أمهاتهم يعشن قساوة وآلاما متعددة الأوجه
ما أن تعرف المرأة بخبر حملها، حتى تنسج أحلاما وردية مختلفة، وتمنّي النفس بأجمل المتمنيات، فتتعدد السيناريوهات في مخيّلتها، قبل أن تكون على علم بطبيعة الجنين إن كان ذكرا أو أنثى، وبعد أن تتأكد من جنسه تتضح دائرة أحلامها وتتسع أكثر فأكثر، فتشرع في ترتيب ما تراه مناسبا لاستقبال مولودها، ولا تقف في متمنياتها عند لحظة الولادة فحسب بل تتعداها وتذهب في كثير من الحالات إلى أبعد لحظة ومدى، فتتصوره يافعا فشابا ثم راشدا، مبحرة في عوالم الزمن العمرية المتعددة.
آمال، قد تكون وردية بالنسبة لبعض الأمهات، التي يمكنها أن تتجسد فيعشن تفاصيلها السعيدة، لكن بالنسبة للبعض الآخر قد تشاء التقديرات الربانية غير ما تم تمنيه وتخيّله، فيكون موعد الولادة، أو بضع سنوات بعده، عنوانا على حياة جديدة بكثير من العناء والمشاق ومنسوب أكبر من الآلام، كما هو الحال بالنسبة للمواليد الذين يولدون وهم يعانون من احتياجات خاصة، قد لا يلاحظها الآباء والأطباء في الوهلة الأولى، لكنها ترخي بظلالها وتبعاتها، الصحية والاقتصادية والاجتماعية على المعني بها مباشرة بعد ذلك وعلى محيطه الأسري، وخاصة الأمهات.
طفل ونشأة
رأى يوسف النور وسط أسرة بسيطة تتكون من زوجين وشقيق يكبره ببضع سنوات، في الوقت الذي كانت والدته تتمنى أن ترزق بمولودة أنثى، وأن تحقق نوعا من «التكافؤ» في أسرتها الصغيرة، لكن الواهب رزقها غير ما كانت ترجو، فاستقبلته بابتسامة وحب وكثير من الأمل، وإن لم يتحقق رجاؤها، ما دام الخالق وحده، هو الذي يهب الذكور والإناث لمن يشاء ويجعل البعض الآخر عقيما، لحكم لا يعلمها إلا هو سبحانه.
حرصت والدة يوسف على الاعتناء به، وإن كانت تحس بغصّة في القلب، وعاملته معاملة طبيعية ولم تبخل عليه بحبّها وبرعايتها، وظلت تنظر إليه بنظرة الأم وهو يكبر بين يديها يوما عن يوم، دون أن تلاحظ أي تغيير أو فارق قد يميزه عن شقيقه، الذي مرّ من نفس مراحل التكوين. وظل الوضع على حاله إلى غاية بلوغه سن الرابعة وبضعة أشهر، حين وقعت واقعة غيّرت من مجرى حياة هذه الأسرة الصغيرة.
حادثة ومنعطف
كان خروج الأطفال إلى الزقاق مطلع التسعينات في ذلك الحي الشعبي بدرب السلطان، قاسما مشتركا بين بنات وأبناء الأسر البسيطة القاطنة به، يجرون ويلعبون بين أقرانهم بكل عفوية وبساطة، لكن في ذلك اليوم، وفي غفلة من والدته استسلم يوسف للمرح واللهو وصار يجري هنا وهناك إلى أن ابتعد عن المنزل ببضع أزقة حتى اقترب من سوق شعبي، دون أن يعلم بأن والدته كانت موضوع اهتمام كل الساكنة حين اكتشفت غيابه وصارت تصرخ بشكل هستيري والدموع الحارقة تنسكب على خديها كما تجري الأنهار، مما دفع شباب ورجال الحي إلى التطوع بحثا عن فلذة كبدها، الذي في غفلة من الجميع حاولت إحدى السيدات اصطحابه بعيدا، وفقا لشهادة شاهد، لولا أن تم الانتباه إليه، فتخلّت عنه المعنية بالأمر وأطلقت ساقيها للريح.
عاد يوسف إلى حضن والدته التي ما أن ضمته حتى عنّفته خوفا حتى لا يكرر فعلته ولا يعاود الابتعاد عن باب المنزل، اعتقادا منها أنها تقوم بعمل صائب وبأن ردّ فعلها مناسب على غرار ما تقوم به الأمهات في مثل هذه المواقف. أذرف الصغير الدموع متألما وطبع الحزن محيّاه حتى بعد مرور الساعات بل والأيام، وخلافا لما كان عليه في السابق، صار منطويا، ولم يعد قادرا على تكوين جمل ونطقها بشكل سلس كعادته، وأصبح يكتفي ببضع كلمات مبعثرة، وفي أحيان كثيرة مبهمة.
الطفل والألم
قضت رشيدة أياما عصيبة وهي تحاول فهم سر التغير الذي طال سلوك ووضعية فلذة كبدها، لكنها لم تتوفق في معرفة طبيعة المرض الذي ألمّ به، ونظرا لضيق ذات اليد وقلة حيلتها، فلم يكن باستطاعة زوجها المياوم، الذي بالكاد يكسب ما يسدّ به رمقه، توفير خدمات ببعد صحي وتربوي للطفل، على غرار ما يتوفر لعدد من الذين يعانون من احتياجات خاصة أو من المصابين بطيف التوحد، فالمتابعة اليومية لهذه الفئة من المرضى تحتاج إلى الكثير من الجهد والمصاريف.
حاولت رشيدة أن تطرق أبواب جملة من المؤسسات الصحية، خاصة وأن وضعية الطفل بدأت تتدهور بشكل كبير، يوما عن يوم، وأصبح العنف عنوانا لسلوكه وممارساته، شهرا تلو شهر وسنة بعد أخرى، فاستقر بهما المطاف بداخل مصلحة الأمراض النفسية والعقلية، حيث تم الشروع في منح الطفل أدوية للتعامل مع الوضعية الهستيرية التي كانت تتحكم فيه بين الفينة والأخرى؟
متابعة لم تُقنع الأمّ التي كانت تحمل إبنها وتطرق أبواب المستشفيات بحثا عن حلّ، إلى أن جاءها جواب صادم يوما، حين تم إخبارها بعد إجراء فحص بجهاز السكانير على رأس طفلها، بأن هناك فراغا في مساحة ما من دماغه، التي تتسبب له في ما يعانيه!
حياة بدون روح
انقلبت حياة رشيدة رأسا على عقب ولم يعد لها من طعم، منذ أن تغير سلوك إبنها، الذي صار عدوانيا وفي حاجة متواصلة إلى الأدوية لتهدئته، فأصبحت محرومة من الزيارات ومن الحياة بتفاصيلها وأبعادها الاجتماعية، لا تقدر على عيادة أقاربها ولا استقبال الكثير منهم، نظرا للخوف الذي يعتريهم من إمكانية أن يتعرضوا للعنف في لحظة من اللحظات أو يتم تخريب ممتلكاتهم، أو أن يصر على أن تكون جلستهم وسلوكهم مستقيما وتصرفاتهم منظّمة، خاصة وأن الطفل كان يكبر وجسمه وعضلاته تنمو خلافا لعقله الذي حرص على أن يظل عقل طفل صغير. لم تكن الأمّ تجد فسحة للتنفس، إلا حين كان يتم نقل إبنها إلى إحدى المؤسسات المختصة التي تمكنت من إدخاله إليها بفضل مساعدة المحسنين، التي كان يمارس فيها بعض الأنشطة إلى جانب «أطفال» ومصابين آخرين بأمراض مختلفة، سواء بالتوحد أو بالتثلث الصبغي 21 أو غيرهما، دون أن يستفيد من مقاربة علاجية وتربوية تمكّن من الحدّ من تأثير سلوكه وتمكّن من إدماجه في الحياة، الذي يعد مبتغى وطموحا لكل أسرة تتوفر على مريض من هذا النوع، لكن ورغم كل شيء فقد كانت تلك الحصص تشكل متنفسا للإبن وللأم والأسرة ككل.
مطرقة الجائحة
مرت سنوات كثيرة على هذا الحال، فيوسف يبلغ من العمر الآن 30 سنة، وقد تحسّنت أحواله نسبيا وإن أصبح مدمنا على الأدوية، التي جعلت منه شخصا بشخصيتين، الأولى التي يكون فيها كالحمل الوديع، الذي ينطق كلمات بسيطة يعتريها بعض التعثر والتوقف، ويحاول أن يساهم إيجابيا، والشخصية الثانية التي يطبعها العنف المادي والمعنوي، التي لا يقبلها الكثير من الناس، الذين منهم من لا يستوعب ما قد يتلفّظ به من كلام يجده خادشا، وإن كان المريض يردده بعد أن يتناهي إلى مسامعه من نافذة المنزل أو من غيرها، كما يردد الببغاء الكلمات دون أن يكون على وعي بحمولتها، أو حين تنتابه نوبات صراخ، وعنف شديد، بحيث يعرَّض والدته للضرب التي لم يعد جسمها الهزيل يتحمّل، ومع ذلك تقاوم، فهي لا تستطيع التخلي عنه بأي شكل من الأشكال.
سلوك عدواني ارتفع منسوبه خلال فترة الجائحة الوبائية، فقد ظل يوسف سجين المنزل، لا يستطيع مغادرته، وليس هناك من فضاء ومتنفس يمكنه اللجوء إليه، فأصبح أكثر عنفا وإيذاء لأسرته ولوالدته تحديدا، بعد أن أقفلت المؤسسة التي كانت تعتبر ملجأ وملاذا أبوابها خوفا من انتشار العدوى.
يوسف الذي لا يستطيع اليوم الخروج والتقيد بالإجراءات الحاجزية، لأنه لا يؤمن بقيود مثل قيد الكمّامة، ولا يجد ملاذا يفرّغ فيه الشحنة التي تعتصره، مما جعله يعيش حياة استثنائية اليوم بشكل أكبر مقارنة بما مضى، وإن كانت أشواط حياته وحياة محيطه الأسري ظلت على الدوام كلها معاناة. يوسف اليوم ومن هم على شاكلته، يعيشون بين مطرقة الجائحة وسندان الاحتياجات الخاصة، هم في حاجة شديدة إلى الدعم والمساندة، ونفس الأمر بالنسبة لأسرهم، يحتاجون إلى من يهتم بهذه الفئة، ومن يمكّنها من الفحوصات الطبية، العضوية والنفسية، ومن يوفر لها الجوّ الذي تحسّ فيه بإنسانيتها التي تندثر ملامحها يوما عن يوم، وهو ما يعتبر غير متوفر في الوقت الحالي، حتى مع عودة بعض ملامح الانفراج التي تتحدث عن إمكانية استقبال مصاب من المصابين لمرة واحدة فقط في الأسبوع؟
التوحد وغيره
أكدت الدكتورة عفاف بن يطو، الاختصاصية في طب الأطفال وأمراض الجهاز العضلي والعصبي وأمراض الاستقلاب الوراثية، في تصريح لـ «الاتحاد الاشتراكي»، أن التوحد أو الذاتوية يعد اضطرابا في التطور العصبي للطفل قبل سن الثالثة، يصيب بنسب متفاوتة ثلاث مجالات، التواصل اللغوي، والتواصل الاجتماعي، إضافة إلى السلوك وكيفية التصرف حسب المواقف، مشددة على أن العديد من الكتابات تشير إلى التوحد كمرض العصر، إذ أن أعداد الأطفال المصابين به هي في تزايد مهول، وإن كانت لا تتوفر إحصائيات رسمية عن المرض في المغرب، لكن يبقى معدل إصابة طفل واحد من بين 100 طفل، واردا حسب تحالف الجمعيات ضد التوحد بالمغرب.
وأبرزت الطبيبة المختصة أن أعراض التوحد تختلف من طفل ﻵخر، وكذلك الأمر بالنسبة لحدّتها، لهذا من اﻷصح التكلم عن طيف أعراض التوحد، مؤكدة أن صعوبة تشخيصه تكمن في أن شكل الطفل يكون عاديا، ولا تكون الأعراض ظاهرة بشكل ملفت في السنة الأولى من التطور عند الطفل، إلا أن هناك أعراضا يجب اﻹنتباه إليها حتى قبل سن ستة أشهر، ويبقى إحساس اﻷم بتفاعل ابنها معها خير مؤشر إلى وجود شيء غير عاد في تطوره الحسي الحركي والعصبي . وشددت عفاف على أن تشخيص مرض التوحد لا يتم بشكل قطعي قبل سن السنتين بأي حال من الأحوال، لكن هناك علامات يجب أن تدفع الآباء إلى طلب المشورة المتخصصة بشكل مستعجل، خاصة على مستوى التعبير، في حالة وجود خلل أو تراجع في تعلم اللغة أو في استعمالها، أو عدم استجابة الطفل لمصدر الصوت عند المناداة عليه باسمه، أو عند الوقوف على خلل في التواصل اللالغوي، كما هو الشأن بالنسبة للإشارة، تعابير الوجه، تغيرات نغمات الصوت…، أو على مستوى التواصل الاجتماعي كعدم التواصل البصري مع الأبوين، وفقدان مهارة اﻹبتسام أو تأخرها، وعدم الإشارة إلى اﻷشياء التي تعجبه أو الأشياء التي يريد من والديه أو محيطه إحضارها له، وعدم الاهتمام بمحيطه وانعزاله وانطوائه على النشاطات التي يفضل القيام بها لوحده وبطريقته الخاصة، إلى جانب صعوبة التعرف على مشاعر الآخرين والتعامل معها بالطريقة المناسبة (يضحك عند ما يبدو اﻵخر حزينا……)، وكذا صعوبة الانخراط في اﻷنشطة التي ترتكز على الخيال وعدم التقليد، أو في حالة ملاحظة علاقات غريبة مع عالم الكبار كعدم الاهتمام أو على العكس تعامل بدون أدنى مراعاة لعامل السن…
وأضافت الاختصاصية إلى أن هناك أعراضا أخرى يجب الانتباه إليها على مستوى التعامل والاهتمامات، كما هو الحال بالنسبة للحساسية السمعية واللمسية المفرطة، ومعاينة حركات مترددة لا معنى لها ولا فائدة منها، كأن يلوح بيديه أو يدور بصفة مستمرة في نفس الدائرة، عدم التكيف مع التغيير في المحيط أو في جدول الأعمال اليومية، وكذا التصرف العنيد أو في بعض اﻷحيان العنيف، مشددة على أن تشخيص التوحد يعتبر صعبا نظرا لاختلاف أعراضه وتعدد اﻷمراض التي قد تسبب أعراضا شبيهة به، لهذا فهو لا يتم إلا على يد فريق متعدد اﻹختصاصات يضم الطبيب النفساني، طبيب الجهاز العصبي للطفل، مختصي النطق والحركة، ويعتمد على فحوصات سريرية نفسية، وحسب الحالات تحاليل الدم واختبارات إشعاعية، لكن وعلى الرغم من كل شيء فإن التشخيص المبكر هو أمر بالغ الأهمية لكي يتم تمكين الطفل من العلاجات الضرورية والتتبع المناسب لحالته. وأشارت عفاف إلى أنه وإن لم يكن هناك علاج شاف للتوحد، إلا أن هناك معالجات للحدّ من أعراضه وتمكين الطفل من التطور بشكل ايجابي، وﻷن كل طفل يختلف عن الآخر، وجب وضع برنامج علاجي شخصي ومنفرد يناسب حالته، وقد يستند على معالجة النطق، المعالجة السلوكية التي تساعد على تعلم مهارات جديدة والحد من التصرفات غير الملائمة، المعالجة الفيزيائية، العلاج بالأدوية للتخفيف من بعض الأعراض «الصرع، العنف، الحركة المفرطة، صعوبة النوم…»، وتغيير النظام الغذائي «بدون سكر، بدون غلوتين…».
جائحة بإكراهات متعددة
تستقبل جمعية أمل للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة الذهنية 350 طفلا عبر مراكزها الثلاثة بالدارالبيضاء، الذين تتراوح أعمارهم ما بين 5 و 26 سنة، يعانون إما من التأخر الذهني أو التوحد أو التثلث الصبغي 21، وتقوم بعمل جبار من أجل تلبية احتياجاتهم، خاصة وأن كثيرا منهم ينحدرون من أسر معوزة، فهناك الأسرة التي تقطن ببيت واحد إلى جانب جيران آخرين، مما عمّق آلامها وجراحها خلال فترة الجائحة الوبائية، تؤكد ثورية مبروك رئيسة الجمعية في تصريح لـ «الاتحاد الاشتراكي»، مشددة على أن وقعها لم يكن هيّنا على الكبار والأشخاص «الطبيعين» فبالأحرى هذه الفئات، بالرغم من كل المجهودات التي تم بذلها.
وأوضحت ثورية، أن الجمعية استعانت بتجربة أمريكية، منذ إغلاق أبواب المؤسسات بسبب الحجر الصحي في 16 مارس، حيث تمت الاستعانة بتطبيق الواتساب عبر المحادثات بالفيديو واستعمال التسجيلات بالصوت والصورة، للتواصل مع الأبناء الذين يعانون من أحد الاحتياجات الخاصة وآبائهم وأمهاتم، والاعتماد على ما هو متوفر في المنزل من مواد ومستلزمات، للاستعانة بها في تطوير مكتسبات الأطفال، لضمان استمرارية التكوينات المختلفة، سواء تعلق الأمر بالمواكبة النفسية أو تقويم النطق أو الأنشطة المرتبطة بالمجال الحسي حركي.
وشددت رئيسة الجمعية على أن الأطفال وإن لم يدركوا معنى الجائحة وسبب الحجر الصحي، إلا أنهم استوعبوا أن وضعا غير طبيعي يعيشونه وبالتالي وجب اللجوء إلى هذه البدائل، قبل أن تشرع الجمعية في استقبالهم باعتماد التفويج حضوريا، دون استعمال وسائل النقل المشتركة خلال هذا الأسبوع، بمعدل طفل توحدي لكل مؤطرة، بناء على البروتوكول الذي حددته وزارة التضامن، وعدم تجاوز 5 إلى 6 أطفال في الفصل الواحد بالنسبة لمن يعانون من التأخر الذهني والتثلث الصبغي 21، في حين لم يفسح المجال بعد أمام الأشخاص الذين يعانون من إعاقات عميقة، مشيرة في هذا الصدد إلى أن الطاقم الطبي والتربوي الذي حرص على تقديم خدماته عن بعد، التحق بالمؤسسة خلال شهر شتنبر واشتغل من داخلها وإن لم يكن في اتصال مباشر مع رواد الجمعية.
العاطفة بوابة التغيير
شكلت فترة الجائحة والحجر الصحي منعطفا استثنائيا في حياة الأشخاص الذين يعانون من إعاقة ذهنية عميقة، الذين كانوا يستفيدون من متابعة في المؤسسات المختصة التي تديرها الجمعيات، تؤكد صباح زمامة، رئيسة الاتحاد الوطني للجمعيات العاملة في مجال الإعاقة الذهنية بالمغرب، لـ «الاتحاد الاشتراكي»، مشددة على أن هذه الفئة لم تستوعب معنى الجائحة ولا سبل الوقاية الفردية الخاصة بها والمرتبطة بمحيطها الصغير، ونفس الأمر بالنسبة لضرورة البقاء في المنازل، مما أدى إلى عدد من التبعات على المصنّفين ضمن هذه الخانة بعد أن أغلقت المؤسسات المستقبلة لهم أبوابها، حيث دبّ الخوف في أوصالهم لأن هناك فئة منهم تستشعر الخطر حين وقوع التغيير، وانعكس ذلك على سلوك البعض الذين أصبحوا عدوانيين، وباتوا يمارسون العنف باختلاف مستوياته، إما على الذات أو المحيط، فضلا عن اضطراب في النوم، وغيرها من الصعوبات التي أرخت بتبعاتها وظلالها على أفراد الأسرة الواحدة، كباقي الأبناء الذين يجب أن يتابعوا دراستهم عن بعد، عبر القنوات أو الواتساب، وسط الصراخ والضجيج والأجواء المشحونة.
وشددت صباح على أن الأمهات عانين بكثرة خلال فترة الجائحة الوبائية، اللواتي كان عليهن تدبير قلقهن وخوفهن من العدوى التي قد تطالهن أو تصيب الزوج أو أحد الأبناء والأقارب، كما كنّ مطالبات بضرورة الاهتمام بالإبن الذي يعاني من إعاقة ذهنية في غياب متنفّس وأمام صعوبات متعددة، مبرزة أن هناك فئة من الأمهات كنّ يتوفرن على عمل ويشتغلن في مجال من المجالات، فوجدن أنفسهن ملزمات بالبقاء في المنزل للاهتمام بالطفل المريض في ظل غياب بدائل، خاصة وأن العمل عن بعد لم يكن متاحا بسلاسة، وكان يتحكم فيه مزاج بعض الرؤساء في كثير من المصالح.
وأكدت رئيسة الاتحاد الوطني على أن الفئة التي تبلغ من العمر 30 سنة فما فوق، لا يجب بأي شكل من الأشكال تهميشها، فهي وإن كانت تعترضها صعوبات إلا أنه بإمكانها أن تتقن وتبدع في عدد من الأعمال التي قد تكون مدخلا لتعلم أشياء أخرى تغيب عنها، مشددة على أن المعنيين يكونون في حاجة إلى اهتمام أكبر ومجهود أكثر، ومتى تم توفير ذلك تكون النتائج التي يتم تحقيقها مُرضية وجد متميزة. وشددت الخبيرة في مجال الإعاقة الذهنية، على ضرورة تقوية البعد النفسي وتعزيز تقدير الذات عند المريض، وإن تطلب ذلك مرحلة زمنية طويلة لأن النتائج تكون بعيدة المدى، مبرزة أن المصابين بإعاقات ذهنية عميقة لا يجب أن يعيشوا أجواء العنف والوحدانية والبعد العاطفي، لأن حساسيتهم جد مرهفة، والعلاقة مع المحيط قد تكون دافعا إيجابيا ومحفزا للتطور الإيجابي أو سببا في التقهقر.
تراجع المكتسبات
من جهتها، أكدت الدكتورة سريا الدغمي، في تصريح لـ «الاتحاد الاشتراكي»، أن المختصين في الطب النفسي لاحظوا تراجعا كبيرا بعد الحجر الصحي في الكفاءات عند الأطفال واليافعين الذين يعانون من إعاقات ذهنية مختلفة، والتي سبق وأن تم اكتسابها وتطويرها إيجابا من ذي قبل، كما هو الحال بالنسبة للاستقلالية والاكتفاء الذاتي والتواصل، وكل ما يرتبط بالنمو النفسي الحركي، وذلك بشكل متفاوت حسب نوعية ودرجة كل إعاقة، بسبب قرار إلزامية البقاء في المنازل الناجم عن الجائحة الوبائية، والانعزال الاجتماعي وغياب تفاعل مع أقرانهم.
وأوضحت المختصة في الطب النفسي عند الأطفال والمراهقين، أن هناك العديد من المشاكل المرتبطة بالسلوك التي تسبب فيها الحجر الصحي عند هذه الشريحة من المجتمع، حيث ازدادت مظاهر العنف، خاصة عند اليافعين الذين كانوا يعانون من أمراض عقلية كانفصام الشخصية والذهان، الذين تفاقم وضعهم الصحي بسبب الانقطاع عن تناول الدواء ورؤية الطبيب، ووقف اللقاءات التي كانوا يستفيدون منها، مشيرة إلى أنه تضاعفت محاولات الانتحار بثلاث مرات، وتفاقمت التداعيات النفسية المتمثلة في الاكتئاب وأمراض القلق التي ارتفعت بشكل كبير، كما هو الشأن بالنسبة للوسواس القهري، ومحاولات الفرار من بيت الأسرة، بسبب حالة القلق المفرطة والأخبار القاتمة المرتبطة فقط بالجائحة الوبائية التي تركز على الفيروس والعدوى والموت، سواء عند الأشخاص الذين كانوا سابقا يعانون من مرض ذهني وعقلي ويتابعون العلاج بشأنه، أو الذين كانت لديهم هشاشة وأثرت عليهم الجائحة وأدت إلى بروز الأعطاب المرضية التي يعانون منها. وشددت الخبيرة النفسية على أن الآباء، والأمهات على وجه التحديد، عانوا كثيرا بفعل الجائحة والوضع الصحي والنفسي لهؤلاء الأبناء، حيث وجدوا أنفسهم مطالبين بتتبع «الأوراش» التي تم فتحها على امتداد سنوات بمقرات الجمعيات والمؤسسات التي تتكفل بتتبع وضع فلذات أكبادهم، وأضحوا يقومون هم أيضا وإلى جانب دور الأمومة والأبوّة، بدور الجديد المتمثل في التأطير، الذي قد لا يكونون قد قاموا به يوما، بعدما توقفت كل أنشطة الترويض والتفاعل المباشر التي كان يستفيد منها الأشخاص الذين يتطلب وضعهم الصحي احتياجات خاصة، إلى جانب مواجهة أعباء الحياة اليومية ومتطلباتها الاقتصادية والاجتماعية في ظرفية جد دقيقة.
يوسف و«إخوته»
قد تكون الطريق «معبّدة» أمام بعض الأشخاص المصنّفين ضمن خانة ذوي الاحتياجات الخاصة، وتتوفر لأسرهم الإمكانيات، المادية بالأساس، الكفيلة بتخفيف وقع الإعاقة الذهنية عليهم، وتوفير مجموعة من المستلزمات الضرورية لتجاوز تداعيات الجائحة عليهم وما تسببت فيه من تغيير في نمط العيش الذي ألفوه، لكن بكل تأكيد هناك فئة عانت ولا تزال تعاني الأمرّين، من تبعات الإعاقة وآثار الجائحة. فئة قد لا تجد ما تسدّ به رمقها، قد تعيش أسرها بالبيع بالتجوال، أو من خلال عمل بسيط لا يغني ولا يسمن، أو تجد نفسها تناشد المحسنين لمساعدتها والتخفيف عنها وطأة الحياة بكل تفاصيلها المؤلمة والحارقة، ولعلّ أسرة يوسف هي واحدة من بين هذه الأسر التي تقاوم في صمت، في غياب أي دخل أو متنفس، وفي غياب إمكانيات للتخفيف من وقع المرض وآلامه، والتمكن من مكتسبات لتأهيل شخصيته وتطويرها، وهو ما يؤكد على أن فئة عريضة من المرضى هم خارج رادار التنمية البشرية، وبعيدون عن مجموعة من المراكز المختصة بالرغم من كل المجهودات التي تبذلها للتخفيف من معاناة هذه الفئة وأسرها.