أحمد بن إسماعيل.. سارد روح مراكش عبر الضوء والظل

في حفل تكريمه بمراكش .. مثقفون ومبدعون يقدمون شهادات في حق المحتفى به

 

في أمسية تكريمية حافلة بالفن والإبداع، احتفت مدينة مراكش يوم الخميس 29 يناير 2025 ،بواحد من أبرز أبنائها، الفنان التشكيلي والمصور الفوتوغرافي أحمد بن إسماعيل.
أقيم الحفل في رياض الشريفة، شاهدا على مسيرة فنية حافلة بالإنجازات، أضاءت بها المدينة وأثرت المشهد الفني المغربي.
لطالما كانت مراكش مصدر إلهام لا ينضب للفنان بن إسماعيل، فمن خلال عدسته الساحرة، تمكن من توثيق روح المدينة العتيقة بكل تفاصيلها، من أزقتها الضيقة إلى أسواقها الصاخبة، ومن معالمها التاريخية إلى وجوه سكانها الأصيلين. صوره بالأبيض والأسود، التي تعكس روحانية المدينة وجمالها الخالد، باتت شاهدا على حقبة زمنية، وأيقونة للفن المغربي.
لم يقتصر اهتمام بن إسماعيل على توثيق المدينة فقط، بل امتد إلى توثيق شخصياتها البارزة، من أدباء وشعراء وفنانين، إلى شخصيات شعبية تركت بصمتها في تاريخ المدينة. بفضل عدسته، أصبح لدينا أرشيف ضخم من الصور التي توثق لحظات مهمة في تاريخ مراكش، وشخصيات صنعت مجدها.
تكريم الفنان أحمد بن إسماعيل في رياض الشريفة بمراكش اعتراف بمسيرته الحافلة بالإنجازات، وتقدير لدوره في إثراء المشهد الفني المغربي.
لقد أثبت بن إسماعيل أن الفن ليس مجرد هواية، بل هو رسالة سامية، وأن الفنان الحقيقي هو الذي يستطيع أن يرى العالم من زاوية مختلفة، وأن يقدم لنا رؤيته الخاصة به.
شكل الفنان أحمد بن إسماعيل أيقونة للفن المغربي، ورمزا للإخلاص والتفاني في العمل. إن إرثه الفني الثري سيظل يلهم الأجيال القادمة من الفنانين، ويشكل مصدر إلهام للجميع.
الاحتفاء بالفنان التشكيلي والفوتوغرافي أحمد بن اسماعيل، كان مناسبة للعديد من الأسماء المبدعة في شتى المجالات من رفاقه الذين آمنوا بموهبته وإبداعه، لتقديم شهاداتهم في حق المحتفى به.
في هذا المجال، يقول جعفر عاقيل فوتوغرافي، أستاذ جامعي متخصص في الفوتوغرافيا رئيس الجمعية المغربية للفن الفوتوغرافي ،لقد حرص بن إسماعيل في إطار اهتمامه، على تصوير فضاءات وبيوت وأزقة وحيطان وكل معالم المدينة العتيقة لمراكش، وكرس لـه هـو الآخر وقتا لا يستهان به. إن ما يميز هذه العودة إلى الأصل وهذا الاهتمام بالمنبع ليس محركه إحساس عاطفي أو نوستالجيا أو رغبة ذاتية عابرة، وإنما هو نابع من تفكير هاجسه الأساس هو الوفاء للذاكرة والشعور بالواجب تجاه مدينته أي ، مدينة مراكش الأيقونة،
التي وشمت ذهنه ومخيلته وأفعاله وكل حياته بتاريخها وثقافتها وأناسها ، وأكثر من ذلك بصمته بعبقها .
ورأى أن ألبومه الفوتوغرافي المعنون بـ “ضوء الظل جولة في سيدي بن سليمان الجزولي” ، هو سرديات فوتوغرافية تجسد بحدسها وإحساسها وأسلوبها الفوتوغرافي هذا العشق الأبدي للمدينة العتيقة لمراكش ويضيف جعفر عاقيل ،أن المتصفح لصفحات هذا المؤلف، الذي كتب نصوصه الراحل إدمون عمران المالح، تتلقى عينه سلسلة من اللقطات الشاعرية التي توقد في نفسه تاريخ وذاكرة حومة سيدي بن سليمان الجزولي
الضاربة في الزمان والمليئة بالإيحاءات وبالدلالات. إنه تحيين بصري لتاريخ هذا المكان ولأكوانه الثقافية. وكل ذلك من خلال استعمال بليغ المفردات الصمت والضوء والظل .
ويقر جعفر عاقيل بأن فوتوغرافيات بن اسماعيل، لا تخاطب مشاهدها بلغة مُسننة ، وإنما هي دعوة مفتوحة للتأمل في سكينة هذا المكان وقدسيته. إن اللغط والكلام الزائد وكل أنواع الضجيج الذي عودتنا عليه الفوتوغرافيا الكسولة ، يتوارى في هذا الكتاب تاركا مكانه للمدى .
ويضيف في شهادته قائلا:” إن هذا الفيض الفوتوغرافي الذي تمتعنا به فوتوغرافيات مبدعنا هو بالنسبة لمن يعرفون بن إسماعيل عن قرب سوى امتدادا طبيعيا
لشخصيته المسكونة بحرقة السؤال والمهووسة بالبحث عن معرفة أسرار الأشياء والمعروفة أيضا بإنسانيتها الصافية وبصدقها الخالص وتلقائيتها الطفولية ومرحها المتدفق”.
ابن إسماعيل الفوتوغرافي المدوّن،بهذا الوصف تم تعريفه، إذ تميزت الفوتوغرافيا الفنية المغربية المعاصرة بالتنوع في المواضيع والتعدد في الرؤى والثراء في الحساسيات. وقد تعاقب على إنجاز هذا التراكم الإبداعي أجيال من الفوتوغرافيين تفننوا في أكثر من مناسبة، في تنويع الأجناس وتجريب الأسناد واختبار المقاربات ، وكل ذلك بهاجس واحد هو المساهمة في توطيد لغة فوتوغرافية محلية والقطع مع الإرث الفوتوغرافي الاستعماري وكذا مع فوتوغرافيا الكليشيهات عموما .
في إطار هذا النقاش الفكري والفني، يمكن تأطير المنجز الفوتوغرافي لأحمد بن إسماعيل . لأنه هو الآخر سيسهم في تفعيل هذه الدينامية مع بداية تسعينيات القرن الماضي، وذلك باشتغاله على تأطيرات وانتقائه لزوايا نظر تجسد هیآت ووضعيات وحالات تفوح
بالحياة المغربية في أبهى إنسانيتها . بعبارة أخرى إنجاز فوتوغرافيات بحس فني والتزام ثقافي ووعي تاريخي.
لقد انخرط بن إسماعيل، إلى جانب فوتوغرافيين من جيله في إثارة كومة من الأسئلة من قبيل ما معنى جوهر الكتابة الفوتوغرافية ؟ وكيف يمكن للفوتوغرافي أن يكتب ، بنظرته الفوتوغرافية، تفاصيل الحياة اليومية المغربية ؟ ثم ما هي العُدة واللغة الفوتوغرافية التي على الفوتوغرافي امتلاكهما ؟ وقبل ذلك أية فوتوغرافيا قادرة أن تمثل الذات المغربية ؟ وما هي الجدوى من الفوتوغرافيا في زمننا المعاصر ؟
لتلمس إسهامات بن إسماعيل بخصوص هذه الأسئلة وأخرى يمكن تقسيم منجزه الفوتوغرافي ، الموزع ما بين البورتريه والربورتاج الفوتوغرافي، إجرائيا إلى سجلين . الأول، حقق فيه صاحبنا تفردا وريادة، وذلك من خلال توثيقه لوجوه مغربية وأخرى أجنبية أسهمت في كتابة تاريخ الحركة الثقافية والفنية بالمغرب.
هذا الاختيار الفوتوغرافي، سيمكنه من تأليف خزانــة فوتوغرافية متنوعة شاهدة على تظاهرات إبداعية وملتقيات فكرية وعروض شعبية وخاصة وجوه مبدعين ينتمون لأزمنة تاريخية والحقول معرفية والفئات اجتماعية متباينة .
ما يميز هذا العمل الأرشيفي الهائل هو نفاذ كاميرا الفوتوغرافي إلى جوهر ذات الموضوع المُصوّر من خلال إبراز انفعالاتها ومزاجها وخاصة انشغالاتها الفكرية. بعبارة أشمل، نجاحها في تقريب المشاهد من عوالم ذات الموضوع وهو اسها؛ وتلك مهمة لا يتقنها إلا العارفون بخبايا تلك المرآة الساحرة وانزياحاتها .
أما الفنان عزيز أزغاي، فيقول في شهادته في حق أحمد بن اسماعيل،أن اسم هذا الأخير يحضر في خريطة الثقافة المغربية باعتباره مبدعا بأكثر من قبعة . فإلى جانب كونه فنانا فوتوغرافيا شغوفا بتعقب الآثار والظلال وذاكرات الأشخاص ،والأمكنة، عُرف عن بن اسماعيل، أيضا، هوسه الكبير بالتراث الغنائي الشعبي والموسيقات التقليدية المغربية، وبخاصة فن الملحون ؛ إن نبشا عن قصائده الغميسة أو مواكبة لرواده وأعلامه. وخلال العقود الثلاثة الأخيرة، يضيف عزيز أزغاي، برز اسمه كأحد أهم التشكيليين المغاربة المعاصرين، بالنظر إلى ما تعكسه أعماله التصويرية من طرافة وجدة
فمنذ معارضه الأولى في نهاية القرن الماضي، بدت لمسة بن اسماعيل الأسلوبية حريفة،
وتكاد تكون لوحة أحمد بن إسماعيل ذات ملامح وبصمة خاصتين في مدونة التصوير الصباغي المغربي المعاصر، سواء من حيث موضوعاتها أو بناءاتها الأسلوبية أو معجمها التلويني أو علاماتها الغرافيكية التشخيصية. إنها نسيج نفسها، وهو نسيج يسرب إلى عين
المتلقي النبيه الانطباع بأن الفنان لا يرسم ب “فصاحة”؛ أي وفق القواعد الفنية الأكاديمية المرعية ، بل ب دارجة تسرب إغراؤها الفني يبدو ذلك واضحا، من حيث الموضوع، عبر استثمار الفنان المخزون ذاكرته البصرية الشخصية بما انطبع فيها من أشكال هشة ومهملة
وهامشية، يقوم الفنان بإعطائها حياة جديدة في لوحته أحيانا تتبدى هذه الموتيفات البصرية في شكل رسمات تجسيدية غير مكتملة لقباب أو صومعات أو نباتات أو بنايات هلامية، أو في شكل أرقام ومعادلات وجمل وطلاسم غامضة غير مقروءة أحيانا أخرى، أو
مجرد خطوط وأشكال هندسية في أحايين أخرى كثيرة … على أن ما يعطي لمختلف هذه الأشكال والعلامات جاذبيتها التشكيلية، يرى عزيز أزغاي، هو تلك القدرة اللعبية التلقائية، التي تكشف عن جدية ومهارة الفنان الذي انتقاها من بين أخرى كثيرة، ووضعها حيث ينبغي لها ،أما على مستوى الاختيارات اللونية، يعمد بن إسماعيل إلى التماهي مع البساطة والتلقائية والمباشرة في التعامل مع مفردات هذا المعجم الثري، بل يبدو أقل حذرا واكتراثا لنتائجها النهائية. ومن ذلك، لجوؤه إلى المزج بين الحبريات والألوان المائية والزيتية
والأكليريك والأصباغ الطبيعية في بناء هرمونية اللوحة الواحدة.
الروائي يوسف فاضل عنون شهادته ب ” صندوق بن اسماعيل العجيب”،يقول فيها :” كان عند بن اسماعيل صندوق من الخشب اشتراه من جوطية الدار البيضاء. الخشب ظل مستقرا في ردهة البيت، عاريا مدة طويلة .
ثم فجأة بدأ يتلون كلما أطللت على درهة بيته أرى أن الخشب لم يعد نفس الخشب شيئا فشيئا تكسوه خيوط جديدة، تلتف حوله، تنسج حوله الثوب الملائم. الرجل الذي كان يتأبط آلة التصوير ويدور في أحياء المدينة ويلتقط صور العابرين وضع آلته لبعض الوقت. ربما إنه بدل التصوير كان يجمع الألوان”.
في رأسه ألوان وخيوط كانت تتحين الفرصة لتعبر عن نفسها. تنتظر الخشب الملائم لتضع عليه أشكالها وألوانها. وهذه الأشكال والألوان ، يضيف يوسف فاضل، لن تعرف أبدا متى اجتمعت واكتملت الأكيد أنها كانت في ذهن الرسام حتى قبل أن يعرف حتى قبل أن يدرك الرسام الذي سيكون .
ويضيف :” أراه يجمع الأشياء الصغيرة المرمية على قارعة الطريق. أراه يجرب مواد لا علاقة لها بالصباغة يخلط الزعفران والماء وحثالة البن وماء جافيل . وتتساءل ماذا سينتج عن كل هذا ؟ لا أحد يرد على هذا السؤال. عدا الصندوق الذي ينتظر في ردهة البيت .
والذي بدأت الألوان تسرح على ظهره . شيئا فشيئا .
مراکش مدينتي . وهي بالأساس مدينة والدتي. فيها ولدت وكبرت والتقت بالرجل الذي سيصبح والدي. هذا لأقول إنني أعرفها هذه المدينة. أعرف ألوانها. ألوان الأشياء التي لا تزول. ألوان الجدران والأبواب وزخارف السقوف والحروف التي تختفي لتظهر تحت طبقة من الطلاء القديم. ألوان جدور شجر الجوز. ألوان السمق والصلصال والزعفران. والجلد. وخشب العرعار. وهي
الألوان التي تملأ أمكنة بن اسماعيل الخيالية. والواقعية أيضا البيت وجدران المرسم وذاكرة الرسام والأزرق الذي يستعمل في لوحاته، يسمونه أزرق ماجوريل هل كان ماجوريل سيعثر عليه خارج مراكش؟”.
الألوان لا تأتي يرى يوسف فاضل، لأنك ترغب فيها. حتى لو رغبت فلن تحصل عليها. الألوان تأتي لأنها كانت هنا من قبل أن يفكر فيها . إنها لا تأتي الرسام هو الذي يسير إليها، لأنها ألون الطفولة وما قبل الطفولة. ألوان الأسوار والأقمشة المعلقة على دكاكين السمارين.
أضرحة الأولياء وبركتهم . واللون النحاسي لذلك الهدهد الذي يتمايل فوق رأس العطار كل الألوان التي اندثرت وبقيت عالقة في الذاكرة تنتظر من يحييها على القماش لتظهر جديدة مبتكرة لتبدو كأنها لم تغادرنا لحظة واحدة .
ويعتقد الروائي يوسف فاضل، أن أحمد بن اسماعيل، لا يزال يملك ذلك الصندوق . وأنه الآن عامر بكل الألوان والروائح السحرية التي التقطها خلال مسيرته الفنية الرائعة .
الناقد السينمائي محمد اشويكة ، يكتشف في أعمال الفنان أحمد بن اسماعيل الفوتوغرافية خيطا مشتركا يربط أجزاءها المختلفة كي يجعل منها عملا واحدا منسجما، وهو اختيار الفنان وانحيازه المقصود للتصوير بالأبيض والأسود، وهذا في حد ذاته ترميز مستقل أضف إلى ذلك ما يتعلق بتأكيداته الواضحة والمتكررة على قيمة الوسيط الفوتوغرافي على التأثير في مسألة التعبير الرمزي عن دفق الحياة وألقها الظاهر في علاقة الناس ببعضهم البعض وبأشيائهم الحميمة الدراجة. وهنا نود أن يفهم يقول محمد اشويكة، استخدام مفهومي الضرورة والطراوة في السياق الفوتوغرافي
الذي يضمن الإطار الأوسع للأفكار المرتبطة بهما في فوتوغرافيا الفنان أحمد بن اسماعيل وكذا في لوحاته الصباغية، وهو إطار يستمر فيه التفكير مع اعتبارات جمالية خاصة بما يحوم في سياق قوة التعبير عبر الآلة المصوّرة، فضلا عن حيوية التعبير بوصفه مجالا متميز لجدل الطراوة .
ويستحضر اشويكة، صور الفنان أحمد بن اسماعيل لحظات قوية من تلك القوة الطبيعية العظيمة التي تتمتع بها الحياة كي تصير طافحة التعبير والدلالة عبر هذه الميكانيزم الفوتوغرافي، ففي بعض الصور الفنية احتفاء كبير بالوحدة والصمت والخجل الإنساني والتحفظ الشخصي سواء كان مفروضا أم اختياريا، لكنه دال في الواقع أو مسطر لنوع من المسافة بين العمق الذي تتطلب فيه حياة الإنسان العادي للتعبير عما يخالجها في مختلف الوضعيات الحياتية، أي في حدود الوسائل العادية التي يجب أن تعبر هذه الحياة من خلالها عن نفسها، وما يمكن أن يرسمه الفنان إذا أراد أن ينقلها عبر الفوتوغرافيا إلى ما يريد هو أن يعبر عنه أو يرمز إليه، صراحة أم ضمنا .
تؤسس هذه الملاحظات للربط الحاصل بين الوسيط الفوتوغرافي وموضوعه كي تصير الصور متجاوزةً لشرنقة الواقع، مُشْرَئبة إلى انفتاحات الترميز والتعبير، خاصة وأن اللعب الفني بين مضايق الواقع ودينامية التعبير يقود نحو تحليل العلاقات المختلفة بين الصورة الفوتوغرافية لدى الفنان أحمد بن اسماعيل ودورها التمثيلي الصور المكرسة لفن الحلقة بساحة “جامع الفنا نموذجا)، تماما كما يمكن أن يحصل في السينما لأن الأهمية غير العادية لفردية جسد الممثل المصوّر يقول اشويكة، تصير ذات معنى مضاعف. تضفي الاحتمالات الخاصة بما يتيحه التصوير الفوتوغرافي للأشخاص العاديين في الحياة.
ويقر محمد اشويكة، أنا الفنان بن اسماعيل له إمكانيات تأويلية تتجاوز حقيقة قدرة الكاميرا على إضفاء الحيوية على التعبير عما لا يعبر عنه، ذلك أنها تلمح إلى المكانة الخاصة التي يحتلها الناس العاديون والمرتجلون والعفويون بوصفهم موضوعات فوتوغرافية، وكأن ما يصوره ،الفنان، ينبني على الاحتفاء بأصغر الإيماءات الإنسانية العفوية كي يتحول الصمت والسكون إلى مجالات ضاجة بالتعبير .
الناقد مصطفى النحال ركز في شهادته على أعمال الفنان أحمد بن اسماعيل من خلال رمزية الواقع .. وواقعية الرمز،ويرى أن أعمال الفنان أحمد بن اسماعيل الصباغية والفوتوغرافية، انشغلت بتقليب الحقيقة الفنية المنفلتة على أوجها الممكنة، وخصوصا وجهها الواقعي والرمزي، وكأن كلاهما قناعا للآخر، وذلك مع وجود فوارق متفاوتة بين العمل الفني الصباغي ونظيره الفوتوغرافي.
يحمل الفنان أحمد بن اسماعيل آلته المصورة، أو تحمله آلته المصورة، أينما حل وارتحل، فهي صديقه الحميم، إن لم نقل عينه الثالثة التي يرى من خلالها العالم ويرصد تحولات مراكش السائرة نحو أفق لا يمكن التكهن به بالنظر إلى الصور القديمة التي تحويها.
ألبومات الفنان المتراكمة بدءا من مسقط رأسه وحومته التي رأى فيها تموجات الظل والنور، وسحنات الناس، وتباينات الألوان المغـراء ،وأصوات المدينة، ودوائر الفرجة في ساحتها العظيمة.
تمكن بن اسماعيل يقول مصطفى النحال، من تحقيق تراكم بصري يحفظ للذاكرة الجمعية ، يشغل الهم التعبيري المُسْتَمَدِّ من الواقع في العمل الفوتوغرافي خطـا محـوريـا ، ذلك أمه لا يـقـف عـنـد عتبته، بل يجعله بؤرة ترميزية تجمع عدة موضوعات في صوره الفنية الأكثر انفتاحا وانتقاء من بورتريهات الناس إلى أشيائهم وأحوالهم، الأمر الذي يُثَوّرُ غنى التعبير الإنساني كما يتم عرضه عبر الفوتوغرافيا .
ويؤكد النحال، أن جل أعمال بن اسماعيل، تهتم بالحياة العادية مما يضفي عليها طابع الضرورة والطراوة بوصفهما تتحكمان في توليد التعبير عبر الصور، ومساعدة المتلقي على افتكاك صعوبات التفكير اللامرئية ، ذلك أن ما تصرح به الصور وتعنيه، لا يمكن أن تكون له أية سيطرة مباشرة وعميقة على ما يمكننا أن نعنيه في الواقع، وحده أسلوب التصوير يستطيع أن يساعد على خلق الدهشة الكاشفة لغموض الحياة عن طريق بلورة نوع من الجدل بين الواقع (واقـع الـصـورة)
والترميز (الواقع المتخيل ) . يتعمق هذا الموضوع في أعمال الفنان أحمد بن اسماعيل ضمن الشروط الخاصة لالتقاط الصور، أي تلك التي تجعل صُورَهُ مُعبّرة عن إحساس خاص أو فكرة معينة، والأخرى التي تقود التعبيرات المنبثقة عنها، معروفة ودالة لدى الآخرين ؛ فضلا عما يتم تطويره أثناء تحليلات الصور قصد استبطان التعبيرات الخبيئة أو المودعة فيها .
يكاد أحمد بن إسماعيل أن يقول لنا يضيف مصطفى النحال، إنّ الجميل، في الرسم كما في التصوير، يوجد هنا بالقرب منا ، يكفي فقط أن نكشف عنـه خـارج الحركات الفنية المدرسية أو التقليعات المستلبة .
في الـفــن كـمـا في الحياة ، يبـقـى مـولاي أحمد عفويا وبسيطاً. وتلك قوته التي لا تُقاوم، وهي قوة تعلمنا أن المدخل إلى الحداثة الفنية يمكنها كذلك أن تمر عبر التنقيب في الموروث الثقافي والحضاري المحلي. في الكثير من المرات التي نزور فيها مدينة مراكش، يأخذنـا بـن اسماعيل إلى فضاء جامع الفنا أو إلى أسوار وقصور المدينة العتيقة، والآلة في يده، لفَرَح طفولي كبير يبدو معه كأنه يزور معنـا هـذه الأمكنة، بأزمنتها ورمزياتها التاريخية للمرّة الأولى .
يحدثنا عن الحلقة اليوم بجامع الفنا، يقول النحال، لكنّه يستحضر في الوقت ذاتـه تـواريــخ وأسماء كل من عبروا هذا الفضاء الحكائي الذي تسمع مروياته المتراكمة مثل الطروس.
في الكتاب الذي جمعه مع الراحل إدمون عمران المليح ، تكاد صور أحمد بن اسماعيل تنطق دروب وأزقة المدينة العتيقة أرواح القدماء، ولا سيما درب سيدي سليمان الجزولي، أحد أولياء مدينة مراكش السبعة. في هذا الدرب يوضح الناقد مصطفى النحال، توجد المكتبة التراثية النفيسة وتوجد الأنفاس الصوفية التي جعلت إدمون يختار العبارة الجميلة “نور الظل”. وهو تعبير يصدق على فنّ مولاي أحمد برمته .
عبدالصمد الكباص يقول في شهادته، إنه عرف مولاي أحمد بن اسماعيل منذ بداية تسعينيات القرن الماضي . عرف فيه بالخصوص العين الفنية المبدعة تصويراً وتشكيلاً، لكن يضيف ، عرفت فيه إنساناً بقلب كبير يسعُ العالم. إخلاصه لمفهوم الصداقة قـدر إخلاصه لفنّه واختياراته وفضائه المراكشي بامتياز.
داخل أزقة ودروب وأحياء هذا الفضاء يتحرك برشاقة وآلته التصويرية في يده تتحرك بالأبيض والأسود . هو لا يلتقط صور الأصدقاء والكتاب والفنانين والأدباء من أجل التصوير فقط، بقدر ما يلتقطها بمحاذاة أو خلف فضاء له ذاكرة أو رمزية ثقافية أو تاريخية ليؤرّخ للإنسان والمكان واللحظة .
صوره، يرى الإعلامي والناقد عبدالصمد الكباص، لوحات فنية بامتياز.وفي الوقت الذي يرتبط فيه بالصور الفوتوغرافية في صيغتها اللونية الأولى، الصيغة الأصلية والأصيلة التي تذكرنا بما كان يُعرف في مدينة الدار البيضاء باسم استوديو ميها ، يرتبط في رسوماته ولوحاته الفنّيّة كذلك، بألوان وأشكال وموتيفات أصلية وتراثية ترتبط بما عاشـه ويعيشه يوميا داخل الفضاء المراكشي، إلى درجة يمكن القول معها، إن أحمد بن اسماعيل لا يرسم ولا يلون إلا ما يستشعره ويستحضره من خلال ذاكرته الفنية المحلية لكي يجعلنا نستشعر بدورنا ونستمتع بكل ما هو جميل وعميق في ثقافتنا المغربية .
ويكشف الكباص، أن الفنان بن اسماعيل يغرد بمفرده ، لذلك تراه دائماً بعيداً عن التحالفات الفنية والشللية الزائفة، بعيداً عن الخدع الفنية الزائفة، وبعيدا أيضًا عن كل أشكال الادعاءات الثقافوية التي تحتفل بالمفاهيم أكثر مما تحتفي بالفن التشكيلي.
الكاتب والشاعر حسن نجمي الذي عنون شهادته ب “أحمد بن إسماعيل .. شمس منتصف الليل التي توقظ الألوان وتكلم الصور”،يقول فيها ،إن أحمد بن اسماعيل سيظل اسما كبيرا في عالم الفن بالمغرب المعاصر. فهو فوتوغرافي كبير ، استعمل فن التصوير، بتمكن جمالي نادر، لتأجيج ذاكرة الحياة بمدينة مراكش بناسها و وجوهها و فضاءاتها .. وأظهر تملكا كبيرا لشعرية الأبيض والأسود، التي أثارت انتباه مثقفين كبار في العالم العربي كإدمون عمران المالح و أدونيس . وهو أيضا تشكيلي تقهر ألوانه وأشكاله ممانعة الزمن في الأشياء والكائنات .
ومن يذكر معرضه الذي شكل علامة فارقة في تاريخ الفن الفوتوغرافي المغربي، والذي حمل شعار آثار الليل،يقول حسن نجمي، يعرف جيدا القوة
الفنية التي يحتكم إليها أحمد بن اسماعيل كعين مبدعة، قادرة على ابتكار مواضيع جمالية، تخترق التاريخ بشكل عام، و تاریخ مراكش بشكل خاص، أي ذلك التاريخ الذي يعبر سريعا، فيرتسم في الوجوه والشوارع والأزقة و الجدران .
و هكذا نعثر يضيف نجمي في شهادته، في أرشيفه الفوتوغرافي الهائل على سيرة مراكش الخفية، التي هي رغم أنها كانت تحت العين مباشرة قلما كانت تُرى إلا
من خلال عين مبدعة ذات نظرة حادة تستطيع أن تنفذ إلى جوهر الأشياء لتنتزع منها الحدث في تجليه الأقصى.
أحمد بن اسماعيل أيضا، يقول حسن نجمي، هو هذا الإدراك الشفاف لندرة الحاضر. فهو يعكس في تعامله الفوتوغرافي ومعالجاته الفنية في التصوير،
وعيا حادا بأن الحاضر ليس متوفرا بالدرجة التي نتوهم، إنه شيء يلمع كالبرق يظهر ويزول بسرعة، وأننا في حاجة إلى ملكة فنية أقوى للقبض عليه في تجليه النادر الموسوم بقوة التحول نلمس ذلك في صوره لساحة جامع الفنا في السبعينات والثمانينات و التسعينات من القرن الماضي ، و في العقدين الأولين من القرن الحالي و التي نستخلص منها أن وحده الاسم هو ما تبقى من الساحة، وهكذا نكتشف أن بن اسماعيل بقدر ما هو وفي لروح الفن و مطالبه في أعماله الفوتوغرافية، كان يعمل لحساب التاريخ والذاكرة، ويعاند النسيان و يتصدى للسهو الذي قد يصيبنا بالعماء في علاقتنا بالمكان الذي نألف وبالحياة.

هناك تتبع ذكي للرمزيات والتكوينات والموتيفات والتفاصيل التي تعبر عن مدينة وتاريخ وحضارة وثقافة وحضور إنساني.
كان أحمد بن اسماعيل يقول نجمي، صيّاد فراشات ملونة، لا يترك شاردة أو واردة في مراكش إلا ويستضيفها في أرشيفه البصري، ويجعلها جزءا من رصيد مراكش.
تاريخ كامل من الصداقات والوجوه الشعبية والثقافية والفنية والأدبية . لقد كان من حظ مراكش أن قيض لها فنانون فوتوغرافيون رائعون من أمثال داوود أولاد السيد عبد الرزاق بن شعبان، رشید بنداود، حسن ندیم ، مولاي عبد الله العلوي، وعبد الستار الغَوّاتُ لكي لا أنسى فنانا فوتوغرافيا جاء من استوديو الحي إلى الصورة الجمالية .
والواقع يؤكد حسن نجمي، أن هؤلاء الفنانين بالخصوص أنقذوا المشهد البصري في مراكش من “الإيكزوتيك” الغربي والنظرة البرانية وذهنية “الكارت بوسطال” الكولونيالية التي بقيت معششة (ربما ، لا تزال) في الفضاء الفوتوغرافي السائد في مراكش، وفي بعض المخيلات الرئة غير القابلة للتطور .
وإلى الآن يتذكر نجمي، الآلة الفوتوغرافية الأولى التي اقتناها بن اسماعيل من المخرج السينمائي الراحل سي محمد الركاب بمبلغ 2200 درهم ؛ لم یكن مبلغا بسيطا آنذاك) .
مازلتُ يقول الشاعر والروائي حسن نجمي، أستعيد أيامنا في الدار البيضاء يوم كان سي أحمد أستاذ السلك الثاني في ثانوية الإمام مالك ،حيث كان عدد من الأصدقاء يشتغلون معه ويشتغل معهم أذكـر مـن بينهم الشاعر محمد عنيبة الحمري ، والمسرحي والروائي يوسف فاضل والروائي إبراهيم مدران . ولن أنسى أبدا جلساتنا في مقهى ابـن بطوطة حيث كان يتردد على المقهى الشاعر عبد الله راجع، والشاعر عبد الله زريقة والشاعر أحمد بركات بل وتردّد علينا هناك مرة على الأقل الشاعر الكبير أدونيس بمعية الشاعر محمد بنيس . كما كان يتردد علينا هناك إخوتنا من الشعراء والكتاب العرب، خصوصا أشقاءنا الشعراء والكتاب العُمانيين عبد لله الريامي ،، محمد الحارثي، محمود الرحبي . هناك كان سي أحمد في خطواته الفوتوغرافية الأولى. ومن هناك انطلق مشروعه.
لم يبدأ بن اسماعيل، تقول الشهادة من الصفر. كان له رصيده المرجعي في مراكش في بيت العائلة حيث كان يترعرع في حضن والده الفقيه سي عمر بن اسماعيل، ويخطو خطوته الأولى تحت النظرة الفاحصة لشقيقه الكاتب والمناضل اليساري الشهيد عزيز اسماعيل (1948- اغتيل في أبريل (1982). كما أن الحارة كانت ملاذا ومرجعا في حد ذاتها على بعد خطوات من ضريح سيدي بن سليمان الجزولي. هذا فضلا عن ساحة جامع الفنا التي تمثل مدرسة حياة مفتوحة عبر امتداد الأيام والفصول. وثمة صداقات تركت أوشامها في ذاكرة وتكوين بن اسماعيل . ثمة أسوار وأضرحة ومزارات ومواقع وساحات وصوامع وأبـواب وحدائق ودروب وأزقة وفنادق وحرف وأسماء ووجوه . ثمة كتاب وشعراء ومؤرخون وفنانون كثر في رأس بن اسماعيل . ثمة كتب ومخطوطات وقصص وحكايات تتردد على لسانه، وفي لغته، وروحه وكيانه.
وإلى اليوم، لا يمكنني أن أزور مراكش دون أن ألتقي أحمد بن اسماعيل . كما لا يمكنني أن أتسلل إلى الزمن المراكشي بدون المرور من خلال مصفاة التاريخ وعبر المسالك الفوتوغرافية لسي أحمد ولزملائه الفوتوغرافيين الموهوبين الآخرين. وبالتأكيـد مـا مـن عُبور إلى مراكش دون استئناس بكتابات إلياس كانيتي وكلود أوليي وخوان غويتيصولو ولوكليزيو دون أن أنسى كتابات رائعة لأصدقائي شعراء وكتاب مراكش… ومثقفيها ومناضليها وشهودها الأحياء في الحلقة، في الرواية، في القصة القصيرة في المسرحية في الأغنية في اللوحة في الفيلم وفي اليد الماهرة التي تصنع الحياة في مراكش في المغرب وفي العالم.
سلاما ، أحمد بن اسماعيل ، صديقي الرائع –
طوبى لك بمراكش، وطوبى لمراكش بك يا صديقي.


الكاتب : جلال كندالي

  

بتاريخ : 03/02/2025