يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن، غربته الكبرى بين قيم التنوير وما يتأسس عليه وجوده وهويته الحضارية. ذلك أن الغرب أصبح، مع ما جرى خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما يجري الآن في غزة، وفي أكثر من بقعة على خارطة العالم، محلَّ تساؤلٍ مريب، بالنظر إى ازدواجيته الأخلاقية هو الذي يقدم نفسه بوصفه «التعبير الأرقى عن الكمال التاريخي للبشرية». بل إن عقل الغرب، كما يقول المفكر محمود حيدر، ينظر إلى التنوع الثقافي أو الحضاري «كَقَدَرٍ مذموم لا ينبغي الركون إليه. ومن هناك جاء التغاضي عن الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب هنا وهناك، وعلى رأسها ما يجري الآن للفلسطينيين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي المدعومة بالفيتو والسلاح الأمريكيين..
ترى حنة آرندت أن سبينوزا «ظل يعتقد بعصمة العقل الإنساني وكثيراً ما يمدحه لكن دون وجه حق كأحد أبطال حرية الفكر والكلمة يقول: «إنّ كل إنسان وبحسب الحق الطبيعي الذي لا يمكن إلغاؤه سيد على أفكاره»، وكذلك يقول: «إنّ فهم الإنسان مسألة تعود إليه، والعقول متباينة بقدر ما الأذواق متباينة»، وهي العبارة التي استنتج منها: «من الأفضل إعطاء الإنسان ما لا يمكن حرمانه منه»، وأنّ القوانين التي تحجر الفكر الحر لا يمكن لها إلاّ أن تتسبب في «تفكير الناس بشيء ما وقول شيء مختلف تماماً» وبذلك «تفسد حسن الثقة» و «تشجع… الغش».
ومع ذلك تستدرك الفيلسوفة الألمانية قائلة إن «سبينوزا لا يطالب بحرية الكلمة في أي من أعماله، والقول بأنّ العقل الإنساني يحتاج إلى التواصل مع العقول الأخرى، وبذلك يحتاج إلى تعميم أفكاره لتلك الغاية، لا معنى له في غياب حرية الكلام هذه. بل نراه يدرج حاجة الإنسان للتواصل وعدم قدرته على إخفاء أفكاره والحفاظ على صمته من بين «جوانب العجز العامة» التي لا يشاركها الفيلسوف مع غيره من الناس.
وتذهب آرندت إلى أن «رأي كانط هو العكس التام لرأي سبينوزا، فقد صرح قائلاً: «إن القوة الخارجية التي تحرم الإنسان من حرية إيصال أفكاره إلى العموم تحرمه في الوقت ذاته من حرية التفكير»، وأنّ الضمانة الوحيدة لصحة تفكيرنا هو أن «نفكر ضمن مجتمع نوصل فيه أفكارنا إلى الآخرين كما يوصلون هم أفكارهم إلينا »، ولما كان عقل الإنسان عند كانط غير معصوم فلا يمكنه أن يؤدي وظيفته إلاّ إذا «استخدم في إطار عام»، وينطبق هذا على الجميع سواء كانوا في حالة من «التعلّم» لأنّهم لا يزالون غير قادرين على استخدام عقولهم «دون إرشاد من الآخرين»، أو كانوا «علماء » يحتاجون إلى مشاركة «كامل الجمهور القرّاء » لتفحص نتائجهم والسيطرة عليها.
لمسألة أعداد العقول التي طرحها ماديسون وذكرناها قبل قليل وكما سنبينها الآن أهمية خاصة في هذا السياق، إذ إنّ الانتقال من الحقيقة العقلية إلى الرأي تتضمن الانتقال من الإنسان المنفرد إلى الإنسانية جمعاء، وهذا كما قال ماديسون يعني التحول من المجال الذي لا يهم فيه أي شيء إلاّ «متانة المنطق » التي يبنيها عقل واحد إلى عالم تتحدد فيه «قوة الرأي » من خلال اعتماد الفرد على «عدد الناس الذين يفترض أنهم يشاركوه في آراءه » وهذا العدد بالمناسبة قد لا يكون محصوراً بمعاصري صاحب الرأي. احتفظ ماديسون بالتفرقة بين الحياة الجماعية التي هي حياة المواطن وحياة الفيلسوف الذي «عليه ألاّ يلتفت » إلى هذه الاعتبارات، ولكن لا نتيجة عملية لهذا التمييز بالنسبة إلى ماديسون لأنّه «من غير المتوقع قيام أمة من الفلاسفة كما لم يكن من المتوقع أن يبرز عرق الملوك الفلاسفة الذي تمنى أفلاطون قيامه ». لكن علينا أن ندلي بملاحظة عابرة هنا وهي أنّ أفلاطون كان سيجد فكرة «أمة من الفلاسفة » مصطلحاً متناقضاً إذ إنّ فلسفته السياسية برمتها ، بما في ذلك بعض سماتها الاستبدادية الصريحة كانت قائمة على قناعته بأنّ الحقيقة لا يمكن لعامة الناس أن يحظوا بها أو أن تعطى إليهم.
لقد زالت آخر بقايا العداء القديم بين الحقيقة الفلسفية والآراء «المتداولة في السوق» في زماننا المعاصر الذي نعيش فيه، فلم تعد الحقيقة التي يحتوي عليها الدين والتي تعامل معها المفكرون السياسيون في القرن الثامن عشر كمصدر إزعاج كبير ولا الحقيقة الفلسفية التي تنجلي للإنسان في وحدة خلوته تتداخلان مع شؤون العالم، وبالنسبة إلى الحقيقة الأولى فقد أدى الفصل بين الكنيسة والدولة إلى زوال «مصدر الإزعاج» الذي أقضّ مضاجع مفكري القرن الثامن عشر، أمّا بالنسبة إلى الحقيقة الفلسفية فقد توقفت عن الزعم ب أنّها تقدم حقائق مطلقة قبل زمن بعيد اللهم إلّا إذا اعتبرنا الأيديولوجيات الحديثة فلسفات جدية وهو أمر يصعب علينا القيام به بما أن أتباع هذه الأيديولوجيات أنفسهم يقولون بصراحة أنّهم يستخدمونها كأسلحة سياسية ولا يرون في مسألة الحقيقة والصدق أهمية تذكر. إذا ما رأينا حالة الأمور الراهنة، فلربما نشعر بأنّ الصراع القديم قد وضع أوزاره أخيراً، وخاصة وأن السبب الأصلي لحصوله أي الصدام بين الحقيقة العقلية والرأي الشخصي قد زال عن الوجود.