الشاعر بقصيدة على الأكثر ،وإن كان الكمّ يولّد الكيف،والمُراكمة تُجوّد التجربة،في مذهب السواد الأعظم ممّن تعنيهم في الصميم عوالم الغاويين فينكبّون على ما تجود به قرائحهم وتتضوّع به ملكات إبداعهم، دراسة ومعالجة وتمحيصا، يحيكون النظريات الموضوعية الجادة تحرّضهم هواجس الرقيّ بهذا الفن التعبيري الضارب بجذوره في عمق التاريخ البشري.
وهكذا نجدها تثبت لنا ،دورة القصيدة في تطوّرها وحمّى تسارعها صوب أشكال جديدة، كيف أنّ العبرة ليست بوفرة الدواوين وتناسل العناوين، بقدر ما هي متجسّدة ،وتكاد تُختزل في القصيدة الرافعة أو القصيدة الاسم أو القصيدة العمر، كما هو معروف لدى كوكبة شعراء الخلود، نذكر من بينهم وعلى سبيل المثال لا الحصر، صاحب الأنشودة الخالدة ( إرادة الحياة)، العظيم أبو القاسم الشابي.
أردت فقط أن أشير إلى حقيقة جوهرية يغفل عنها أو يتناساها الكثير من النقاد في زمننا المدان نصّا ونقدا، تكمن في كون كنوز الشعر الجمالية ،ربما تُقطف من أسطر معدودة يصطدم بها كلّ مهتم بهذا الصدد، على نحو من العفوية وبمعزل عن حقول سحر الفخفخة الإعلامية التي ترجّح أسماء بعينها على أخرى،مكرّسة بذلك لثقافة رجعية تمنح عمرا إضافيا غير مستحقّ لــ « ديناصورات»عاثت في المشهد تطفلا ولصوصية فهي تأبى الأفول والانقراض.
وددت القول أني ولمجرّد مطالعة أقل من قصيدة للشاعر المغربي المتألق أحمد الحجام، أسقطت من حساباتي روح الديوان ،وأقبرت في جمالية ما قرأت رغبة البحث في كمّ أو مجاميع ما الرجل أبدعه، فاقتنعت أنه لا داعي لذلك ما دام النزر اليسير يفي بالغرض فيشوك بعتبات إعجازه.
ركضت عاشقا وراء الملامح الأولى لبضع من نصوصه،فأيقنت أن الشعرية بالقلب الثرثار إذ ينوب عن لسان الشاعر، فيقلص إلى حدّ بعيد من الهفوات الإبداعية التي قد تغرق الذات في حياة الفقاعات والزبد، ما يتسبب بالنهاية بقذف سير شعراء الواجهة أو الساحة المخدوعة، في مزابل التاريخ.
ومن ثمّ ، مسبّة مسيئة إلى ديوان العرب ومغتصبة لسمعته، بل أزيد وأقول وأكتب بالخطّ العريض: حياة تشبه الموت فقط هي ما يستر مندسين من هذه الطينة التي عبثا تحاول أن تغطّي مسيرة الإبداع الطويل المزعوم بثرثرة خارج حدود القلب.
هو شاعر وإن لاذ بالكتابة الذهنية في كثير من الأحيان،تبقى معاني الذات والحياة من منظوره خاضعة للمقاسات المصبوغة بعطر الأنفاس الرومانسية،ومجدّفة وفقا للتيار القلبي الذي يوازيه دون أن يقطعه العبور الواعي، لكأنما الفعل الإبداعي في مجمله،نوبات لروحانية متوهّجة تفرض حضورها، وهي تعرّي لحظة مجابهة المتلقّي ، حين تشمها بجملة ما يغرقها في التصوير الفني الممجّد لوظيفة القلب الإبداعية، والمصلّي حدّ تذوّق معسول الشهادة، للمنتصب من أوثان في هذا الحيّز الضئيل المعجز والمنكفئ على سنابل رمزيته الدافقة،على نحو يسمو بالثرثرة فيمنحها فوقية الجلال حتّى لتغدو أغوى من القول الكامل المستقطر من عناقيد الصمت غازيا ثنايا وأدغال البياض.
فلنفكك ترتيب هذه الومضات أولا:
[طاعنٌ أنا..
في السنّ أو في الرّملِ سيانْ
وتد الشّروق ..أنصب سرداق الكلْمة الظّليلهْ
فوق تلْك التّلال..
بين نهدي الحلْم الجذلانْ
أقيمُ عقيقةً للقصيد تنداحُ راضيهْ
سيمفونية لسحر الموج
على شواطئ التحنانّْ].
………………
[ياهْ ! وَاقفةٌ بِسَاقٍ واحدَةٍ
كُلّ هذِهِ السّنين !
تُرَى أيْنَ تُخْفِي الشَّجَرةُ
سَاقَهَا الأُخْرَى].
[عندمَا أعُودُ وحيدا بدوني إلي
أفرغ الزجاجة المغشوشة في جوفي
و ما تبقى من حطام مالح
فوق مائدة الصمت
كم مساء تضمحل أساريره
بين الجعجعة و الغبار
وراء الباب كنت أنفضه
عن ذيول أعذاري].
……………..
[سأرمي سلالي
في لُجّ الخلوات ،
لأجمع لؤلؤ البوح
و دمقس السكرات ..
سأنوس لْبْلابا ،
يُفيّئ بالبراعم
رمضاء الأصول ..
اشتعلي صديقتي الكلمة
سنونو يغالب وسْن الأفق
ساعة الأفول].
…………………
[آن لِي أنْ أُرَتّبَ فوْضَى العُمْرِ
و أُصَفّفَ ما اشْعَثَّ مِنْ خصْلاتٍ
في فَرْوَةِ النّسيَانِ
فَقَرِيبًا .. قريبًا تَأْتِي الرّياَحُ خِماصَا
كَمَا أنْبَأَتْ ذَاتَ ليْلٍ عرَّافًا
بُومَةُ نتَفَتْ رِيشَهَا مِنْ هَوْلِ الخَبَرْ
وَ طَوِيلًا ما أنْذَرَتْ سَامِقَاتِ النّخيل
وَ عَرَاجِينِهَا السّائبهْ ].
…………………
[مِنْ عَلَى الخدّيْن أُخْمِدُ جمْرَهَا
أفرِغُ جُيُوبِيَ الرّثّةَ من خطاياهَا
و أُعْلِنُ صَفاءَ الطويّهْ
فَهَذَا التّيهُ لِي
هو الإسمُ ..و العُنْوانُ].
……………….
[سأرمي سلالي
في لُجّ الخلوات ،
لأجمع لؤلؤ البوح
و دمقس السكرات..
سأنوس لْبْلابا ،
يُفيّئ بالبراعم
رمضاء الأصول..
اشتعلي صديقتي الكلمة
سنونو يغالب وسْن الأفق
ساعة الأفول..].
تأسيسا على ما ذكر، نلفي صاحبنا وقد فطن إلى ممارسة ينسج خيوط غوايتها القلب فينقش المختمر في الذاكرة معاودا صياغته وتقديمه في فرو جاذب تتسربل به الذات فتزهو ببروزها البكر الذي يحجب سائر ما سبقه.
بحيث تغتصب على يديْ هذا الشاعر المختلف، بياضات الهامشي والطرفاوي والمعطلّ ومنظومة ما هو قصي وسارب في تجاعيد الماضوية الغائرة في الجرح النرجسي وقد أذن بفصول اشتعاله الكامل، كي يدوّن هذه الاستثنائية الوقف على الثرثرة القلبية مثلما أسلفنا.
بالتالي نجد شعرية تحتمي بمثل هذا الخطاب،تناور على حدود فلسفة وأد إكراهات الراهن وتجفيف كدماته باعتماد معجم الإسراف في تنشيط ذاكرة المحو، وبعث عناصرها الرّميم،ومنحها ولادات ثانية عاكسة لرؤى الأنوية والغيرية والكونية، ومكرّسة لمعاني حياة التحوّل المستمرّ،أو أللاستقرار المغدق بمحطات لا تتشابه وغير مكرورة تتيح للذات انفلاتاتها الهذيانية وتهبها مِنح أو معطيات التقلبات القِنَاعية الهامة والضرورية لامتصاص وجع نرجسي فائض عن الحاجة.
تجربة تستمدّ ثراءها وقيمتها من مدى قدرتها على تفجير حيوات ناسجة لمعاني مغايرة في مقاربة مفاهيم التصالح الذي تكون نواته الذات في ممرّ سري إلى ما يحيط بها ويكمّله.
تحقيب يُسجّل بالدم لا الحبر فقط، صاعقا بدوال الانسلال من الآني الكئيب بغرض التوغّل في مستويات استعراضية وأدائية لذاكرة تغربل تفاصيل جراحات عتيقة،فتسكب من ذات العري والشك والقلق، في قصائد محمولة على روح النكوصية والعودة على ما هو جواني بالتمام وأشد التحاما بجبّ الأنوية ، معلنة ضربا من مشاكسة ومناهضة لمصيرها المهزوز والذي لا تمتلك سوى أن تتحسّسه بصوت شاذ جميل، داخل السّرب العاقّ أيضا،و على تردّدات نوتة وجدانية لا تتقيّد بعنجهية المكان أو تعترف بحدود الزمان، إنّما تسكب من مرارة النرجسي في شرايين النص خارج الأشكال والأنساق التي قد تثقل على جوانب الرّسالة ، أو ترهق مشهد التجريبية الإبداعية بصور مشوّهة تحدّ من نزيف الذات المختنقة بذاكرة انتكاسية تسمو بالكتابة مثلما تحاول أن ترويها سيرة تأبى إلاّ أن تتجاوز الذاتي والحياتي بظلالنا الهاربة.
شاعر وناقد مغربي
أحمد الحجام شاعر يكـــتبه القلب الثرثار
الكاتب : احمد الشيخاوي
بتاريخ : 07/09/2018