيم غريبة عن سيكولوجيته، فهو لايتفاعل معها، لاتبعث فيه الإحساس بالطمأنينة أو الدفء الروحي.

 

o بماذا نفسر هذا الارتباط القوي لدينا بطقوس الموت، والحرص على تنظيمها وحضورها؟
n إن المراسيم الطقوسية للموت تعني إخبار الحاضر والغائب بقسوة الغياب، إن التفاعل مع الموت يخضع لمجموعة من الشعائر والرموز، فهي تعبير عن الموروث الاجتماعي للانفلات من فناء الموت. إن آليات التعبير الاجتماعي عن الموت إن كانت فعلا أو قولا فهي طقوس مكتسبة عبر تمرير ثقافي خلال التنشئة الاجتماعية ، هي لاتهم فقط المظهر الخارجي،هي لها دور المرمم للنفس، فمراسيم الموت بشعائرها هي تنفيس عن الذات المسلوبة في الغياب، هي تصرفات نعلن بها الاجتثاث الذي نعيشه في تلك اللحظة. إن الموت في المغرب هو طقس جماعي، فبمجرد الإعلان عن الموت بالبكاء، الذي هو دعوة للحضور إلى دار الميت ، حتى تصبح مستقبلة للجميع، تبنى خيمة كبيرة أمام بيت الميت لاستقبال المعزين ولكن كذلك كرمز للفقدان،فيصبح ذلك المكان عند كل المارة محل خشوع وتذكر . يتم الإخبار أيضا بالهاتف أو بوسائل التواصل الاجتماعي ، لقد أصبح الفايس بوك أكثر حضورا في عملية تبليغ حدث الموت، وما يكاد الخبر يعرف حتى يحل في منزل الميت جمع كبير من الزائرين للعزاء أو للمواساة. يظل الرجال خارجا في انتظار الذهاب للدفن ومن بعد ذلك يعودون عند آهل الميت لتناول وجبة طعام يحضرها الجيران أو الأقارب، أو تهيأ في منزل المتوفى. تعتبر هاته الوجبة صدقة على الميت ولهم أجر في تناولها ليرحلوا قابلين دعوة أهل المتوفى للعودة للمشاركة في طقس النعي في المساء. أما النساء فيمكثن مع عائلة الفقيد لمساعدتها أو تقوم عوضها بالقيام أو السهر على العشاء الكبير الذي يقدم «كعشاء الميت» أي كعشاء لنعي الميت والترحم عليه. خلال هذا الطقس يرتفع صوت أهل «الامداح» الانشاد الديني وقراءة القرآن.
غياب هاته المراسيم بغياب المفقود من بيته وأسرته تخلق ضياعا وخوفا من الضياع في هاته الفترة، يقول الكثير من المغاربة « الله يحفظنا من الموت الغريب، « يقولون «مسكين مات بوحدو»مفرد» وحيدا، لم يسمع أحد مناجاته، لم يقم احد بالنطق بالشهادة له، لم ير أحبته. بل هناك يقين في المعتقد المغربي الشعبي أن روح من هو على فراش الموت تظل عالقة تنتظر أحب الناس لرؤيته قبل مفارقتها الحياة. إن المغاربة اجمعهم يتمنون الوفاة في بيوتهم، بين أسرهم. إن من العادات في المجتمع المغربي أن يبوح من هو مقبل على الموت بما يرغب فيه بعد الرحيل، مثل مكان الدفن، كيف يجب أن يتم عشاءه (مأدبة الطعام التي تقدم ليلة الدفن) قد يطلب الشخص كذلك عندما يشتد عليه المرض رؤية بعض الأشخاص للتسامح معهم، أو إنهاء الخلاف القائم معهم.
إن زمن الموت لايكتمل إلا عند إنهاء كل الطقوس، هناك جملة تعلن خاتمة الطقس ترددها عائلة الميت بعد مراسيم الدفن ومراسيم النعي يقولون «كلشي كمل بخير (كل شيء تم بخير)، الله يرحمو ويوسع عليه، ربي سهل عليه في كل شيء. هذه الجملة تعني أن الله حباه حتى بعد موته. إلا أن منزل الميت تظل مليئة بالأقارب على الأقل لمدة أسبوع. في خلال هذا الأسبوع يتم ألحكي على أجواء وطقوس زمن الموت، بل يتم التفاخر حتى بعدد الحاضرين في ليلة النعي، هذا يعني انه كان محبوبا، بعد ذلك يحكي الناس عن كرم الميت وكيف أكرموه وشرفوه. إن مراسيم الموت وطقوسها تظل خالدة في الذاكرة الاجتماعية للأهل والأقارب.
من اسباب الحزن القاتل المخيم في فترة الجائحة كوفيد 19 هو غياب هذه الطقوس، طقوس الموت والرثاء، يجتاح فيروس كورونا المغرب ويزداد عدد موتاه بدون إعلان مراسيم الحداد، فمنازل العزاء فارغة ويبقى النواح قائما مجلجلا يعلن الفقدان، إلا أن هذا الفقدان له وقع خاص، فقدان بمراسيم غريبة على المجتمع، فالجثمان في المتعارف عليه اجتماعيا يخضع لطقوس تنظيف من طرف رجل دين أو قريب يختاره الأهل إن كان رجلا وان كان امرأة فيجب أن تكون لها سمات اجتماعية تخول لها ذلك شرط إن تختارها العائلة. ممارسة هذا الطقس تستوجب اقتناء الحنوط ،مجموعة من الأعشاب ذات رائحة طيبة ولوازم أخرى. الآن في هذه الجائحة أصبح الجثمان يخضع لعملية تنظيف طفيفة خوفا من انتشار الفيروس ليضع في الكفن ومن بعد في كيس بلاستيكي ثم يوضع في الصندوق. ليس لأهله الحق في وداعه الوداع الأخير وتحدد السلطة عدد الأقارب الدين سيحضرون الدفن.

 

o كيف يدبر المغاربة حدادهم خارج هذه الطقوس في زمن الحجر وكيف سيعيشونها بعده؟
n الموت في غياب كل هاته الطقوس، هو إعلان لغياب الجماعة، هو اعلان للخوف من الصمت عن الموت. تظل وسائل التواصل الاجتماعي هي الوسيلة الاكثر انتشارا لإعلان الفقدان. إن عدم القيام بهذا العرض الطقوسي هو في حد ذاته موت اجتماعي للمتعارف عليه كطقس عبور للجهة الأخرى. كيف يمكن للمغاربة تدبير الموت خارج طقسهم الاجتماعي، قد يلزم وقت طويل لاستيعاب ما يقع حاليا، ربما قد ينتظر البعض نهاية جائحة كورونا لإعلان الحداد، من المؤكد أن الكثيرين سيبحثون عن مراسيم الدفن في الدين بين المباح والممنوع للطمأنينة على سلامة عقيدة الميت. إن إعلان الموت بدون جثمان وبدون تلك الطقوس الكثيفة والمكثفة والتي تعتبر جسر مرور للحداد حتما ستكون كبيرة الوقع على من أصابهم الأمر. إن الموت بعيدا عن الأسرة، بدون وداع المفقود وتقبيله، بدون قول آخر الكلمات للهالك، هو شيء جديد عند أغلبية المغاربة، فغياب الجثة في منزل الأهل، غياب حضور مراسيم الدفن، غياب طقس ذهاب النساء لزيارة القبر في اليوم الثالث حاملات الخبز والثمر والشريحة (فاكهة التين المجفف) كصدقة على الميت تجعل الفقدان مبتورا. فغياب الفعل الطقسي هي غياب جزء من الحداد. إن اكتمال الطقوس هو إثبات حالة الموت والاستعداد لدخول حالة الحداد. كيف إذن يمكن أن نعيش هذا الفقدان «ودار العزاء فارغة، مهجورة» كما قالها احد الأشخاص في فيديو وهو ينعي احد أقاربه مكملا نواحه «واينكم أيها الأحباب هذه دار العزاء فارغة».
تبقى حاليا إصابة كل شخص بالفيروس إنذار بالفناء يواكبه النواح والبكاء، ويبقى الإعلان على طريق وسائل التواصل الاجتماعي برحيل شخص هو المتنفس الوحيد لممارسة طقس الحداد وتلقي التعازي. إلا أن هذا يبقى خارج البرمجة الاجتماعية والعقائدية للإنسان المغربي، فغياب الطقس يعني له الفراغ في صيرورة الموت والحياة. فكيف سيدبر المجتمع المغربي «الموت» بعد كورونا وأي طقوس ستظهر؟ يبقى السؤال مفتوحا للبحت عن جواب يولد من المعاناة، من رحم واقع فيروس الكورونا.

 


الكاتب : حاورتها : فاطمة الطويل

  

بتاريخ : 29/04/2020