يد محمد حميدي التي قالت كل شيء

 

يد الحداثة.. يد محمد حميدي (1941-2025).. يد ممدودة و»يد/حداثة معطوبة».. يد القضية.. يد الإنسانية..
في هذا الملصق (الذي خطه حميدي منذ ما يفوق 50 سنة ضمن عدد أنفاس في نسختها الفرنسية)، لا نرى يدا فحسب، بقدر ما نرى صرخة تتخذ شكل جسد يصعد من الأعماق. اليد الممدودة نحو العتمة إنها أبلغ من إشارة، إنها نداء مبحوح خرج من الماء (الملون بلون الغرق)، يطلب نَفسا واحدا من الضوء.
خطوطها ههنا الأفقية ليست زخرفا، إذ هي الندوب المتتالية على جلد الأرض، تروي حكاية الغرق البطيء لوطن يُمحى بخطّ بعد آخر.
اليد هنا تصرخ بلا فم، تُلوّح بلا جسد، وتُقاوم الصمت بامتدادها الوحيد نحو الأعلى، كمن يرفض أن يُدفن في البحر، كمن يُمسك بالسماء كي لا يسقط في النسيان.
هي يد فلســطين، يدٌ فقدت الجسد لكنّها احتفظت بالذاكرة، ذاكرة الحياة، واليد أيضا خزان ذكريات، ملمس الأرض والأشواك، والقابضة على الأمل. تمتدّ من العدم لتؤكّد أنّ الوجود لا يحتاج إلى أكثر من إصبع واحد يشير إلى الحقّ، «الجسد هو الحق» واليد امتداد عضوي للجسد، آخر ما يتنفس في الغريق.
اليد وحدها تُكمل فعل الحياة، تكتب، تُمسك، تلوّح، تُقاتل. وما يثير الدهشة أنّ محمد حميدي نفسه، الذي كان يرسم بيدٍ واحدة، جعل من هذا العجز ولادةً لرمز أكبر من الجسد (لنعد التأمل في غوايات تصاويره الصباغية)؛ جعل من اليد «المعطوبة» علامةَ اكتمال روحيّ، وتنديد في وجه كل عطب حداثي وإنساني، وأيضا من «النقصان» شكلا جديدا للقوّة، لا يحار بالمحارب إلا بيد واحدة !.
إنّها اليد التي تُبدع رغم الفقد، وتقول: الفنّ لا يحتاج إلى كمال جسدي، لأن الروح حين تصعد إلى الإصبع تصير كلّها يدا.
تبدو الخطوط التي تغمر اليد كموج ساكن يُحاول ابتلاعها، غير أنّها تخرج منه، لا لتستغيث، وإنما لتُعلّمنا أنّ النجاة فعلُ تحدٍّ، وأنّ الغرق لا يقتل من يتشبّث بالسماء.
هذه اليد المرسومة بالظلّ والضوء هي في آنٍ واحد، يد الغريق ويد المُنقذ، يد الفرد ويد الجماعة، يد الفنان ويد الوطن. وفي ذلك اللقاء الرمزي بين الغرق والارتفاع، بين الضعف والإصرار، يرسم حميدي نشيدا بصريا يقول دون أن يتكلم: إنّ فلسـ*ـطين لا تزال ترفع يدها، لتشهَد أنها لم تغرق بعد.


الكاتب : عز الدين بوركة

  

بتاريخ : 27/11/2025