يوهانس برامز في الدورة 18 لمهرجان ليزاليزي بالصويرة .. في الحاجة إلى الرومانسية اليوم..

 

لم تخطئ الصويرة، اختيارها لـ «تيار الرومانسية»، من خلال الإحتفاء بالمنجز الفني للموسيقي العالمي يوهانس أبرامز، في الدورة 18 لمهرجان «ليزاليزي» للموسيقى الكلاسيكية، الذي تنظمه «مؤسسة الصويرة موغادور»، التي يشرف عليها إبن الصويرة الوفي، مستشار العاهل المغربي، السيد أندري أزولاي. ليس فقط، لأن مدرسة أبرامز، واحدة من أكثر المدارس الموسيقية التي صالحت الأدب والموسيقى الشعبية للأمم، مع الموسيقى الكلاسيكية. بل، لأن زمن الصويرة، مغربيا وعربيا، مدوزن أصلا من أجل مصالحتنا جماعيا، مع أسئلة القلق الهوياتية، تلك التي تواجهها الأمم والشعوب في لحظات تحولها التاريخية الكبرى. والتي تقدم الرومانسية بعض الجواب الشافي عنها، في الكثير من الحالات، أشبه بالبلسم، الذي يصالح الذات مع أصلها ومعدنها البكر: الإنسان. في المعنى الشاسع للإنسان، ككينونة منتجة للجمال في الرؤية وفي السلوك.
إذ، هناك، عند عتبة «باب السبع»، تفلح الصويرة في أن تصالح الخطو مع ذاكرة الأمكنة، حين تجعل النسيم الصاعد من البحر، مدفوعا بقوة الريح، وقد جللته أصوات النوارس التي بلا عدد، يكاد يعيد أصوات من عبروا من هناك، من حمالين وجياد وتجار وعبيد وعسس وخدام عرش وبشر من كل الجنسيات (إنجليز وسويديون ودانماركيون وبرتغال وإسبان وهولنديون وفرنسيون ومن جنوة وصقلية وأتراك)، ويكاد تعدد الألسن أن يصدر عن الحيطان القديمة المجاورة. وحين تعبر إلى الشارع المفضي إلى بناية «دار الصويري»، المتعاضدة مع البناية الضخمة التي كانت مقرا للأمن زمن الإستعمار الفرنسي، والتي تركت اليوم للتلف والمهددة بالسقوط، في الطريق إلى ممر المشور القديم، المفضي إلى «دار السلطان» التي كانت هناك، غير بعيد عن «باب دكالة»، تأتيك رائحة التاريخ، تلك المخزنة في «تجارة الفضة والنقرة»، التي توسم ب «الدق الصويري». أو تلك المخزنة في أقواس أبواب المدينة، التي كل باب منها يفضي إلى باب أخرى، في ما يشبه متوالية للعوالم الساحرة. فهذا يأخدك إلى آثار «حي الأكادريين» وذاك يأخدك إلى آثار «حي العنتريين»، والآخر ينزل بك في تعرج إلى «القصبة القديمة» وشبيهه يأسرك في الطريق إلى أعالي «القصبة الجديدة».. وفي ما بين الزقاق والزقاق، والشارع والشارع، تعبر من أمام أبواب البيوت الكبيرة، أبواب التجار المغاربة المسلمين والتجار المغاربة اليهود، حيث تكاد تسمع دعاء الصلاة لا يزال قائما في بيت «الشريف مولاي الطايع» وبيت «سيدي عبد المجيد الحريشي» وبيت «سيدي عبد الرحمان اللبار» وبيت «الحاج المحجوب أوتهلا» وبيت «الطالب بوهلال» وبيت «سيدي محمد الورزازي» وبيت «المحجوب توفلعز» (وهي بيوت تعود إلى القرن 18). وفي ذات الجوار تكاد تسمع أدعية صلاة عبرية مغربية، في «صلاة» البيوت المغربية اليهودية الكبيرة، من ذات الزمن، مثل بيت «موسى أفلالو» وبيت «يوسف بن عمران المليح» وبيت «أبراهام قرقوز» وبيت «حاييم بينحاس» وبيت «إسحاق بن سعود» وبيت «يعقوب بنعدي دلفانتي»… إلخ.
واضح أنه لم تخطئ أبدا تلك المقولة التي تنسب إلى السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد لله (محمد الثالث)، الذي إليه يعود الفضل في إعادة بناء المدينة، ومنحها دورها التجاري الدولي الكبير في القرنين 18 و 19، والذي صدر في عهده القرار السلطاني بإلغاء الرق وتجارة العبيد بالمغرب، سنة 1779. تلك المقولة التي تفيد أن: «من دخل الصويرة فقيرا، خرج منها غنيا». والغنى أنواع. وواضح أن ما يهبك إياه، مهرجان من مستوى مهرجان «ليزاليزي» للموسيقى الكلاسيكية، سام في مراتب الغنى الروحي، حين تهذب فيك النوتات الموسيقية الدواخل، وتكنس عنك كل غبار «فتنة المدن الحديثة»، تلك التي إسفلتها لا ينجح سوى في أن يبلد الإحساس فيك، بمن تكون، أي ذلك الطفل اليتيم (الإنسان) أمام طراوة حليب أمه (الأرض). حينها تستشعر كبر ذلك الغنى الذي تحوزه، حين تؤوب راجعا من شاطئ الصويرة، والنوارس ترافقك إلى آخر الطريق، كما لو لتودعك، وتودعك، في الآن نفسه، الرجاء أن تعود ثانية إليها في القادم من الزمن والأيام.
حينها تجد في جراب الداخل، مخزنة صور الفرقة الفيلارمونية المغربية، وصور باقي العازفين (المجربين والشباب)، من قبيل: ديبورا نيمتانو، رومان ديشارم، دومينيك دوفيلانكور، أوريان موريثي، إليزا هوثو، بيير كافيون، عبد الإله حساني، أيوب سحروت، نديم كدري، وسام بنعمار، مورغن غابان، ماثيو مارتان، غيوم شيلم… وقائدة كل ذلك الجمال الفني، العازفة المغربية الرفيعة على آلة البيانو، ومديرة المهرجان الفني، دينا بنسعيد. الذين انتصروا، جميعهم، على ذواتهم، كي يأخدوا الحضور الكثيف سواء بدار الصويري، أو بالخيمة الكبيرة بساحة المشور، أو بالبناية الرفيعة ل «بيت الذاكرة» (وتلك قصة لوحدها)، إلى نوتات المدرسة الرومانسية للموسيقار الألماني الكبير يوهانس برامز، معززة بمقطوعات مكملة من ذات التوجه الفني لكل من بيتهوفن، شومان، ميندلسون، دفوراك، وبيرنشتاين.
إن ما تعلمه لنا، موسيقى برامز، فعلا، هو حاجتنا اليوم إلى إعادة تمثل تجربته الفنية (هو الذي كان بعيدا عن الأضواء ويهرب منها دوما)، كواحدة من أهم المدارس الموسيقية بالعالم، التي صالحت الموسيقى العالمة مع الموسيقى الشعبية. وأنه انطلاقا من موسيقى الشعوب، ننجح دوما في إبداع موسيقى كونية عالمية، بمقاييس النوتة الموحدة في ميازين السلم الموسيقي الكوني للموسيقى الكلاسيكية. لأن ميزة برامز، كامنة في أنه لم يقلد بيتهوفن، بل أضاف على منجزه، من خلال اشتغاله على الموسيقى الشعبية بألمانيا والمجر (أنجز سبع مجلدات عن الموسيقى الشعبية الألمانية). وأيضا من خلال اشتغاله موسيقيا على أعمال الأديبين الألمانيين الكبيرين، غوتة وشيللر، رائدي التيار الرومانسي في الأدب العالمي، خاصة رواية «آلام الفتى فرتر» لغوتة، التي تعتبر درسا معرفيا وأدبيا رفيعا في سؤال قلق الذات أمام منظومة الأخلاق.
ولعل في الحفلة التي أحياها الرباعي واسيم بنعمار، ماثيو مارتان، رافاييل كريثيان و كريستوف كواتريمر، أرقى مراتب تحقق ذلك التزاوج الرفيع لموسيقى يوهانس برامز، التي تعتبر بحق مكملة لموروث بيتهوفن، ومتجاوزة له في الآن ذاته جماليا. لأنه من خلال كثلة زمن فنية، أخدنا ذلك الرباعي، من خلال آلة الكمان وآلة التشيلو، إلى سماوات سادرة في الموسيقى الرفيعة، تلك التي تناجى فيه أنين الوتر مع أنين العاشق الذي طوح به الوجد. أما قمة القمم، التي شكلت فعليا أجمل مفاجآت الدورة 18 من مهرجان «ليزاليزي»، فهي الأمسية الغنائية والموسيقية التي أدتها باحترافية خرافية السوبرانو «أوريان موريثي» (من أصول فرنسية وبولونية)، مرفوقة بعازف البيانو الفرنسي «رومان ديشارم»، التي اشتغلت على مسرحة بادخة لرسائل كلارا وروبرت شومان، حيث أخدت الحضور إلى مساحات من الجمال الفني، يكاد الخاطر يسائل ذاته، في ما يشبه السؤال الإستنكاري، غير المصدق: «أحقا يمكن أن تجود سماء بلاد، مثل سماء المغرب، بلحظة رفيعة مماثلة إبداعيا وإنسانيا؟».
الصويرة لم تبخل علينا بها، على كل حال، وها هنا تكمن فعلا حكمة تلك المقولة السلطانية للسلطان سيدي محمد بن عبد الله : «من دخل الصويرة فقيرا، خرج منها غنيا».
مفاجئة
«بيت الذاكرة»

لم أفهم، كثيرا، ذلك الشغف الذي ظل يسكن كلمات المستشار الملكي السيد أندري أزولاي، قبل حفلة دار «بيت الذاكرة» بحي العلوج، غير بعيد عن القصبة الجديدة، فالرجل كان مثل طفل في عيد، جاءته الهدية الكبرى المرتجاة. وفي عينيه تبرق سعادة بلا ضفاف، حين يأخده الحديث إلى ذاكرة المكان ذاك. لم أفهم ذلك الشغف، حتى أخدنا نحن جمع قليل من ضيوف المهرجان، إلى زيارة خاصة لتلك الدار الفخمة العتيقة، صباحا، قبل حفلة المساء البادخة، حيث كان الحكي يسلس عن قصة المكان، الذي كان لسنوات عبارة عن أطلال، تعالت فيه الأزبال طبقات، قبل أن يتقرر بعزم، تعاضدت فيه نيات وطنية عدة (خاصة من وزارة الثقافة المغربية)، وثقة دولية (دعم ألماني بالأساس)، وحدب خاص من المستشار الملكي، كي تعاد الحياة بذات الجمال المغربي اليهودي إلى ذلك المنزل التاريخي المبهر. وأن يصبح اليوم، بمقاييس عالمية، وبتقنيات رفيعة، متحفا كبيرا لذاكرة الصويرة.
البيت ذاك، كما شغفت بالبحث عن قصته، يعتبر واحدا من البيوت المغربية اليهودية، بمعماره المغربي الأندلسي، الذي كان في ملكية واحدة من كبريات العائلات التجارية السلطانية اليهودية بالمغرب، منذ القرن 18، وهي عائلة أبراهام قرقوز. وهي عائلة مغربية يهودية من مراكش وآسفي، انتقل فرع منها بأوامر من السلطان سيدي محمد بن عبد الله إلى الصويرة، ليصبح ذلك الفرع واحدا من أهم العائلات التجارية المغربية خلال القرنين 18 و 19، التي نسجت علاقات قوية جدا مع كبريات المدن الأروبية خاصة مانشستر الإنجليزية ومارسيليا الفرنسية وميناء جبل طارق وميناء جنوة. وأبراهام هذا، الذي توفي سنة 1883، هو ابن شلومو قرقوز المنحدر من عائلة يهودية أندلسية هربت من الأندلس في القرن 16، هربا من محاكم التفتيش الكنسية الإسبانية (بالضبط سنة 1552)، واستقرت في البداية بفاس وتطوان، وأن أول فرع منها استقر بآسفي قد كان سنة 1739 (مسعود قرقوز). وستلعب هذه العائلة رفقة عائلة موقنين (تاجر مغربي يهودي كبير من مراكش)، أدوارا حاسمة في علاقات المغرب التجارية الدولية، خاصة مع المدن الإنجليزية، إلى جانب عائلة هاني أبراهام الزاكوري الذي تنسب إليه بعض المصادر أيضا (ربما خطأ) ذلك البيت (1). لأنه من ضمن ما تؤكده المصادر التاريخية المتعددة، الخاصة ب «بيوتات العائلات الصويرية»ّ، أن عائلة الزاكوري لم تكن تملك بيتا مخزنيا خاصا بها، به «صلاة» للعبادة، مثل باقي العائلات اليهودية الأخرى من التجار، وأن العائلات التي امتلكت بيوتا خاصة هي عائلات: موسى أفلالو (منزلان)، يوسف بن عمران المليح (3 منازل)، أبراهام قرقوز (3 منازل)، ومنزل واحد لعائلات بينحاس، كوهن، قرياط، أخنافو، بنعدي، ترجمان، وغيرها كثير، ليس بينها إسم عائلة الزاكوري.
«بيت الذاكرة» إذن، الذي شهد واحدة من أجمل وأرفع الحفلات الموسيقية بالمهرجان، بمشاركة كورال الفرقة الفيلارمونية المغربية، يعتبر اليوم فعلا معلمة تاريخية رفيعة، عنوانا على الغنى الحضاري للإنسية المغربية، بروافدها المتعددة. وقيمة المغرب هي التي ارتقت في مصاف الإبداع الحضاري، معماريا وإنسانيا وثقافيا وفكريا، من خلال مشروع مماثل، وليس فقط مدينة الصويرة.
هامش:
1 ـ مهم هنا العودة إلى كتابات الباحث الأمريكي دانييل شروتر، خاصة كتابه «يهودي السلطان» وكتابه التحفة الذي شكل أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه بإحدى أرقى الجامعات الأمريكية «تجار الصويرة 1844 – 1886». وهما الكتابان اللذان ترجمهما في لغة عربية رفيعة وبحجية علمية المؤرخ المغربي خالد بن الصغير.


الكاتب : لحسن العسبي

  

بتاريخ : 10/05/2018