آراء خاصة في الرأي العام

 

«حكومتنا تستند على الرأي العام، و كل من يستطيع تغيير الرأي العام يمكنه تغيير الحكومة».
(ابراهام لنكولن)

تعود الدراسات المنهجية الأولى لتشكيل الرأي العام إلى بداية القرن العشرين، إلا أن بعض المؤلفين الكلاسيكيين والفلاسفة القدماء تعاملوا مع موضوع الرأي العام قبل ذلك بكثير، ولا سيما أرسطو وروسو . وكان مكيافيلي هو الشخص الذي عالج بشكل مباشر أهمية الدعم الشعبي للسياسة.
يفهم الرأي العام على أنه تجميع إحصائي للآراء الفردية. كانت البحوث المنهجية الأولى حول الرأي العام، بشكل شمولي،قد أجريت في العام 1920. ومنذئذ تم اعتباره ظاهرة اجتماعية.
لقد ارتبط الرأي العام بوسائل الإعلام الجماعية (الراديو تم التلفزيون) ومن تم تطورت دراسات الرأي العام لتستجيب للسياق الاجتماعي، إذ تم التعامل على التوالي مع الدعاية والإقناع ، ثم الرأي العام، فالخطاب السياسي، والإشهار والإعلان، والتسويق والاستقبال. وهي قائمة أضيفت إليها اليوم موضوعات: الترويج الاجتماعي، والعلاقات العامة، و التواصل السياسي وغيرها.
منذ ثلاثينيات القرن الماضي تم الاعتماد على قياس ميولات الرأي، لإعطاء الشرعية والمصداقية للقرارات السياسية. فالديمقراطية تتطلب من القادة أن يأخذوا في الاعتبار المشاعر الشعبية عند صياغة سياساتهم.

الرأي العام : نقد المفهوم

في عام 1973 نشر عالم الاجتماع الفرنسي بييربورديو كتابا نقديا عن الرأي العام بعنوان :» الرأي العام غيرموجود».غير هذا الكتاب،من خلال أطروحته ، الطريقة التي كان ينظر بها إلى الرأي العام بصفة عميقة .
يكشف بورديو عن ما سماه «أسطورة الرأي العام» كأساس للشرعية السياسية منذ الثلاثينات ، ويقدم أيضا محاولة لفهم ما يمكن أن يعتبر رأيا عاما، ويتساءل حتى على الطبيعة السوسيولوجية لاستطلاعات الرأي العام وقدرتها على إنتاج معنى . وعن فعاليتها، ليس من وجهة نظر كمية ، بل النوعية أيضا.
ينتقد بورديو أداء استطلاعات الرأي العام بعد تحليلها، مركزا على الافتراضات الثلاثة التي يقدمها منتجو الاستطلاعات، ويسهب في عملية التشكيك فيها. فحسب بورديو-يقوم الافتراض الأول في هذه الاستطلاعات على أنه؛ يمكن للجميع أن يكون رأيا ، أي أن إنتاج الرأي هو في متناول الجميع . وفي جميع القضايا .
أدت دراسة «الرأي العام» إلى نشر مجلة فصلية متخصصة باسم «الرأي العام» في عام 1937 بالولايات المتحدة، والتي لا تزال تنشر إلى اليوم من طرف الجمعية الأمريكية لأبحاث الرأي العام (AAPOR) .
.Pierre Bourdieu; L’opinion publique n’existe pas, les temps modernes, Paris1973
بل إن معاهد الاستطلاع تفترض بأن كل شخص عليه أن يكون رأيا،ولذلك تقوم عادة باحتساب المترددين في إجاباتهم في اتجاه النتائج الإيجابية للبحث الذي تجريه.
والافتراض الثاني؛ يقوم على أن جميع المواقف متساوية، وهذا يطرح السؤال عن قيمة الآراء. إذ من المثالية المحضة أن نفترض بأن جميع المواطنين، أو أن جميع من شملهم الاستطلاع، لديهم رأي ثابت حول جميع القضايا الاجتماعية: فكلما تعلق الأمر بمشاكل معرفية وتطلب تكوين الرأي التوفر على المعلومات، كلما وجدنا فجوة كبيرة بين معدلات عدم تقديم الجواب بين الشرائح الأكثر تعليما وتلك الأقل تعليما . وعلى العكس عندما تتعلق الأسئلة بالمسائل الأخلاقية، فإن الاختلافات في عدم الجواب، حسب مستوى التعليم تكون صغيرة.
الافتراض الثالث؛ يقوم على أن استطلاعات الرأي تشير إلى فرض القضايا التي ليست بالضرورة تلك التي تهم المجيبين. وقد تتكون حولها آراء فردية أو آراء مجموعات أو أقسام. وبالتالي لا نكون أمام» رأي عام «بل» آراء عامة».
يقول بورديو: «اعتقد أنه يمكن إثبات أن هذا ليس هو الحال. وأن حقيقة تجميع الآراء التي ليس لها نفس القوة الحقيقية على الإطلاق تؤدي إلى إنتاج قطع أثرية لا معنى لها (un artefact pur et simple). وأن الحقيقة البسيطة المتمثلة في طرح نفس السؤال على الجميع، هو افتراض يعني أن هناك إجماع على المشكلات،أوبعبارة أخرى، أن هناك اتفاقا على الأسئلة التي تستحق أن تطرح».
تختلف الانتقادات المنهجية التي تنصرف إلى كنه الاستطلاعات، عن الانتقادات الفنية التي توجه إليها عادة، والمتمثلة في: طرق اختيار العينات، وتمثيليتها، وطرح الأسئلة المتحيزة في صياغتها أو تلك الموحية بالجواب وغير ذلك.
يعتبر بورديو أن الاستطلاعات ترسخ وهما بأن هناك رأيا عاما ، كمحصلة ، وقيمة مضافة صافية للآراء الفردية. يتكرس بفرض فكرة أن هناك ما يشبه متوسط الآراء المعبرعنها – la rèsultante. وأن هذا الرأي الوسط هو «الرأي العام «الذي تبرزه الصحف في عناوينها العريضة بالصفحات الأولى في شكل نسب مائوية (60 % من الشعب مع…).
إن «الرأي العام»، والذي هو عمل فني صريح، لإخفاء توترات الرأي وتفاوتاته في وقت معين.هو ما يحتاج إليه رجل السياسة الذي كان يقول «لله معنا» فأصبح اليوم يقول: «الرأي العام معنا» – التعبير لبورديو.
هذا هو التأثير السياسي لاستطلاع الرأي: إضفاء الشرعية على سياسة ما،أو تعزيز موازين القوة الموجودة فعلا في مجتمع ما.
وتبقى أحد أكثر الآثارالضارة لاستطلاعات الرأي هو بالتحديد أن يطلب من الناس الإجابة على أسئلة لم يطرحوهاهم على أنفسهم. ففي كل الاستطلاعات تبقى دوما فئات مترددة، و فئات لا تقدم جوابا، ثم إنه كثيرا ما تسيء استطلاعات الرأي تقرير حقيقة تغير وتبدل الرأي نفسه ،أي تغير مواقف الناس الخاضعين للاستطلاع . إن استطلاعات الرأي تتعامل مع الرأي العام على أنه مجرد مجموعة بسيطة من الآراء الفردية الثابتة، يتم تجميعها في ظروف معينة، وهي في العمق آراء منعزلة.

الرأي العام ؛ مؤثر ومتأثر:

كما يؤثر الرأي العام في القرارات السياسية يتأثر هو الآخر بهذه القرارات .والصحافة تلعب دورالمستمع لنبض الرأي العام وعكسه فيما تنشر، لكنها لا تتوقف – غالبا – عند هذا الحد، بل تعمل على ترويض وتوجيه الرأي ، وحتى صنعه.وهوما يضفي المصداقية على قول داعية الحقوق المدنية ، الأمريكيمالكوم إكس:» إذا لم تكن حذرا ستجعلك الصحف تكره المظلومين وتحب الظالمين «.
فالصحافة تخلق الرأي العام، تصنعه.الصحافة على وجه الخصوص لها سلطة مهمة في صناعة هذا الرأي، ويتمتع الصحفيون بسلطات كبيرة من أجل ذلك. حرية الصحافة هائلة ،خصوصا في الغرب، لذلك يجب استخدام هذه الحرية وهذه السلطة لإخبار الرأي العام وليس لتوجيهه،لإطلاعه على الأخبار، وليس لدغدغة عواطف الناس ومجاراة السخط العام.

صناعة الرأي العام :

لا يمكن لأحد مهما وصلت شعبيته أو نزاهته، أن يحكم دون دراية بكيفية التعامل مع الرأي العام. فحتى الأنظمة السلطوية قد تواجه ثورة شعبية قادرة على إسقاطها، إذا أهملت الرأي العام. لذلك صار من اهتمامات الدول والحكام الاهتمام بالرأي العام وبصناعته . هذه الصناعة التي تقوم عليها مؤسسات وأجهزة إدارية وإعلامية و فنية عديدة. بالإضافة إلى ما تقوم به الصحافة.
في الولايات المتحدة، مثلا، تقدم وسائل الإعلام تغطية ،أكبر من أي وقت مضى ،للأحداث الإجرامية ،مساهمة منها في تطوير الشعور بعدم الأمان، مفضلة ومقترحة وضع سياسات قمعية مناهضة للحرية.
لنتذكر انه في سنة 1916 – في حمأة الحرب العالمية الأولى – نجح ويلسون في الانتخابات الرئاسية الأمريكية بشعار «ويلسون أبقانا بعيدا عن الحرب» إذ كان الشعب الأمريكي في ذلك الوقت يفضل السلام ويكره الحرب. ولا يريد الدخول في حرب أوروبية، الأساس في الحرب العالمية الأولى. وتحدث المفارقة، فهذا الشعب نفسه هو الذي يرغب بالمشاركة في الحرب، تحت رئاسة ويلسون نفسه، الذي نجح في الانتخابات بشعار «السلام». يكتبنعوم شومسكي عن هذا الحدث في كتابه «السيطرة على الإعلام» ويقول: «أنشأت الإدارة الأمريكية لجنة للدعاية الحكومية أطلقت عليها»لجنة كريل «. نجحت هذه اللجنة،خلال ستة أشهر، في تحويل المواطنين المسالمين إلى مواطنين تتملكهم» هستيريا الحرب» والرغبة في تدمير كل ما هو ألماني، وإنقاذ العالم في الحرب العالمية الأولى. وقد استعملت هذه اللجنة – حسب شومسكي – ضمن وسائلها «فبركة «قصص عن مذابح يرتكبها الألمان، واتضح في ما بعد أن هذه القصص من «اختراع» وزارة الدعاية البريطانية التي كانت تستهدف توجيه فكر معظم دول العالم وتأليبها ضد الألمان.
مثال آخر على تغير الرأي العام وصناعة الرأي الملائم للقرارات السياسية المتخذة، ما قامت به الدعاية الأمريكية سنة 2003، لإعداد الرأي العام لغزو العراق، فقد تم اختلاق وترويج تقارير وأخبار عن تملك العراق لأسلحة دمار شامل، تشكل خطورة كبيرة على العالم. وتحت هذه الدعاية تم تجنيد الرأي العام الأمريكي والغربي، والإقليمي، وحتى منظمة الأمم المتحدة انخرطت في تأييد أعمال نزع أسلحة الدمار – المزعومة – في العراق، وبعد شن الحرب وإتمام الغزو، لم تكشف الحرب تحت أنقاض الدمار الهائل في العراق، سوى على جثث نحو 500 ألف عراقي، وسيطرة الشركات الأمريكية والإنجليزية على نفط العراق.
نفس الأسلوب، تم استخدامه أيضا في رومانيا للإطاحة بالرئيس نيكولاي تشاوسيسكو، بعد ما سمي «بمجازر تيميسوارا» المدينة الرومانية الصغيرة في 16 ديسمبر من العام 1989، حيث تم إعداد صور وفيديوهات لجثث تم تجميعها تعود إلى أشخاص توفوا قبل وقوع الأحداث، وجرى إخراجها من القبور، وترويجها على أنها لضحايا مجازر ارتكبتها القوات العمومية في مواجهة المتظاهرين المسالمين بتيميسوارا ،وبأوامر من الرئيس.ونقلت القنوات التلفزية العالمية والصحف صورا عن “مذبحة” شنيعة – لم تقع – في تيميسوار، متحدثة عن وجود عدة مقابر جماعية، وعن رقم 4630 قتيلا في تيميسوارا وحدها.في حين أن إحصائيات ما بعد الثورة أسفرت عن مقتل ألف شخص في البلاد كلها، بينهم نحو مئة في تيميسوارا.كل ذلك من أجل صناعة رأي عام غاضب على نظام تشاوسيسكو، وتبريرالإطاحة به، والانتقام منه ،وتبرير المرور إلى السرعة الخارقة لإعدامه وزوجته إثر محاكمة شكلية وسريعة. وهو ما وصفته منظمة مراسلون بلا حدود على أنّه “واحدة من أكبر خدع التاريخ الإعلامي الحديث”. وقد أضر ما جرى بمصداقية وسائل الإعلام على المدى الطويل. لصناعة الرأي قد تستعمل أساليب متعددة؛ بإثارة قضية أو إشاعة أو فضيحة،لتحويل انتباه الرأي العام عن معارضة سياسة معينة. أو خلق أزمة اجتماعية تظهرعجز الدولة في التسيير. مثلما حدث في مصر سنة 2013 باستعمال أزمة الكهرباء و الوقود قبل عدة أسابيع من تظاهرات 30 يونيو المطالبة برحيل محمد مرسي. إذ انقطعت الكهرباء في جميع أنحاء البلاد بشكل غير مسبوق، وشلت طوابير الوقود الضخمة المحاور الطرقية، واستمرت الأزمة حتى صدور بيان عزل مرسي، لتختفي الأزمات ويتوفر الوقود وتنتظم الكهرباء، حتى قبل تعيين الحكومة و المحافظين.

ماهو الرأي العام ؟

نعود مع باتريك شامبين Patrick champagne، إلى طرح سؤال : ماهو الرأي العام؟ إن ردود فعل الجمهور وآرائه الملتقطة – عادة – حول الأسئلة التي توجه إليه ليست أكثر من رجع صدى للآراء المشوهة والسطحية، وفي كثير من الأحيان للآراء المعبرعنها علانية، في وقت سابق، من طرف المتخصصين في صناعة الرأي العام، في صراعهم من أجل فرض وجهة نظرهم حول ما يجب الحديث عنه، وكيف يتم الحديث. يظهر هذا جليا في آراء الجمهور الملتقطة من طرف وسائل الإعلام بمناسبة كل حدث اجتماعي أو سياسي؛ بمناسبة مهرجان للموسيقى أو للفروسية، أو دخول مدرسي، أو افتتاح مستوصف، أو فتح طريق أو ترصيف شارع، أو حتى للتعليق على واقعة سقوط المطر. فالمواطن سيردد دوما أمام عدسات التلفزة أو ميكرفون الإذاعة أو آلة تسجيل الصحفي نفس الرأي المنتظر منه. سيردد نفس تعابير الصحفي في تقاريره التي سبق أن استهلكها هذا المواطن. كأن الأمر يتعلق «بالمهرج Le ventriloque الذي يمنح الصوت للدمى التي يقدمها أمام الجمهور» حسب تعبير شامبانيي.
ما من شك في أن الرأي العام جزء من الحقيقة الديمقراطية، ولكن ليس هو الديمقراطية. فالمشرعون وواضعي السياسات، والقضاة وغيرهم من المهنيين في النظام القضائي، يعتمدون على استطلاعات الرأي لوضع قوانين واتخاذ القرارات، ويزعمون بأن المجتمع سوف يتمتع – نتيجتها – بحماية أفضل. والسياسي يستثمر الرأي العام، والصحافة في مسعاها لصناعة الرأي العام، تخدم السياسي قبل كل شيء. لذلك لا غرابة في أن تتلقى منه الدعم.

————————-
8-Patrick champagne ; Faire l’opinion, le nouveau jeu Politique, Ed , minuit ,1991


الكاتب : الأستاذ محمد أحداف المحامي

  

بتاريخ : 24/09/2020