أحد عشر يوما هزت العالم: نقد لبؤس النقد 2/2

(2)

أولا: جميع تجارب حركات التحرر الوطني المسلحة لم تلحق بالمستعمر الهزيمة العسكرية الماحقة، كالهزيمة التي لحقت بالجيش والدولة اليابانية أو الالمانية، لأن هدف حركات التحرر الوطني محدود في تحرير أرضها، بعد جعل الاحتلال مكلفا للمحتل سياسيا وماليا وقتاليا، وبما يجعل استمراره غير مجز للمستعمر نفسه. أما التفوق العسكري للمحتل في إجماله، فانه يبقى كذلك ، وإنما للعوامل السابقة، بما فيها نمو تناقضاته الداخلية المناوئة لاستمرار الاحتلال، ونمو عزلته الخارجية لنفس الهدف، يغدو تفوقه العسكري الاجمالي مشلولا أو عاجزا…لم يحتل الفيتناميون نيويورك ولا باريس، يهشموا جيشهما وقدراتهما التكنولوجية، التدميرية المتفوقة، لكنهما هُزما في معارك محددة، كلفتهما سياسيا الغالي والنفيس.
وفي الحالة الإسرائيلية ذات الخصوصية الاستيطانية، الأقرب لحالة اللأبارتايد، مع الفروقات الكبيرة أيضا، فإن نفس القانون يبقى ساري المفعول، بما يجعل التكلفة السياسية والمالية والقتالية، وما تفشيه من تناقضات داخلية وخارجية، فائقة الضرر على استمرار الكيان الاسرائيلي على ما هو ككيان يهودي مغتصب استيطاني اقتلاعي وناكر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
ولأن اسرائيل مبني تلاحم كيانها على اطمئنانه لتفوقه العسكري ( ولدعم الغرب والولايات المتحدة أساسا) ، وبتعبير أحد الباحثين “في اسرائيل جيش له دولة وليس دولة لها جيش ” فإن القيمة الاستراتيجية للكفاح المسلح الفلسطيني، أنه يضرب في الصميم عصب اطمئنان وتلاحم الكيان الصهيوني. ودائما علينا أن نأخذ هذا الكفاح في تطور قدراته القتالية في المدى البعيد، لا كما كان بالأمس ولا بحدود ماهو عليه اليوم، كأي تجربة مسلحة أخرى في السابق. ومن هذه الوجهة، فإن الصورة الختامية لهذا الصراع، ستكون أقرب إلى تفكك الكيان من داخله، أكثر مما ستكون إحتلالا للأرض قطعة قطعة وصولا إلى العاصمة، كما حدث في الفيتنام على سبيل المثال. توزيع الكثافة السكانية الفلسطينية على الأرض يفرض منطقه في هذه الخصوصية. واذا كان فلسطينيو 48 مفروضا عليهم لأقليتهم النضال السلمي، و كانت غزة اليوم منصة الكفاح المسلح، فلا أستبعد مطلقا أن تنضاف إليها الضفة الغربية، للكثافة السكانية بجوار أقلية مستوطنة تضخمت أعدادها. ناهيك عن أن مشروع المقاومة المسلحة سيأخذ أبعادا إقليمية من محور أعلن عن هذا الاختيار إذا ما تمادت إسرائيل في تهويد القدس. لن أستبق الأحداث، لكنه من هذه اللحظة يشكل قوة قتالية هائلة ضاغطة على إسرائيل (وعلى حلفائها) في حرب مقبلة لم تعد أي بقعة في إسرائيل ناجية منها، كما كانت في حروب نظامية سابقة. وفي الخلاصة التفكك الداخلي للكيان الإسرائيلي هو الأكثر رجحانا بما يعنيه من هجرة إسرائلية معاكسة ومن إذعان البقية لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. ولا عجب في ذلك، فكم من الإمبراطوريات كانت في أزمنتها أقوى بما لا يقاس و إنهارت من داخلها.
ثانيا: ما يتجاهله الحاقدون والمصابون بالنرجسية الثقافية المتعالية، أن الصراع التحرري في أي مكان، يحكمه دائما ما يمكن لنا وضعه في مرتبة “القانون”، ومؤداه، التفاعل بين قوة الإرادة، وهي السابقة والمسيطرة في مرحلة الاختلال الكبير في ميزان القوى، وبين احتساب التراكم العقلاني لإحداث التغيير في تلك الموازين. ودائما يحاول العدو، في مراحل التطور، في النضال السلمي أو المسلح، و مادام ميزان القوى مختلا إلى حد كبير لصالحه، أن يكبد الحركة التحررية أضخم التضحيات البشرية من جسمها أو من بيئتها، لكي يكسر إرادتها التي هي أقوى سلاح لديها في طور النشوء والتكون، ولكي يئد تطور موازين القوى في المهد. فكيف إذن يتم الجمع والتفاعل بين الارادوية والحساب العقلاني لموازين القوى؟ من بين العوامل العديدة، ثمة معياران أساسيان:
المعيار الأول استراتيجي، يستهدف الحرص على أن تفضي كل معركة تخوضها الحركة التحررية إلى تنمية الوعي والالتفاف الشعبيين حولها، وحول أهدافها الاستراتيجية. كسب ثقة الجماهير ودعمها، وتنمية وعيها ومبادراتها نحو الأفق الاستراتيجي هو المعيار الدائم والحاسم. وهو الفارق النوعي بين الإرهاب والعمل المسلح التحرري.
والمعيار الثاني تكتيكي، بالحرص أيضا على أن تضع الحركة لكل معركة أهدافها المحددة القابلة للإنجاز في الميدان القتالي والميدان الشعبي. أهداف محددة تتناسب مع موازين القوى العامة ومع الاستعدادات الشعبية.
واذا قايسنا هذين المعيارين على معركة “سيف القدس” لتطابقا عليها بنجاح غير مسبوق، سواء لجهة التفاف جميع الشعب الفلسطيني من أقصاه إلى أقصاه، وبكل أجياله وفصائله ومناطقه وشتاته، وبلا استثناء، وباستعداده وإرادته الطوعيين للمقاومة والصمود والتضحية… ومن حيث تكامل أشكال نضالاته الشعبية المدنية والمسلحة، بلا تعارض بينها جميعا. وسواء لجهة الأهداف المتوخاة من المعركة في ردع تطاول العدو على بيت المقدس وعلى التهجير المخطط له للفلسطينيين ولتهويد القدس عامة. ومع اتقان استخدام القوة الصاروخية ببراعة أعجزت العدو بكل تفوقه المخابراتي والعسكري أن ينال منها، فضلا عن كل الخسارات المادية الأخرى التي لحقت به، وأخطرها عليه، الأزمة الوجودية التي يتسع الإحساس والوعي بها، بعدما تبين أن لا قدرة للجيش على الاجتياحات البرية السابقة، وهي الفاصلة في أي نصر عسكري، وبعدما أضحت جغرافية اسرائيل ومؤسساتها جميعا عارية أمام ضربات المقاومة، اليوم بسلاح وغدا بأقوى منه. وأن يلجأ نتنياهو ووزير الدفاع وغيرهما الى تقديم حصيلة كاذبة ومفضوحة عن منجزاتهم في هذه المعركة لاستعادة ثقة الكيان في نفسه وفي قوته، واحدة فقط من دلائل أخرى عمن انتصر في هذه الجولة، كما تسميها المقاومة، وعمن خسرها. ومن بين تلك المكاسب أيضا، عودة القضية الفلسطينية الى صدارة الاهتمام الدولي والعربي والإقليمي، اهتمام تميز عن سوابقه بدعم وتعاطف الشعوب قاطبة بما فيها ظهور حركة قوية ومتنامية من داخل الولايات المتحدة وبريطانيا الحليفين التقليديين لإسرائيل. عودة إلى المجتمع الدولي خسرت وتخسر فيها اسرائيل ما بنته خلال عقود من تجميل لصورتها البشعة… ثم هي عودة أغلقت الأبواب أخلاقيا واستراتيجيا أمام كل دعاة التطبيع والهرولة إلى سلام الإذعان والانتهازية اللامبدئية بالضرورة.

(3)

في الفقرة السابقة، وجدت نفسي كتبت أربع صفحات في تحليل ما ورد فيها من مكاسب، اكتفيت بالتلميح اليها لضيق المجال، ولتداولها الواسع والمتوفر من قبل مؤيديها. واختصارا لها جميعا، أجزم وبلا تردد، أن ما تحقق للقضية الفلسطينية من مكاسب كبرى وعلى جميع المستويات فاق ما أهدرته عقود من الجنوح إلى الدبلوماسية والمفاوضات والتوكل على كسب الولايات المتحدة وانتظار ان يجود علينا المجتمع الدولي من عنده باعتراف وتطبيق لمقرراته، وبلا أدنى الادنى من قوة الفعل والضغط وصولا إلى أن التطبيع هو الحل. أحد عشر يوما كانت كافية لتغيير الأوضاع ولتهز العالم. ولي الثقة الكاملة في أن الشعب الفلسطيني بجميع فصائله قادر على تثبيت المكاسب واستثمارها سياسيا على أحسن وجه. وما يمكن التشديد عليه ومن الآن أن لا أولوية أخرى، عاجلة وفورية غير إعادة بناء الدور القيادي المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، بعد أن استعاد الشعب الفلسطيني هويته الوطنية الموحدة، ومع التجديد المطلوب لهياكل المنظمة لكي تستوعب جميع الفصائل وممثلي المجتمع المدني وجيل الشباب الصاعد وفلسطيني الداخل. وعلى برنامج سياسي جديد يستعيد التواصل الحي والواضح، السياسي والدعائي والعملي بين الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة، كما كانت في البرنامج الوطني الأصلي، وبين الدولة في حدود 67 مع تلازمها الدائم بالقدس الشرقية عاصمة و الحق في عودة اللاجئين. ولأن الصهيونية الإسرائيلية ترفض بالقطع الحلين معا، وتعتبرهما ضربة قاتلة لمشروعها الإستيطاني العنصري، سيكون من الوارد حتما تعليق منظمة التحرير الفلسطينية إعترافها بدولة إسرائيل إلى أن تعترف مسبقا بالدولة الفلسطينية وبحق تقرير المصير وبعودة اللاجئين. وهذه قضية ستحتاج في المستقبل لتحليل مفصل لكيفيتها وخطواتها وتداعياتها على جميع الصعد.

(4)

وبالعودة الى “بؤس النقد”، فالقارئ سيلاحظ، لا محالة بياضات الغياب في ما يكتب من أدبياته. والسمة العامة لهذه البياضات، الهروب من الأسئلة الدقيقة التي تحملها الأوضاع العالمية والإقليمية للمنطقة العربية، ومن تم استشراف مستقبلها والبناء عليه. فالحدث الفلسطيني اليوم لا ينفصل بتاتا عن التغيرات الحادثة على المستوى العالمي والاقليمي لو فعلوا، لأدركوا أن الأوضاع على جميع المستويات تتغير وفي الزمن المنظور لصالح قوى التقدم. ومن بينها أن هيمنة الولايات المتحدة والنيوليبرالية دخلتا في مرحلة التراجع والانكماش عالميا وفي داخل أوطانها. وأن ايران على المستوى الاقليمي، والتي يشبعونها شتما، قد بنت قوتها الذاتية، وهي على أبواب الخروج من أسوار التخلف، وسواء نجحت مفاوضات النووي، وهذا الارجح، أو فشلت، فإن الخاسر في الحالتين الولايات المتحدة ومن يقف الى جانبها. وأن المصالحات الجارية بين دول المشرق العربي، وفي المنطقة عامة تحسبا لهذه التحولات، هي علامة على طي صفحة دامت عقودا من الهيمنة الرجعية، وبداية صفحة جديدة لعودة المد القومي التقدمي، ومن بين البياضات الأخرى، هروبهم أيضا من أسئلة التحديد العيني المقارن بين الوضعية التي كانت عليها القضية الفلسطينية وبين الآفاق المتقدمة التي خلقتها هبة الشعب الفلسطيني والدور الطليعي للكفاح المسلح في نضالاته الجمعية.و كدلك لا نجد في أدبياتهم ما يشي أنهم أدركوا خلاصات التجربة العربية عموما، من ليبرالية التخلف للسادات مرورا بشبيهتها في انتكاسة ما سمي بالربيع العربي، سوى أنهم يهربون إلى تلفيقية فجة، أو إلى عموميات مسبقة تذكر بدروس استنساخية ليبرالية ابتدائية عن الاستبداد والحداثة قرأها وتعلمها الجميع، وكأننا في “كهف إفلاطون ” لا نرى إلا الظلال والأشباح لعالم المثل، ولا نرى الحقيقة، وهي هنا، الحقيقة الماديانية الموضوعية. امتياز الفكر والممارسة السياسيين الراديكاليين عما عداها من أنواع الفكر والممارسات، أن شغلها الشاغل الإمساك بجدلية سيرورة الوضع الراهن، وإلا ضاعت الممارسة وانعدم مسعاها في التغيير الجدري. لو نطق هؤلاء بهذه المنهجية، لا كتشفوا جميعهم، من عشاق التجديد، ومن الحاقدين ذوي الأفكار المسبقة، ومن المصابين بالنرجسية التقافوية المتعالية، ومن الليبراليين الاستنساخيين، أنهم لم يأتوا بأية إضافة ذات قيمة تقدمية، سوى تفجيرهم لقنابل دخانية تعمي الأبصار… ولهذا هم لا يخجلون من أن اغلب ما يقولونه يتقاطع مع ذات ما تقوله إسرائيل والمشاريع الامبريالية والرجعية في المنطقة، أفلا يعقلون أم أن رؤوسهم مضربة عن التفكير!.

 


الكاتب : محمد الحبيب طالب

  

بتاريخ : 15/06/2021