أبــــــواب لا تغلـــق

 

في مؤلفه الأخير « جرح في عضو رجل « يستعيد الأستاذ أحمد أمل عوالم صمويل بكيت بصيغة إشكالية، تعيد التأمل في دواعي الانتظار وتداعياته، سفر آخر في مجاهل الانسان، يتناظر خلاله الواقع والأحلام، ما يتراءى لنا ليس هو ما نراه، في تركيب يمزج بين الواقع وتداعياته.
فمن خلال حوار مباشر مع أشهر شخصيات الكاتب الايرلندي، المتفرد في أسلوبه ومنهجية تناوله لواقع الانسان عموما والغربي على الخصوص، في ظل التحولات التي رفعت من إيقاع الحياة، وأرغمت الناس على الانكفاء والبحث بشكل مضطرب عن مخارج ذاتية لتحقيق التوازن، وضبط إيقاع التواصل والفعل الخلاق.
يفاجأ أحمد في منتصف الليل بطرق عنيف على باب بيته. يغالب تردده الفاتر ويفتح الباب ليجد نفسه وجها لوجه أمام زيارة غرائبية شلت كل مداركه فلاديمير واستراكون يقتحمان وحدته، مخلوقات صمويل بيكيت الإبداعية، جاءا ليبثاه شكواهما وغضبهما مما ورطهما فيه كاشف عوالمهما وصانع مجدهما. استقبلهما بعد أن تغلب على توتر إدراكه واشمئزازه من منظرهما، جاذبهم الحديث بتقزز من منظرهما، ليكتشف دواعي زيارتهما وما ينتظران منه. استطابا مقابلته ودعوه لمرافقتهما إلى بيت صمويل الذي ينتظره بشوق كبير. مؤكدين على أنه في حاجة إليه ليفصل بينه وبين مخلوقاته المتمردة، التي خرجت عن طوعه، فقد أعيته كل المحاولات ليقنع مخلوقاته أن «كودو» لن يأتي وأن ما ينتظرانه ضرب من السراب. يرفضان كل توسلاته في أن يكفا عن مواصلة السير في اتجاه لانهاية له. طال جدله معهما واشتدت حيرته. فبقدر ما اتسعت المسافة بين يقينه ووثوقهما، يزداد تورطه في عوالمهما، وتعجز كل بياناته عن تفنيد ما يدعيانه، فالانتظار حالة إنسانية عميقة بلا غاية محددة المعالم، مسار حياتي يعطي معنى للآتي من الأيام، تلك قناعتهما فهما لا يعيشان تيها أو يتطلعان إلى سراب، إنهما ينتظران القادم من الأيام بما يزخر به من إشراقات وأحلام. شعور يعينهما على تجاوز اللحظة التي هما فيها ويحد من هول المسافة بقدر ما يوسع معابر الأحلام. في لحظة انتبه أحمد إلى ساعته فوجد عقاربها ثابتة لا تتحرك، حاصرته عقارب الزمن، فاهتدى لمعالم روحه يستشف ما تخفيه من أشجان « كم يعز علينا أن نرى إنسانيتنا تتمرغ في الوحل. وتكابد. وكم يعترينا الانتشاء حين نرى أبناء جلدتنا تعساء. الواحد فيهم يعيش مأساته. ننتشي حين نراه في مواجهة قدره الذي يعاكسه. فكرة أن ترى غيرك يعاني دون أن تعاني، تعين نفسيتنا على التوازن.» هكذا استعاد أحمد استقراء ما يعتمر بدواخله، وامتد عميقا في تأمل ما يدنيه من عوالم غيره. استساغ ما أصبح يحيط به واهتدى إلى ما يحقق استمرار وجوده في حياة الآخرين. اكتشف عجزه عن يأتي بحقائق لا تشوبها شائبة. تتسع دائرة تأمله بعد أن استقبل في دورة نفس الزمن استرسياس، الأعمى الذي يحيط بخفايا كل العوالم . رؤية أخرى وسعت مجال إدراكه وأخرجته من عالمه المغلق الرتيب. لم تمنع الاعاقة البصرية استرياس، من أن ينظر إلى ما وراء التفاصيل المعروضة وحيثيات تواترها. يتأكد الجميع أن الآتي مختلف، لحظات متباعدة لا يدنيها ولا يحد سماتها، المنتظر لحركة عقارب ساعتها.
استعادة عوالم صمويل بيكيت، كان بغاية التأكيد على أن الزمن لم يغير سمات بعض المظاهر الحياتية التي تجعل المرء مشدودا إلى ما لا يراه، تغويه مجاهل المستقبل أكثر مما تلهيه تفاصيل الحاضر. فالانتظار وإن اختلفت أشكال تداوله وأبعاد مراميه، يعطي معنى لوجود مأمول وطافح بما هو أفضل. إصرار على اليقين بأن القادم يفتح أكثر من آفاق. عقارب الساعة لا ترفع من إيقاع الزمن ولا تسم اللحظات بما يضفي على الوقائع دلالات الاكتمال. لكنها تحصر معنى الوجود من حيث ازدواجية معالمه. ينساق أحمد لتواتر الأحداث، ينخرط في عوالم فلادمير واستركوس ، يستنفر كل طاقاتهما لتجاوز لحظة الإحباط ، لإذكاء رغبتهما في مواصلة انتظار «كودو» أملهما الوحيد في تحقيق معنى لوجودهما. لا ضير في أن يهديهما إلى حلحلة الزمن، ودعمهما لمواصلة التمرد على من سوى صراطهما ومدهما بما يجعلهما مخلوقات تختلف في تدبير أيامها. أحيي فيهما طاقة مواصلة الانتظار، بعد أن استدرجهما أبله الحي ليعودا رغما عن صمويل إلى محراب الآمال واليقين في أن أيامهما ستعرف ما يدعوهما لمواصلة الحياة. حالة من الوثوق تملكتهما، جعلت أحمد منغمسا في لحظة مكاشفة مع ذاته : «حاولت التوجه إلى الطواليط لأتأكد من وجهي هل ما زال وجهي هو نفسه الذي أعرفه، وهل مازال في مكانه؟ أم هناك من غير صورته ومكانه؟» يحاول أحمد في لجة الاستفهام أن يفصل عالمه عن عالم مخلوقات تختلف في قوامها ومسار تطورها. لا يشبهها أو لا تماثله. التبس عليه الأمر واهتدى إلى لحظة الخلق من جديد والهبوط من السماء إلى الأرض، لتكون للحكاية بداية بلأفق مفتوح على أكثر من سؤال « أريد أن أفهم ما يجري أمامي. هل أنا أقرأ كتابا؟ أم أنني في حلم طويل؟ أنا لا دخل لي في كل هذا.» تتسع دائرة ردات الفعل من غير أن تفسح المجال للحد من تواتر قلق وجودي يزكي الاعتقاد بنهاية « عصر الانسان المجروح في عضوه وحل إنسان آخر بدون جرح» هل هي حقيقة أم أضغاث أحلام؟ يختار أحمد أن يخطو نحو اللا مرئي ليمتد فينا السؤال.


الكاتب : أحمد حبشي

  

بتاريخ : 31/10/2022