أمام شراسة الموت حين يأخذ منا عزيزاً في الاستعارة/ الخيال، تتحوّل الذاكرة إلى سِفْرٍ قد نقرأه بعنفوان الألم أو بوهج النداءات القادمة من قصيّ الفلوات
(1)
الموتُ في جوهره حياة أخرى يخوضها جسدُ الإنسان وروحه بعيداً عن جلبة العالَم، قريباً من متاهات اللانهائي، حيث التخوم والحدود والفواصل والأحياز تمّحي ويفتح بابُ الصمت الأبديّ، حينها يخرج الخيالُ مجرّداً من أوهام المجازات والاستعارات التي يتم بها تأثيث البياض ومن تمّ الوجود، واللغة مفعمة بحياة جديدة، حياة الترحال في مفاوز الغموض والزمن السائل، في ظلّ هذه الحياة البعيدة عنّا اللحظة والقريبة حين نلج عوالمها ونكتشف معالمها بالحدس لا بالحسّ، نقف لنفتح نوافذ على الذين غادروا وجودنا وارتكنوا إلى عزلاتهم الضاجّة بالأرواح والأساطير الأولى للمجهول، علّنا نقبض على بعضنا من هؤلاء سفراء الأحياء في عالم الأموات، خصوصاً المنتسبين إلى عائلة الخيال واللغة وقد تركوا أثراً ما نستضيء به هذه العتمات المحيطة بالكائن والكون.
العتماتُ التي تؤرق الألباب وتأسر الأفئدة وتحفّز على التّرحال في مهاويها السحيقة، تكون اللغة الجسر الذي به نعبر إلى الضفة الأخرى من الذاكرة، لنقول الذات والعالم بصيغة المجاز ونطرق أبواب المتون والمظان نستقصي الجليل والبهي من الكلام سواء كان كتابةً/ رسماً أو نشيداً معزوفاً على نايات الشجى والنّوى في زمن معاصرٍ غدا أضيق من خرم إبرة. بل نستطيع التأكيد على أن خرم الإبرة أوسع من رحابة الأنقاض والهاوية.
الهاوية الكتابُ المفتوح على الكارثة والأهوال، على أنفاق ممتدة في غلس المحطات وكبوة العربات أمام سطوة الخراب. وأمام شراسة الموت حين يأخذ منا عزيزاً في الاستعارة/ الخيال تتحوّل الذاكرة إلى سِفْرٍ قد نقرأه بعنفوان الألم أو بوهج النداءات القادمة من قصيّ الفلوات حيث «الحب مهزلة القرون» و»الشوق للإبحار» و» مرثية المصلوبين» ثم «داء الأحبة» وآخر وليس أخيراً رعشات المكان» لتضيء الليل الساطع في ألم الرحيل وأمل القراءة، هذه الأخيرة نعتقد أنها البوصلة التي تقودنا إلى الجوهر و العميق ثم الأصيل في حياة الشاعر محمد عنيبة الحمري.
(2)
محمد عنيبة الحمري الشاعر الكافر بالريادة الشعرية، المؤمن بالشعر في شعريته وشاعريته، في قدرته على السخرية من العالَم بألق العبارة ودهشة المعنى، ينتمي جيليّاً إلى السبعينيات من القرن العشرين إلى عصابة من الشعراء كالأحمدين الجوماري وصبري و محمد علي الهواري وعبد الله راجع ومحمد بنيس الذين منحوا القصيدة المغربية نفساً إبداعيّاً حداثيّا مغلّفا بالسرديات الكبرى المهيمنة السياسية والثقافية والاجتماعية آنذاك، فجاءت قصائدهم مضمّخة بالدّماء والأحلام والخيبات في سياق العنف والعنف المضاد غير أنهم أحدثوا ثقباً وشقوقاً في جدار الشعر المغربي المرابط في قلعة العمود الشعري لتخرج القصيدة المغربية من ضيق الأشكال إلى رحابة التجربة بأثرها الجماليّ والفنيّ. وكان صوت الشاعر عنيبة الحمري له الحضور المتميّز الذي يليق بالقصيدة المتخفّفة من الطابع الرومانسي ولعلّ ديوان « الحب مهزلة القرون» تمثيل لتخطي وتجاوز الشاعر المغربي الحيّز الشكلي والانفتاح على أفق شعري آخر.