سفر عبر الزمان والمكان
يعرض كل من الفنانَين التشكيليين المغربي محمد نجاحي والعراقي علي البزاز، مجموعة من لوحاتهم فنية، على صالة كازينو فندق المامونية بمراكش، من الثاني إلى الخامس والعشرين من شهر نونبر الجاري.
لوحات تشكيلية بصرية، تراها العين تارة مرسومة وتارة أخرى منحوتة.
آثار وتفاصيل، ألوان ترابية وأخرى تجمع بين البارد والساخن، بين الأزرق والأسود والأصفر والأحمر، كلها عوامل تدفع المشاهد إلى داخل تلك اللوحات، كأنه واقف أمام أحد الحوائط أو الجدران، يرصد خدوش وخربشات أحدهم.
ليس سهلا أو قصيرا على المشاهد، السفر في الزمان والمكان، من خلال هاته اللوحات، إذ تُذكرك هذه الآثار، بأماكن زُرتَها أو عشت فيها جزءا من حياتك، بمدن وأحياء ومنازل قديمة أو جدران تفاعل فيها الزمن والإنسان، وتركا آثارهما فيها. وبمجرد أن تتخلص من هذا الشعور المقترن بالماضي وعلاقة المكان بذاكرتنا ووعينا، تلحظ ملصقا ممزقا، يضم صور روائيين أو مفكرين مثل فرانز كافكا وكارل ماركس، أو معادلة رياضية بمجهولين (x،t)، أو مثلثا هرميا تشكل بفعل ترسبات الصباغة.
حول ارتباطه بالأثر والأماكن والجدران، صرح محمد نجاحي لجريدة “الاتحاد الاشتراكي” قائلا: “اهتمامي بأثر الإنسان وأثر الزمان على المكان، ابتدأ تقريبا سنة 1998، حينما كنت مهتمًا بالصورة الفوتوغرافية، وألتقط صور الجدران والأبواب الخشبية والرموز التي تحملها. قمت بتحويل هذه الفكرة من الصورة الفوتوغرافية إلى اللوحة التشكيلية. وتخليت عن مواد استُهلكت أكثر، وأضفت مواد وتقنيات جديدة في اللوحات، وبالتالي عملت على تطوير هذا الاهتمام بالأثر منذ تلك الفترة إلى اليوم، لا سيما وأني أرى في تلك العلامات والخدوش المهملة على الجدران؛ أبعادا اجتماعية وثقافية، وتعبيرا عن جيل بأكمله، عن نفسيته وعن مواقفه كذلك”.
يتتبع الفنانان أبعادًا سوسيوثقافية لخدوش وخربشات وملصقات، تحملها الجدران والحوائط والأماكن المنسية والمهملة مع مرور الزمن، ثم ينقلان إلينا هاته الهوامش بطريقة فنية إبداعية، وبشكل دقيق في لوحة تشكيلية بصرية، تجعلك تستحضر محمود درويش حينما قال:
“أَنا مَلِكُ الصدى، لا عَرْشَ لي إلاَّ الهوامش. الطريقُ هو الطريقةُ. رُبَّما نَسِيَ الأوائلُ وَصْفَ شيء ما، أُحرِّكُ فيه ذاكرةً وحسّا”.
“اختلف راهناً التلقي الجمالي للوحة التشكيلية من تلقِ صالوني متحفي مخملي، إلى تلقٍ يمكن أن نسميه “ميتافيزيقيا” بالعابر، المتلاشي، والهامشي. هذه المفاهيم لها ارتباط كبير بالعازِب والغريب والمهاجر. فقد أصبحت اللوحة، تحمل على مسندها المسامير، والإسمنت، والأنقاض والنفايات، بعد ما كانت مخملية في كل شيء. إن الاشتغال على الأثر، وهو العابر، الهامشي، والزائل؛ هو اشتغال فلسفي وجمالي!”. هكذا صرح علي البزاز لجريدة “الاتحاد الاشتراكي” في هذا السياق.
يؤكد الفنانان عن ارتباط وثيق للفنون، وعن جمالية المزج بينها. جلي ذلك من خلال اللوحات عينها، حيث تجمع بين الرسم والنحت. أو من خلال الفنان نفسه، إذ تجد نجاحي ينقل فكرة من الصورة الفوتوغرافية الى اللوحة التشكيلية، وتجد البزاز شاعرا في الأصل، كاتب سيناريوهات، وناقد سينمائي.
يفاجئك البزاز بوضع أحد كتبه الشعرية بالمعرض، عنوانه “لا تعبر الفجر هامشيا”. عنوان يجعل قارئه يفكر في فرض ذاته وخوض الصراع من خلال التجربة، والبحث عن المعنى، لتحرك ذاكرة وحسّا، ربما نسي الأوائل وصف شيء ما. وفي الصفحة الأولى من كتابه الشعري، لا تعبر الفجر هامشيا، يكتب علي البزاز: ” الثقيلُ من الحديث والمرفوض من المِدْفأة. يقع على الحافة فيتداعى كل اتّفاق يبرمه”.
الشاعر الفنان العراقي، “الذي لا يشبه غيره من الشعراء العرب، بصنعه عالم من العلاقات والدلالات في لغته” كما كتب عنه المفكر اللبناني علي حرب، صرح لجريدة “الاتحاد الاشتراكي”، هذا الارتباط بالفنون الجميلة والآداب الرفيعة، قائلا: ” كل ما ارتبطت به، ويتعلّق الأمر بالأدب والفن والمجتمع؛ بسبب كوني شاعراً فحسب. الشاعر كما أعتقد هو كائن متحوّل، بين الصفات والمعاني والمفاهيم. الشاعر، لا يكتب الشعرَ فحسب، بل يجعله الشعر متحوّلاً، وهكذا، نجد الشاعر فناناً تشكيلياً ، سينمائياً، روائياً وصحافياً. هذا التحول أشار إليه دولوز ذات مرّة بـ”الترحّل”.
لا كينونة من دون التحوّل، هكذا يجعلنا الفنان علي البزاز نفهم التغيير ونسعى إليه. كما قال غوته “الكائن الذي لا يتحوّل، مصيره الزوال”. وكما قال نيتشه، “التغيير، هو الثابت الوحيد”.