أحمد حبصاين: أستاذ الأجيال والعالِم الموسيقي والإنسان

 

ينتمي أستاذ الأجيال المايسترو المغربي أحمد حبصاين إلى جيل ما بعد الرواد للتدريس والتأليف بمجال الموسيقى الغربية؛ وهو الباحث الحامل لمشروع موسيقي يُدين بالوضوح والتأصيل الجديد للقيثارة من داخل التراث الموسيقي الغربي المتنوع والمتعدد. لا شك أن هذا المشروع ينقلنا لا محالة إلى عوالم ممتعة ومفيدة، تُقيم للمسافر رفقتها المسكن والملبس والزاد لمواصلة الحياة ولاستمرارية العيش داخل مناخ الثقافة العالمية، وما تزخر به هذه الثقافة من إنتاجات موسيقية قائمة الذات، ومُوغلةٍ في تاريخ عريق نكتشف فيها: التمثلات الاجتماعية عند الإنسان، نظرته لبيئته، نمط تفكيره، احتفالاته، معارفه، حياته اليومية، عواطفه…، وسائر إنتاجاته الإبداعية الشاهدة على عصره.
لذلك فإن المشروع الموسيقي لأحمد حبصاين يتأطر ضمن التيار التجديدي للقيثارة الكلاسيكية في تنوع أساليب العزف عليها وتعدد طرائق أدائها؛ إنْ على مستوى القيثارة الأكاديمية وديداكتيك تدريسها، أو على مستوى تطلعات التأليف والكتابة لعدد من القطع الموسيقية والمؤلفات التي تُعنى بهذا المجال. فضلا عن تأليفه لعدد من الأعمال الموسيقية لشعراء وتشكيليين في محاولة دؤوبة لربط الشعر والتشكيل بجذورهما اللحنية الموسيقية. كما تحضرنا هاهنا جهوده العلمية المُثمرة في مجال العلاج النفسي من خلاله أبحاثه المتميِّزة التي تروم الربط بين علم النفس والموسيقى. وهي أبحاث تجريبية تهدف إلى معرفة التأثير الموسيقي على الشخصية، باستقراء الفرضية القائلة: “إلى أي مدى يمكن تغيير النظرة السلبية عن الذات بأخرى إيجابية، يمكن للموسيقى أن تساهم في بنائها معرفيا وسلوكيا”. وأيضا رسوماته لأغلفة إصداراته، وللطبيعة الحية والميتة، بطريقة تعبيرية خاصة ومتفردة نكتشف فيها أحمد الفنان التشكيلي. وهو الشاعر الذي يُعبِّر عن أحاسيسه ووجدانه بلسان قشتالي قوامه بساطة التعبير وعمق الصور الشعرية.
تتسم الشخصية العلمية لأحمد حبصاين بالطابع المُنبسط والمنفتح على جماع من الثقافات الإنسانية ذات الميزة الخاصة في التعاطي مع مختلف الوضعيات والقضايا المعرفية. إنّها شخصية يسكنها روح الولع والافتتان بالمناخ الثقافي والحضاري العربي عامة والمغربي على وجه الخصوص. ونلمس ذلك من خلال حبّه لمدينته ومسقط رأسه تطوان التي ظلت في خاطره وعلى محياه، وفي صميم وجدانه وتمثلاته. فقد وجد في رحاب المعهد الموسيقي بهذه المدينة الأنموذج الأسمى لتكوينه العلمي والأكاديمي المتين، بالإضافة إلى سفرياته العلمية والأكاديمية إلى إسبانيا. وهي سفريات أعطتْ أكلها وثمارها لكي تسري في ينابيع مشروعه الموسيقي الذي أكمله بالطريقة التي يرتضيها ويحبها في بلده المغرب.
ذلك أن علم الموسيقى عنده لا يستقيم إلا بتجديد تقنيات البحث فيه، وباستطراد المناهج الجديدة والمقاربات الموسّعة التي من شأنها أن تعانق جمالية معزوفاته. ويمكن أن نفترض هاهنا أن علم الموسيقى شبيه بصندوق تراثي أرابيسكي يوجد بداخله الكثير من الأشياء القديمة التي تدفع العالِم الموسيقي إلى البدء بعملية نفض الغبار عنها، ومحاولة تلمس مكوناتها النفيسة والموغلة في العتاقة. ثم إن هناك أشياء أخرى مُحدثة تتخذ طابع التجديد توجد داخل الصندوق، ليقع التفاعل عند كل محاولة إدخال أو إخراج، فنسمع في معزوفاته ألحانا تعود بنا إلى تاريخ الإنسان وحضاراته: مقطوعات على المقامات الغربية، وسوناتات، وألحان قشتالية، ونغمات تَمْتَحُ من الروح الأندلسية، وأخرى  من التراثات العالمية. وننتقل معها إلى تاريخ العِلم الموسيقي وفلسفته، فنعيد التعرُّف على عالَم الذين سبقونا بكل دقته وقوته، وبتعدد دلالاته ومعانيه.
ونجد أيضا داخل هذا الصندوق روح الموسيقى الإنسانية والكونية التي تحيا داخله وتؤثث لمختلف العلاقات الرابطة بين المكونات والعناصر. لقد أخرج لنا أحمد حبصاين من داخل هذا الصندوق معزوفاته الأولى، مقالاته عن تاريخ الموسيقي الغربية، وإسهاماته في مجال التأليف لديداكتيك القيثارة: نغمات أندلسية، ميلوديات، أنشودات القيثارة، ومعزوفات: “ذكريات الأندلس Al-Andalus -Recuerdos”   التي ألّفها أستاذه العالِم الموسيقي مصطفى عائشة الرحماني، حيث أقام فيها موازنة بديعة بين غرناطة وتطوان في حوار فني آخذ وممتع، ومن بين فقراتها اللحنية نجد: لحظات حبّ على ضفاف نهر دارُّوMomentos de amor a las orillas del Darro ، عربي-أندلسي، تطوان، رحلة على ضفاف نهر المحنش Excursion a las orillas del Mehannech ، بعد الظهر في البستان، ملتقى رياض العشاق، النافورة، وثلاثة أرابيسك…
نعم! هو الأستاذ الذي ساهم في تكوين أجيال من طلاب القيثارة وأساتيذها وعازفيها بسلك الدراسات الأساسية بالمعهد الموسيقي بشفشاون وبطنجة وتطوانّ؛ وأيضا بسلك الدراسات العليا من خلال الماستر كلاس الذي أشرف عليه. وقد عُرف المايسترو أحمد حبصاين بصرامته العلمية وبحرصه الشديد على أخلاقيات الممارسة الأكاديمية للقيثارة الغربية.
ويظهر هذا الحرص في تأطيره لطلابه الذين أضاء عقولهم بالفن الجميل وعلمه لهم، فصاروا يهدون العالَم. وكذلك في اشتغاله مع جمعيات المجتمع المدني، وبتأسيسه رفقة صديقه الأستاذ والباحث محمد الخشين، وبمعية ثلة من الأساتيذ والمثقفين والفنانين بتطوان: “الجمعية الدولية لأصدقاء مصطفى عائشة الرحماني”.
أحمد حبصاين إنسان بما تحمل الكلمة من معنى. فمن شيمه حبُّ طُلابه، وهذا الحبُّ نابع من روحه، فهو لا يعطي المعرفة الموسيقية دون أن تكون متصلة بروحه وبشيء من ذاته وشخصيته، وأيضا من صراحته التي إن أراد إخفاءها فهي تفضحه، حتى وإنْ كان الظاهر هو خجله،  فهو خجل يكشف لنا عن قمة تواضعه.
وعزم أحمد حبصاين هو أكبر عامل يقوم عليه نجاحه في مشروعه الموسيقي، وقد شاهد هذا طلابه ولمسوه عن قرب في قوته على فتح باب العلم الموسيقي لهم، كالمشاركة في الأمسيات الثقافية، وفي اللقاءات، والملتقيات، والأنشطة الثقافية… إنه عزم لا يرده راد ولا يثنيه ثان، فقد تمثل بجلاء في سيره قدما على نهج أستاذه مصطفى عائشة الرحماني لتحقيق غايات القيثارة الأكاديمية التي لا تعرف معه للفشل ماهية ولا لليأس انهزاما، وقد تبدى ذلك في مدى قدرته على شرح وتفسير دلالات النوتة ومعانيها لحنا ونغمة وإيقاعا قبل تقديمها لجمهوره. إنّ القيثارة عنده تعني المقاومة والبحث عن إمكانيات التجديد من داخل نسقها العام بوصفه تقليدا موسيقيا اتكأت عليه العديد من الممارسات الفنية. أما حزم أحمد حبصاين فيتجلى في مدى ضبطه لمنهاجه في العزف بكل ثقة لكي ينسجم مع جديد فتوحاته الفنية الموسيقية التي لا تكتمل إلا بعد تثبيتها واستيثاقها ضمن خيطها الناظم، ووَفق المسعى الذي يبتغيه لها.


الكاتب : د. محمد الشاوي

  

بتاريخ : 06/10/2022