«يوميات زمن الحرب» لبديعة الراضي : سيرة في رواية

لاسم بديعة الرضي وقع خاص في المشهد الأدبي والثقافي المغربي على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة. فهي كاتبة روائية ومسرحية، وصحفية إعلامية، ومناضلة سياسية، وفاعلة جمعوية أدبية رافعة للواء تاء التأنيث المبدعة وطنيا وأفريقيا، في سياق النسوية الجديدة وصحوة الجندر النسوي .
وكأني بهذه الفتوحات البديعية الآخذ بعضُها بنواصي البعض تقول: إني وإن كنت تاء مهمّشة تاريخيا، لآتيةٌ بما لم يستطعه جمع المذكر السالم بمنأى من أية نزعة جنسوية . وأستبق الحديث هنا وأقول بأن رواية «يوميات في زمن الحرب» التي أصدرتها بديعة الراضي مؤخرا هي في تصوري، أنصعُ دليل على أن تاء التأنيث قد استلمت زمام الحكي والسرد من رفيقها وقرينها المذكر رشيد جبوج موضوع الرواية وبيت قصيدها، لتحكي أصالة عن نفسها ونيابة عنه، ما جرى من وقائع وفجائع لم يمهله الحكي حكيها. فكانت عديله وبديله ولسانه أو صداه الحاكي .
وما يسجّل دوما ويُحمد لهذه الكاتبة الحاضرة المثابرة بديعة الراضي، أنها جريئة وصريحة وشجاعة في آرائها وأفكارها ومواقفها، لا تفقد قطّ بوْصلتها الروحية، وإن ساءت وتقلبت أحوال الطقس .
ولعل الإبداع الروائي في ما يبدو، هو الذي وجدت فيه بديعة الراضي ملاذها ومعاذها وسلوتها وشُرفة تنفّسها .
والإبداع في عالمنا العربي، منذ زمان، هو نافذة إغاثة وتصريف للانحطاط العربي السياسي الذي يعيد إنتاج انحطاطه في دورة استخذائية قلّ نظيرها .. وعلى قلوب أقفالها .
وبعد أعمالها الروائية: «غرباء المحيط – حافية القدمين – حوار بيني وبين إيستير «، تجيئنا بديعة الراضي في غمرة 2024 ، بروايتها «يوميات زمن الحرب» .
نص ساخن يقدح شررا، ويفيض مواجع وتداعيات.
والمناسبة شرط دائما كماقيل .
وكل نص ينضح من إناء سياقه وأسباب نزوله، كما تعلّمنا في الزمن الأول، وإن تنصّل تحت هذه الذريعة المنهجية أو تلك من سياقه ومحيطه ونُظر إليه كصدَفة إبداعية منغلقة على ذاتها ومكتفية بذاتها .
وإذا أخذنا زمن الكتابة في الحسبان، فإن الرواية شُرع في كتابتها في 2023 قبيل رحيل رشيد جبوج شريك حياة بديعة الراضي بقليل أو أبعد قليلا، وفي حُميّا طوفان الأقصى الذي وُوجه بطوفان العدوان الصهيوني السادي المدجّج بالتواطؤ الأميريكي الغربي البشع على غزة وفلسطين . بما يعني أن الرواية راوحت بين وجَعين وناءت بنازلتين . وهذا ما يفسر حرارة وجيشان لغتها كما نستشفّ دلالة ورمزية عنوانها (يوميات زمن الحرب) .
وألتقط اقترابا الفقرة التالية:
(هو زمن الحرب إذن .لا قيمة للروح ولا الجسد فيه. وحده الخراب سيد زمانه. لا فرق بين طفل وامرأة أو رجل . كلهم سيان في المجزرة التي غطت ضحاياها الأرض من الماء إلى الماء. والوديان المجاورة حمراء . كأن عروق البشر تضخّ فيها . والبحر كوجه السماء، لا فرق في النزول أو الطلوع . أنا والمؤلف بين أكوام الأجساد نتضور قهرا ) ص 65.
والمؤلف المشار إليه هنا، هو المؤلف الضمني أو الفعلي حسب تعبير الساردة، وهو شريك حياتها وشقيق روحها رشيد جبوج .
ومنذ البدء، منذ العتبة – المَناصية الأولى للنص والمتمثّلة في كلمة الإهداء، نلتقط الإشارة إلى حضور رشيد في صُلب النص :
( إلى روح زوجي الفقيد رشيد جبوج، أهدي هذه الرواية التي عاش معي تفاصيلها) .
رشيد جبوج إذن ، هو الهاجس الرئيس للرواية وسؤالها الحارق:
(لقد اختفت كل الشخوص، واخترتَ أن تسير في موكب جنازتك لوحدك ، وردّدت بصوت مرتفع ، مولانا نسعى رضاك وعلى بابك واقفين،لا من يرحمنا سواك يا أرحم الراحمين). ص 41 .
تلك هي اللاّزمة السردية التي تُعاود الظهور عبر فصول الرواية ومحطاتها، غُصّة موجعة وحُرقة لاسعة، بعد أن واجه رشيد محنته الصحية وزمنه الجحود الكنود، وحيدا ، كما لو أنه بطل تراجيدي تُرك لمصيره .
استعملتُ في حديثي عن «يوميات في زمن الحرب» مصطلح (رواية) الذي شاءت الكاتبة عن اختيار وسبق إصرار أن تمْهر به عملها، وهو مصطلح تحفّه تحفّظات منهجية بصدد توصيف هذا النص وتحديد هويته الأجناسية، حيث تتقاطع فيه وتتفاعل أصوات وذوات ورؤى . لكنها مذوّبة ومصهورة في المحصّلة في صوت لغوي وسردي واحد مُهيمن، هو صوت الساردة القولية والفعلية التي تُحيل على التوّ وبلا مسافة انزياحية أو قِناعية ، إلى كاتبة النص وناسجة خيوطه ودوائره الملغومة، بديعة الراضي، الآمرة – الناهية، الحانقة الوامقة في هذا النص .
علما بأن النص يتوسّل تقنية أو لعبة الميتا – سرد ، حيث يقوم السرد بالتفكير في السرد .
أي تقوم الرواية بالتفكير في ذاتها وكشف مُختبرها وآلية اشتغالها وحديقتها الخلفية، حيث توزّع الأدوار بين المؤلف الضّمني والمؤلف الفعلي والشخصية الرئيسة .
وإذا شئتُ كقارئ فعلي أن أحدّد لفظي، قلت إن الساردة مدفوعة باستراتيجية مقصودة ومُعلنة، تخلط الأدوار والأوراق السردية في ما يشبه الاستغماية السردية، فلا يتبقّى مهيمنا في المحصّلة السردية كما أومأتُ، سوى صوت الكاتبة بديعة الراضي، بكل سلطته الأدبية والإبداعية، وبكل حمولته الوجدانية – والإيديولوجية، بكل الشؤون والشجون الكظيمة.
كيف لا، وقد فوّضها المؤلف الضمني والفعلي في آن، رشيد جبوج، أن تنوب منابه في الحكي ونفْضِ المكنون، وأن تثأر له إبداعيا من زمنه الجحود – الكنود، بعد أن سار فيجنازته وحيدا ، تشيّعه لازمته السردية المتكرّرة، مولانا نسعى رضاك عند بابك واقفين، يا من لا يرحمنا سواك يا أرحم الراحمين . ص. 49 .
ويبقى الله دائما وأبدا، تنهيدة ألمكروبين والمعذبين في الأرض .
هكذا تغدو الساردة شخصية رئيسة ومؤلفة ضمنية وفعلية، تُمسك بخيوط السرد وتتلصّص من برج مراقبة حساس وشاعري على تفاصيل وكواليس المشهد .
نقرأ في الصفحة 145:
(نعم تتفننين ، وتوظفين كل عوالم الحكي التقنية والمعرفية لتبني مجتمعا من الخيال .أنت مرتاحة أيتها المؤلفة الفعلية والضمنية والشخصية الرئيسية في الحكي ) ص 145
وفي اقتحام ميتا – سردي مباشرللنص والقارئ، تلخص الساردة صنيعها الروائي في الصفحة 75 :
(نعم سأحكي، وأعترفُ بأن ما سأحكي هو لمؤلف يقودني وأقوده . نتبادل الأدوار في الركح والسرد وقول الشعر .إن احتجنا إلى وظيفة القصيدة، أحضرنا كل الشعراء لمتابعة حكينا ) .
ومن ثم تُهيمن اللغة المجازية – الاستعارية – الشعرية على هذه الرواية الموزّعة بنائيا إلى اثنتين وثلاثين لوحة مُعنونة ، و270 صفحة من القطع المتوسط .
هذا التداخل الأدبي بين النثري والشعري، بين السيري والروائي ، بين الواقعي والمتخيل، يعيدنا من جديد إلى إثارة السؤال حول الهوية – التجنيسية التي يحرص كتابنا وكاتباتنا على توقيعها في واجهات أعمالهم، ومدى ملاءمة التوقيع لواقع النص .
فهل تُرى تُحتسب (يوميات زمن الحرب) رواية كما نصّ التوقيع، أم هي جُماع يوميات كما نصّ العنوان ذاته، أم هي سيرة بيوغرافية أو ذاتية – أوتوبيوغرافية، أم هي قريبة من ضفاف التخييل الذاتي Autofiction حسب اجتهادات سيرج دوبروفسكي ؟
أنا أراها مَحْكيا سرديا – شعريا – بوْحيا في منزلة أدبية بين هذه المنازل .
هي يوميات سيرذاتية في زمن الوجَع وزمن الحرب، تحكي وتستحضر عبر سرد منولوجي وحواري قُصاصاتٍ وذكريات من المسار الثقافي والإعلامي والسياسي لرشيد جبوج.أي تستحضر مرحلة ملغومة وساخنة من المغرب المعاصر .
هي سيرة في رواية ، قريبة من اللاّرواية التي جاءنا بها في زمنن ، آلان روب غرييه وناتالي ساروت ، أو رواية التداعي الحر أو تيار الوعي التي جاءنا بها رواد الحداثة السردية جويس وبروست وفرجينيا وولف ووليم فوكنر ، مع احتساب الفارق .
أنا أراها نصا TEXTE بالمفهوم الشعري – البويطيقي الحديث ، وكفى .
وفي هذا النص الوجداني السيري الساخن «يوميات في زمن الحرب» تدور كل المكونات السردية وتهيم في فلك المجاز والتحليق الشعري، لغةً وشخوصا ومحكيا وزمانا ومكانا أيضا ، وكأن اللغة الشعرية هي المؤهّلة دائما لنفض المخزون الشعوري واللاشعوري ، حتى في حضرة الرواية.
إن الدّال المكاني – والفضائي المهيمن على امتداد فصول ومحكيات النص يتوزع إلى أنفاق ودوائر وجُحور وحُفر، وكأنّا تلقاء متاهات كافكاوية .
هذه الأنفاق والجُحور والحُفر، كناية عن الوطن في الزمن المغربي الساخن في عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، وهي الفترة التي شمّر فيها الرفاق لحُلم التغيير، منذ جيل (كان وأخواتها) إلى جيل رشيد جبوج ، جيل (إن وأخواتها) بالحُمولة العامية للفظ(إنّ) .
ورواية بديعة الراضي لذلك تبدو كأنها مرْثية وأهْجية وأمْدوحة في آن واحد .
هي مرثية لرشيد جبوج ومرحلته التاريخية المشتعلة التي آلت رمادا، وسرابا بقيْعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا .
وهي أُهْجية للزمن المغربي القلّب وأهليه الجاحدين الدّهاة ،الذين يلبسون لكل حال لبوسها .
وهي إلى ذلك أمْدوحة، أو بالأحرى مديح عال للقيم النضالية – الطهرانية التي كافح من أجلها رشيد جبوج ، بإبداعه المسرحي تحت مظلة مسرح الهواة الطليعي وبجهوده الثقافية والإعلامية والسياسية التي كرس بها إصلاح ذات البين بين مخزن مُوغل في مخزنيته ،وشعب موغل في شعبيته وشقاواته .
هي مديح عال لهذا المواطن الوديع الأنُوف العيُوف الذي انسحب من المشهد بكل هدوء وبصمت ناطق بليغ .
وقد كانت بديعة الراضي في موعد الوفاء . فسطّرت في هذا النص أمثولة إبداعية راقية للوفاء والبرور بالعهد والوعد ، وجعلت من النص قصيدا – نشيدا لروح رشيد جبوج مكتوبا بحبر القلب .
وليكنْ جميلُ بوحها مسك َختام هذه الكلمة:
(وبقيتَ أنت وجها لا يُنسى
في صمتك لا تنسى
ولو مضى العمر لا تنسى
متجدّدا فينا ، في هؤلاء الذين رحلتَ دون أن تودّع أحدا منهم
أنت خسارتنا وربحنا ، والباقي من عمرنا ) ص 79
والباقي دائما هو طيب الذكر والذكرى .
الباقي دائما يصُونه ويكمّله الإبداع الأصيل الجميل النبيل .
دقاّت قلب المرء قائلة له / إن الحياة دقائقٌ وثواني
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرَها / فالذكر للإنسان عمرٌ ثاني
وها هنا ذكر جميل ، لعمر ثان .

إحالة

بديعة الراضي / يوميات زمن الحرب . ط. 1. 2024 . دار الثقافة – الدار البيضاء


الكاتب : نجيب العوفي

  

بتاريخ : 22/06/2024